أقباس من سورة الإخلاص
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4].
يقول أبو جعفر النحاس في كتابه: (إعراب القرآن): إن (هو) في موضع رفع بالابتداء كناية عن الحديث على قول أكثر البصريين والكسائي؛ أي: الحديث الذي هو الحق: الله أحد، وقال غيره: إن لفظ الجلالة (الله) خبر، و(أحد) بدل منه أو خبر ثانٍ.
ونقول بعد حمد الله والصلاة على نبيه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه مهما رجَّح اللغويون رحمهم الله البدل أو الخبر الثاني في كلمة (أحد)؛ فالسورة بآياتها الأربع جوابيَّة وتعليمية، تِّعرِّف بالله تعالى وصفاته ووحدانيته، وهي وكل سور القرآن وآياته سبقت علوم اللغة وتقعيد القواعد فيها مثلما هو معروف، وعلى هذا فإن القرآن الذي أنزله اللهُ باللسان العربي المبين يسمو ويعلو فوق تقريرات النحويين على اختلافها وخلافاتها واجتهادهم اللغوي، الذي كثيرًا ما يأخذنا بعيدًا عن معانيه تعبُّدًا ولسانًا مبينًا، وذلك بنصِّه الجامع البياني الحكيم، ومعاني آياته البينات، والآية الأولى من سورة الإخلاص المباركة تقرِّر أن الله تعالى هو (أحد)، والأحد تعني: الواحد الذي لا يكون مقصودًا بِعَدٍّ مطلقًا، كأن يقال: ليس في الدار أحدٌ، وهذا يشمل كلَّ أحد، ووحدانية الله المطلقة في كلمة (أحد) تنزِّهه تعالى عن العدد قبله وبعده، وفي قوله تعالى في الآية الثانية: (الله الصمد) تأكيد لفظ الجلالة (الله) بصفته (الصمد)، وكلمة (الصمد) يقول الإمام الطبري: إنها تعني عند العرب: السيد، وقبله ذكر الخليل بن أحمد في كتابه العين: أن الصمد هو: السيد في قومه ليس فوقه أحد، ولا يُقضى أمرٌ دونه، وفي هاتين الكلمتين يلاحظ المتبحِّر في عربية القرآن أن القرآن والإسلام قد ارتفع بالعربية إلى مقاصدَ ساميةٍ عليا هي جوهر الدين وشريعته.
وجاءت كلمة (الصمد) في الآية الثانية صفةً ثانية موازيةً لكلمة (أحد) قبلها، فهما صفتان متعلقتان بالله سبحانه وتعالى، و(الصمد) هو المقصود بالألوهية وحده لاحتياج المخلوقين إليه تعالى فيما يسألونه ويطلبون منه، وهكذا تتناسب صفة الصمد مع صفة أحد في التعريف بالله الرب سبحانه وتعالى؛ حيث تنَزهه في كلمة (أحد) عن الشريك أو النِّدِّ بـ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] فيما تجيء الآية بعدها ﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ [الإخلاص: 2] متناسبةً مع احتياج الخلائق كلِّها له في المطالب منه والحوائج إليه دون أحدٍ غيره، ولم تقل الآيةُ: قل هو الله واحد؛ لأن واحدًا تجيء في القرآن متعلقةً بوحدانيَّة ألوهيَّته تعالى دون غيره مِن الآلهة والمعبودات التي يتعلَّق بعبادتها المشركون الوثنيون الضالُّون، فهو الله إلهٌ واحد، وهو الواحد الأحد، وعلى هذا المنوال ترد كلمتا: (إله واحد) صريحةً في اختصاص الألوهية بالله تعالى واستثنائه بها ونفيها عن غيره من الآلهة والمعبودات، وذلك في كثير من الآيات الكريمة.
وجاءت (واحد) معرَّفة بالألف واللام مُتعلِّقة باسمه تعالى (الله)، ومتبوعة بصفة ثانية له هي صفة القهر المطلَق الذي ذَلَّ له بها وخَضَع لعظمته وسلطانه الغالب كلُّ مخلوق خَلَقَه؛ سواءً في وجود هذا المخلوق، أو في حياته أو في مماته سبحانه وتعالى، وهو ما ورد في الآية (39) من سورة يوسف، والآية (16) من سورة الرعد، والآية (48) من سورة إبراهيم، والآية (65) من سورة ص، والآية (4) من سورة الزمر، والآية (6) من سورة غافر، فقد قررت الآيات المذكورة أن (الله هو الواحد القهار).
وقوله تعالى في الآية الثالثة من السورة: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]، وقد جاءت فيما تعنيه أنه تعالى لم يصدر عنه ولد أو ابن، وهذا البيان إنما يفيد حال الصفة في الماضي وفي كل حاضر، وذلك الماضي وهذا الحاضر متعلِّقان بحال الديمومة والأبد، فليس منه تعالى ولد ولا ابن، ولم يصدر هو عن شيء أول فليس هو من أب؛ لأنه ليس شيء يولد إلا وسيموت، وليس شيء يموت إلا سيُورَث؛ فالله تعالى لا يموت ولا يَفنى، تنزَّه وتعالى عن الحدوث، وهو الوارث له ميراث السموات والأرض، والوارث في خَلقِه بالنبوَّات والرسالات والشرائع والكتب في الدنيا والآخرة.
وتفيد الآية الرابعة وهي الأخيرة في السورة المتعلقة بحال التعريف والصفة أبدًا، فتنفي عنه كلَّ كينونةٍ من مُشاكلةٍ أو نظيرةٍ له سبحانه وتعالى من أحد، ولذلك اختتمت بالقول: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]، فلا نِدَّ ولا عِدلَ ولا شبيهَ ولا مِثلَ مكافئًا له، تعالى من أي أحد لا في الذَّات ولا في الأسماء ولا في الصفات.
وقد نزلت السورةُ فيما ذكره الإمام الطبري؛ لأن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسَب ربِّ العزة على قول فيما قال بعضُهم؛ بل نزلت من أجل أن اليهود سألوه فقالوا له: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فأنزلت جوابًا لهم، وفي الحديث الصحيح أن سورة الإخلاص هذه تعدل ثلثَ القرآن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين