أبشِر أيها التائب
من رحمة الله تعالى ومنِّه على عباده أن شرع لهم شرائع، وسنَّ لهم سننا على ألسنة رسله. وباتباع تلك السنن والشرائع تصلُح حياة الناس في الدنيا، ويسعدون في جنة النعيم في الآخرة. ولضعف الناس وكثرة مفاتن الحياة الدنيا[1]؛ فإن الزلل غالبًا ما يقع من البشر؛ فيُخطئون مرَّة عن جهل ومرات عن تعمد. لكن الله تعالى الرحيم الودود العالِم بطبيعة البشر وبنفوسهم الضعيفة، يفتح لهم باب التوبة مُشرعًا؛ فيدخل منه المُذنب إلى رحمة الله ورضوانه، ويغمُره عفو الله؛ ليجِد بعد توبته تلك حلاوة العبادة وحلاوة التقرب من الله.
1- قبول توبة العبد والفرح بها:
إن من محبة الله لعباده وإرادته الخير لهم أنه عز وجل يدعو عباده إلى التوبة والرجوع إليه عز وجل قائلا: (﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]. ولا عجب في قبول الله توبة عباده الآيبين إليه، فإن من أسمائه الحُسنى " التواب "، وهو يدل على كثرة من يتوب إليه من عباده، أو لأنه يُنزٍل التائب من الذنب منزلة من لم يُذنب قط لِسعة كرمه[2]، يقول تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25].
ويُؤكد عز وجل في مرات عدة أنه سبحانه يقبل التوبة عن عباده؛ فيقول عز من قائل: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ﴾ [التوبة: 104]، فيُشعِر أسلوب الآية أن قبول توبة عبدِه هي مُسلمَة يجب أن يعتقِدها المؤمن في نفسه، ومتى كان اعتقاده ذاك راسخا، سهُل عليه الرجوع إلى ربه متى قارف ذنبا أو ارتكب خطيئة.
وقد جعل الله لمن يستغفِره ويتوب إليه جزاءً دنيويا – إلى جانب الجزاء الأخروي – يتمثل في تيسير الرزق والإمداد بالخيرات، يقول عز وجل: ﴿ وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52].
ويكفي لكي يتوب الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل لا يقبل توبة عباده فحسب؛ بل يفرح بها، وأعظِم به من فرح؛ فرح العظيم المُتعالي بعمل المخلوق الضعيف الذي لا حول له ولا قوة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ"[3].
2- مستويات التوبة:
يكون قبول الله لتوبة عبده على مستويين اثنين، وهما يدلان معا على عِظم رحمة الله عز وجل. والمستويان هما:
أ- غفران الذنوب وإن تكررت أكثر من مرة: إذا كان المسلم كلما أذنب مرة تاب إلى الله عز وجل، فإن الله يتوب عليه، وإن تكرر ذلك منه ألف مرة أو أكثر.
ب- غفران الذنوب و إن تعاظمت: يغفر الله عز وجل الذنب وإن كان كبيرا؛ إذا تاب منه الانسان توبة نصوحا. فالذنب وإن عظُم يبقى صغيرا في جنب عفو الله ومغفرته، جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي"[4].
ويتجلى كلا المستويين في قصة الذي قتل التسعة والتسعين، فقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كانَفِيمَنكانَقَبْلَكُمْرَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى راهِبٍ، فأتاهُ فقالَ: إنَّه قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ به مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى رَجُلٍ عالِمٍ، فقالَ: إنَّه قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ، ومَن يَحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلى أرْضِ كَذا وكَذا، فإنَّ بها أُناسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فاعْبُدِ اللَّهَ معهُمْ، ولا تَرْجِعْ إلى أرْضِكَ، فإنَّها أرْضُ سَوْءٍ، فانْطَلَقَ حتَّى إذا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتاهُ المَوْتُ، فاخْتَصَمَتْ فيه مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذابِ، فقالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جاءَ تائِبًا مُقْبِلًا بقَلْبِهِ إلى اللهِ، وقالَتْ مَلائِكَةُ العَذابِ: إنَّه لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فأتاهُمْ مَلَكٌ في صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بيْنَهُمْ، فقالَ: قِيسُوا ما بيْنَ الأرْضَيْنِ، فَإِلَى أيَّتِهِماكانَأدْنَى فَهو له، فَقاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أدْنَى إلى الأرْضِ الَّتي أرادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ."[5] ففي القصة يظهر عِظم ذنب هذا التائب وهو القتل، كما يظهر تكرار الذنب مائة مرة، وهو عدد كبير جدا، ورغم ذلك لم تُرَد توبته، بل قُبِلت، وغمره الله برحمته التي وسِعت كل شيء.
3- الامتداد الزماني للتوبة:
يفتح الله باب التوبة على مصراعيه أمام العبد، فيجعل له سبحانه أمدا منفتِحا بالنسبة للفرد، كما بالنسبة للبشرية جمعاء.
أ- الامتداد الزماني للتوبة في حياة الفرد: يقبل الله توبة الفرد المسلم ما دام يرجو الحياة، فقد جاء في الحديث الشريف: " إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"[6]، ومعنى ذلك أنه ( متى وقع الإياس من الحياة وعاين الملَك، وخرجت الروح في الحلق، وضاق بها الصدر، وبلَغت الحلقوم، وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم، فلا توبة مقبولة حينئذ ولات حين مناص)[7]، وهذا ما يُوضِّحه قوله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 17، 18].
ب- الامتداد الزماني للتوبة في حياة البشرية جميعا: كما جُعل للفرد أمد ينتهي بعده قبول توبته، فقد جُعل لأهل الأرض جميعا أمد معين تُطوى بعده الصحف؛ فلا تُقبل من أحد توبة، وذلك هو وقت طلوع الشمس من مغربها، وهو إحدى العلامات الكبرى لقيام الساعة، فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله يبسُط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسُط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها"[8]. وقد ورد في القرآن الكريم أن الناس إذا عاينوا طلوع الشمس من مغربها آمنوا جميعا؛ فلم ينفعهم إيمانهم ذلك؛ لأنه جاء بعد انتهاء الأمد المحدد[9]، يقول عز وجل: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾ [الأنعام: 158].
4- نماذج من التائبين:
أ- توبة آدم وحواء:
كانت أول معصية تقع في الجنس البشري هي معصية آدم وحواء، إذ أكلا من الشجرة التي نهاهما عنها الله عز وجل، وكان ذلك بتغرير من الشيطان الذي شجعهما على عصيان الله تعالى، وزيَّن لهما ذلك، يقول عز وجل: ﴿ وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ [البقرة: 35، 36]. ثم كان من رحمة الله عز وجل أنه علم آدم وحواء كلمات يقولانها فيتوب الله عليهما[10]، يقول عز وجل: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 37].
وإذا كانت هذه أول تجربة يمر بها الجنس البشري – من خلال الأبوين آدم وحواء- فقد أراد الله عز وجل أن يُري ذريتهما – من خلال ذلك - عداوة الشيطان لهم، ثم يُعلِّمهم – وهذا هو الأهم - أن الله يقبل توبة عباده إذا أنابوا إليه.
ب- توبة كعب بن مالك:
تعتبر قصة كعب بن مالك في تخلُّفه عن غزوة تبوك[11] من أشهر وأجمل قصص التوبة في عهد الصحابة. وهي قصة طويلة يحكي فيها كعب بن مالك كيف تخلف عن غزوة تبوك من غير عذر شرعي. وحين عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الغزوة جاء إليه المنافقون يعتذرون إليه بشتى الأعذار الكاذبة، وجاء دور كعب بن مالك وصاحبيه[12]ليُبيِّنوا سبب تخلُّفهم، فلم يستطيعوا الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، بل صدَقوه قائلين أنه لم يكن لهم عذر مقبول وشرعي. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يمتنِعوا عن مُخاطبة هؤلاء الثلاثة. فمرَّت عليهم أيام عصيبة قبل أن يُنزِل الله فيهم قرآنا يبيِّن فيه عز وجل قبول توبتهم الصادقة، يقول تعالى: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118].
ومما تبيِّنه قصة كعب بن مالك:
• أن اليوم الذي يتوب الله تعالى فيه على الإنسان هو خير أيامه على الإطلاق، ذلك أن كعب بن مالك حين راح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بعد نزول الآيات السالفة، قال له عليه الصلاة والسلام، وهو يبرُق وجهه من السرور: " أبشر بخير يوم مرَّ عليك مذ ولدتك أمك "[13].
• أن الصدق في التوبة من شروط قبولها عند الله عز وجل، حيث يقول كعب بن مالك: (وقلت: يا رسول الله إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدِّث إلا صِدقًا ما بقيت)[14].
[1] كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " حُفت الجنة بالمكاره وحُفت النار بالشهوات" أخرجه مسلم، كتاب: الطهارة، باب: فضل إسباغ الوضوء على المكاره ح 369.
[2] انظر الإتقان للسيوطي 2/ 254.
[3] صحيح مسلم، كتاب: التوبة، باب: في الحض على التوبة والفرح بها.
[4] سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله، باب: في فضل التوبة والاستغفار، وما ذكر من رحمة الله ح 3463.
[5] صحيح مسلم، كتاب : التوبة، باب: قبول توبة القاتل وإن كثُر قتله ح 4967.
[6] رواه الترمذي في كتاب: الدعوات عن رسول الله، باب: فضل التوبة والاستغفار وما ذُكر من رحمة الله.
[7] تفسير ابن كثير 1/ 700
[8] صحيح مسلم، كتاب: التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة.
[9] انظر تفسير ابن كثير 2/309
[10] قيل إن هذه الكلمات مفَسّرة بقوله تعالى: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَ۬لْخَٰسِرِينَۖ ﴾ [الأعراف: 22].
[11] انظر القصة في صحيحي البخاري ومسلم.
[12] وهما: مُرارة بن الرَّبيع العَمري وهلال بن أُمية الواقفي.
[13] صحيح البخاري، كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك، وصحيح مسلم، كتاب: التوبة، باب: حديث كعب بن مالك وصاحبيه.
[14] انظر المصدرين السابقين.