بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
{قُلْ} يا محمد لبني إسرائيل الذين ادعوا أن الجنة خاصة بهم {إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ} وجمهور المفسرين أن الدار الآخرة «الجنة»، قالوا: وذلك معهود في إطلاقها على الجنة. قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ومعلوم أن ما يجعل لهؤلاء هو الجنة، وقال تعالى: {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ}[الأنعام:23]
{عِندَ اللّهِ} في حكم الله، أو في غيبه {خَالِصَةً} مختصة بكم، لا حظ في نعيمها لغيركم {مِّن دُونِ} سائر {النَّاسِ} وذلك أن اليهود ادعوا دعاوى باطلة مثل قولهم: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة:80] {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}[المائدة:18]، فكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال:
{فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ} تمنوه بقلوبكم واسألوه بألسنتكم، لأن من علم أن الجنة مأواه حن إليها ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم أن الجنة لكم دون غيركم.
وعلق تمنيهم على شرط مفقود، وهو كونهم صادقين، وليسوا بصادقين في أن الجنة خالصة لهم دون الناس، فلا يقع التمني: والمقصود من ذلك التحدي وإظهار كذبهم، وذلك أن من أيقن أنه من أهل الجنة، اختار أن ينتقل إليها، وأن يخلص من المقام في دار الأكدار، وأن يصل إلى دار القرار.
كما روي عمن شهد لهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالجنة، كعثمان، وعليّ، وعمار، وحذيفة، أنهم كانوا يختارون الموت، وكذلك الصحابة كانت تختار الشهادة.
وفي البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ) وذلك لما علم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من فضل الشهادة.
وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: " حَبِيبٌ جَاءَ عَلَى فَاقَة، لاَ أَفْلَحَ مَنْ نَدِم".
وعن عمار، لما كان بصفين قال: "غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه".
وعن عليّ أنه كان يطوف بين الصفين بغِلالة [كساء]، فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزيّ المحاربين، فقال: يا بنيّ لا يبالي أبوك، أعلى الموت سقط، أم عليه سقط الموت.
وكان عبد الله بن رواحة ينشد، وهو يقاتل الروم:
يا حبذا الجنة واقترابها . . . طيبة وبارد شرابها.. والروم روم قد دنا عذابها
وفي قصتي قتل عثمان بن عفان وسعيد بن جبير ما يدل على اختيارهما الشهادة، وذلك أن عثمان جاءه جماعة من الصحابة فقالوا له: نقاتل عنك؟ فقال لهم: لا، وكان له قريب من ألف عبد، فشهروا سيوفهم لما هجم عليهم، فقال: من أغمد سيفه فهو حرّ. فصبر حتى قتل.
وأما سعيد، فإن الموكلين به، لما طلبه الحجاج، وشاهدوا من لياذ السباع به وتمسحها به، قالوا: لا ندخل في إراقة دم هذا الرجل الصالح، قالوا له: طلبك ليقتلك، فاذهب حيث شئت، ونحن نكون فداء. فقال: لا والله، إني سألت ربي الشهادة، وقد رزقنيها، والله لا برحت.
{وَلَن} تدل على النفي المؤبد {يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} تأكيدا للنفي الأول أتبعه تأكيد آخر بذكر السبب ألا وهو ما قدمت أيديهم.
وفي سورة الجمعة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة:6-7]
وإنما قال هنا: {ولن يتمنوه}، وفي سورة الجمعة {ولا يتمنونه} لأن دعواهم هنا [وهو أن تكون لهم الدار الآخرة من دون الناس] أعظم من دعواهم هناك [الزعم بأنهم من أولياء الله من دون الناس]، لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية، لأن الثانية تراد لحصول الأولى، و «لن» أبلغ في النفي من «لا»، فجعلها للنفي الأعظم.
وقال الماتريدي ما ملخصه: أن المؤمن يقول: إن الجنة له، ومع ذلك ليس يتمنى الموت.
وأجاب: بأنه لم يجعل لنفسه من المنزلة عند الله من ادعاء بنوّة ومحبة من الله لهم ما جعلته اليهود، لأن جميع المؤمنين -غير الأنبياء- لا يزول عنهم خوف الخاتمة.والخاطىء منهم مفتقر إلى زمان يتدارك فيه تكفير خطئه.فلذلك لم يتمن المؤمنون الموت.
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بسبب ما قدمت أيديهم، وهذا من المعجزات، لأنه إخبار بالغيب، ونظيره من الإخبار بالمغيب قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} [البقرة:24]
وهذا نظير قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ ما قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران:181-182]
ومن الذي قدمته أيديهم: تكذيبهم الأنبياء، وقتلهم إياهم، وقولهم: {أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً} [النساء:153]، وقولهم: {اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً} [الأعراف:138] وقولهم: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] واعتداؤهم في السبت، وسائر الكبائر التي لم تصدر من أمة قبلهم ولا بعدهم.
ونسب التقديم لليد مجازاً، والمعنى بما قدّموه، إذ كانت اليد أكثر الجوارح تصرفاً في الخير والشر. وكثر هذا الاستعمال في القرآن الكريم: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [الحج:10] {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران:182] {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30] وقيل: المراد اليد حقيقة هنا، والذي قدّمته أيديهم هو تغيير صفة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكان ذلك بكتابة أيديهم.
{وَاللّهُ} صدر لفظ الجلالة إظهارا للهيبة والرهبة {عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} جملة خبرية معناها التهديد والوعيد، وإلا فعلم الله متعلق بالظالم وغير الظالم. وفيه جواز تخصيص العموم لغرض كالتهديد والوعيد.
وإنما ذكر الظالمين، لأن الظلم هو تجاوز ما حدّ الله تعالى، ولا شيء أبلغ في التعدّي من ادعاء خلوص الجنة لمن لم يتلبس بشيء من مقتضاتها، وانفراده بذلك دون الناس.
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ} اليهود {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} التنكير لتعميم معاني الحياة، والمعنى على أي حياة كانت مدتها أو صورتها، سواء كانت حياة ذل أم كانت حياة عز، وسواء كانت حياة استعباد أم كانت حياة حرية، وسواء أكانت تحكمها الفضيلة أم كانت تحكمها الرذيلة، إنهم يحرصون على الحياة ذاتها من غير نظر إلى وصفها سواء أكانت مقيتة في ذاتها، أم كانت بكرامة من غير مهانة. وإن هذا يدل على كمال الحرص.
{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} وأحرص من الذين أشركوا، يعني: اليهود أحرص من المشركين على الرغم من أن اليهود أهل كتاب يؤمنون بالبعث وبالجنة وبالنار؛ والمشركون لا يؤمنون بذلك، والذي لا يؤمن بالبعث يصير أحرص الناس على حياة؛ لأنه يرى أنه إذا مات انتهى أمره، ولا يعود؛ فتجده يحرص على هذه الحياة التي يرى أنها هي رأس ماله.
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} لو يزاد في عمره {أَلْفَ سَنَةٍ} كناية عن الزمان الطويل، وقيل: ذكر ألف عام لأنه كان أكبر عدد في زعمهم.. طلب أعرابي عطاء من حاكم من حكام بني أمية، فأعطاه ألفا، فقال له قائل: لو طلبت أكثر من ألف لأعطاك، فقال: لو كنت أعلم أن فوق الألف عددًا لطلبته، فالألف كناية عن أكبر عدد.
{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} بدافعه ومانعه، والزحزحة الإبعاد أو الإزالة، وهي تدل على المعاناة في الإبعاد والإخراج من المكان الذي حل فيه {مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} وفيه أن طول العمر لا يفيد المرء شيئاً إذا كان في معصية الله تعالى، وغَوْرُ فهم السلف حين كرهوا أن يُدْعَى للإنسان بالبقاء؛ فإن الإمام أحمد كره أن يقول للإنسان: "أطال الله بقاءك"؛ لأن طول البقاء قد ينفع، وقد يضر؛ إذاً الطريق السليم أن تقول: "أطال الله بقاءك على طاعة الله"، أو نحو ذلك {وَاللّهُ بَصِيرٌ} عالم علم من يبصر {بِمَا يَعْمَلُونَ}
~