لا يسبقك إلى الله أحد
الحمد الله الذي جعل الدنيا للآخرة دار ممر، وادخر لعباده المتقين خير مستقر، لا مؤخر لما قدّم ولا مقدّم لما أخّر، وصلى الله وسلم على صاحب الجبين الأنور، والوجه الأزهر، والبيان الأظهر محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم على الأثر، أما بعد:
أيها المسلم الكريم: قال الإمام الغزالي - رحمه الله -: " تأمل الآن في غرف الجنة، واختلاف درجات العلو فيها؛ فإن الآخرة أكبر درجات، وأكبر تفضيلاً، وكما أن بين الناس في الطاعات الظاهرة، والأخلاق الباطنة المحمودة؛ تفاوتاً ظاهراً، فكذلك فيما يجازون به تفاوت ظاهر، فإن كنتَ تطلب أعلى الدرجات فاجتهد أن لا يسبقك أحد بطاعة الله - تعالى -، فقد أمرك الله بالمسابقة والمنافسة فيها فقال - تعالى -: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ }(سورة الحديد :21)، وقال - تعالى -: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(سورة المطففين :26) (إحياء علوم الدين :4/537).
انظر أيها المسلم الموفق إلى الصحابة الكرام وكيف كان سباقهم إلى الله، وتنافسهم على طاعته؛ لعل في ذلك شحذ لهممنا حتى نلحق بركبهم ما استطعنا، أو نشم غبار خيولهم، ونشاهد مواطئ أقدامهم:
فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقتُه يوماً!، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أبقيت لأهلك"؟ قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر - رضي الله عنه - بكل ما عنده، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أبقيت لأهلك"؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً"(أبو داود، وحسنه الألباني في صحيح أبي داوود).
سابق إلى جناتِ عدنٍ قد بدتْ أزهارُها بغرائبٍ خيرَ لباسِ
سَكِرَتْ قدودُ غصونِها فتَرنّمَتْ وُرْقُ الحمامِ بأطيبِ الأنفاسِ
"وعن الأغر (أغر مزينة) - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر لي بجريب - وفي رواية (جزء) - من تمر عند رجل من الأنصار، فمطلني به، فكلمت فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اغد يا أبا بكر فخذ له تمره"، فوعدني أبو بكر المسجد إذا صلينا الصبح، فوجدته حيث وعدني، فانطلقنا فكلما رأى أبا بكر رجل من بعيد سلم عليه، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: أما ترى ما يصيب القوم عليك من الفضل، لا يسبقك إلى السلام أحد، فكنا إذا طلع الرجل من بعيد بادرناه بالسلام قبل أن يسلم علينا"(الطبراني في الكبير وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
أرأيت؛ إنه السباق أيها المسلم، وهذه الدنيا هي مضمار السباق إلى الواحد الديان، و"السابقون من الرجال قلائلُ".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يدخل الجنة من أمتي زمرة هي سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر"، فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نَمِرة عليه(بردة من صوف يلبسها الأعراب، فيها تخطيط من سواد وبياض) قال: ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم، فقال: "اللهم اجعله منهم"، ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبقك عكاشة".(البخاري ومسلم واللفظ للبخاري).
يتسابقون إلى منازلها العلى يتفيأون الخير والإنعاما
وعن أبى هريرة (وهذا حديث قتيبة) أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال "وما ذاك؟" قالوا: يصلون كما نصلى، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة"، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"(البخاري ومسلم واللفظ له).
إنه السباق إلى الخيرات أيها المسلمون، إنه التنافس لرفع الدرجات، ونيل البركات من رب البريات، فأين هؤلاء المتسابقون على حطام الدنيا، المتقاتلون على زخرفها، المتهافتون على زينتها، الذين يقتل الأخ منهم أخاه من أجل درهم، ويغتابه من أجل سبة أو كلمة جارحة، وتقوم المشاكل الكبيرة، والمحاكمات العريضة، وما يكون فيها من ضياع الأوقات، وتصرم الأعمار، والقيل والقال؛ بسبب - مثلاً - أن فلانا أهانني بكلمة، أولم يبتسم في وجهي، أو غير ذلك من الأسباب التافهة التي تدل على تفاهة صاحبها، وأنه لا يهمه إلا أمر الدنيا، ونعيم الدنيا، وراحة الدنيا! نقول: أين هؤلاء ممن تسابق إلى جنات النعيم، ومرضاة رب العالمين؟.
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال في دبر صلاة الغداة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير مئة مرة وهو ثان رجليه؛ كان يومئذ أفضل أهل الأرض عملاً، إلا من قال مثل ما قال، أو زاد على ما قال". (الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني).
قال ابن القيم - رحمه الله - في فوائد الذكر: "إن عُمّال الآخرة كلهم في مضمار السباق، والذاكرون هم أسبقهم في ذلك المضمار، ولكن القترة والغبار يمنع من رؤية سبقهم، فإذا انجلى الغبار وانكشف رآهم الناس وقد حازوا قصب السبق، قال الوليد بن مسلم: قال محمد بن عجلان: سمعت عمرو مولى غفرة يقول: إذا انكشف الغطاء للناس يوم القيامة عن ثواب أعمالهم لم يروا عملاً أفضل ثواباً من الذكر، فيتحسر عند ذلك أقوام فيقولون: ما كان شيء أيسر علينا من الذكر، وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سيروا...سبق المفردون" قال: "الذاكرون الله كثيراً والذاكرات"(رواه مسلم)، (الوابل الصيب: 1/106).
فارفع همتك أيها المسلم، وكن من أول الناس في فعل الخيرات، وبذل الطاعات؛ لكسب الحسنات، فلا حياة إلا حياة الآخرة: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت :64)، ولا نعيم إلا نعيم الجنة، فسابق إلى ربك، وسارع إليه، وشمر ولا تتخلف؛ واتعب ساعة في الدنيا خير من عذاب الأبد في الآخرة.
قال الغزالي - رحمه الله -: "والعجب أنه لو تقدم عليك أقرانك أو جيرانك بزيادة درهم أو بعلو بناء؛ ثقل عليك ذلك، وضاق به صدرك، وتنغص بسبب الحسد عيشك، وأحسن أحوالك أن تستقر فى الجنة، وأنت لا تسلم فيها من أقوام يسبقونك بلطائف لا توازيها الدنيا بحذافيرها".(إحياء علوم الدين (4/537).
لا تأسفن على الدنيا وما فيـها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
ومن يكن همه الدنيا ليجـمعها فسوف يوماً على رغمٍ يخليها
لا تشبع النفس من دنيا تُجمّعها وبُلْغةٌ من قِوام العيش تكفيها
اعمل لدار البقا رضوان خازنها الجار أحمد والرحمـن بانيها
والحمد لله رب العالمين.