فـن المسافه أو ذكاء المسافه
الناس كلهم جميلون ما لم نقترب منهم كثيرا،وكلهم طيبون عندما نقابلهم أول مرة، وكلهم مبتسمون
في وجوه الناس الجدد. البدايات دائما جميلة…حتى أن الشاعر قال:
“لا أريد من الحبّ غير البداية.” ما أجمل أن نستطيع جعل كل لقاءاتنا بدايات.
لماذا نتعامل مع الناس الجدد بطريقة جيدة؟ولماذا نحاول أن نظهر في صورة مثالية للغرباء؟
أهي محاولة منا لبداية بداية جديدة مع أناس جدد ثم يغلب الطبع التطبع؟
أم أن لكل إنسان عيوبه وكثرة الاحتكاك تكشفها؟
إن الناس غير مسؤولين عن سلبياتهم،لأن لا أحد خلق كاملا إلا من اصطفاه الله.
نحن المسؤولون عن سلبياتهم لأننا اكتشفناها،
وسمحنا لأنفسنا بفتح ما لا يحق لنا فتحه واكتشاف ما ليس من حقنا اكتشافه.
فأنت حين تنظر لدوريان غراي تجده شابا وسيما مثل الملاك،اقنع بهذا ولا تقترب كثيرا،
أما النبش في الغرفة الممنوعة فسيوصلك إلى لوحة أنت في غنى عن رؤية بشاعتها.
فلا تنبش في نفوس الناس،لن تخرج معادن نفيسة منها ولكن ستخرج جثتا إنسانية بشعة،
وستكتشف مقابر جماعية للمشاعر.
لا يستغني الناس عن الناس،والاقتراب كثيرا قد يدفعنا إلى اكتشاف أشياء تسوؤنا.
و لو علم الناس ما في نفوس الناس لما تصافحوا إلا بالسيوف.
لذا يجدر أن نأخذ ظاهر الناس،أما الباطن والسرائر فلا يعلمها إلا الله.
لذلك صديقي يخاف من الأشخاص الذين ينمقون الكلام ويكثرون من المعاملة اللطيفة،
يعتبرهم صنفا خطيرا وهدوء يسبق عاصفة قوية،ويفضل أن يضع بينهم مسافة معقولة.
إنه “فن المسافة” أو “ذكاء المسافة” كما تسميه أحلام مستغانمي في روايتها الأسود يليق بك.
حتى بين أشدّ المحبين يجب الحفاظ على هذه المسافة،تقول أحلام
“الحبّ هو ذكاء المسافة.ألا تقترب كثيرا فتلغي اللهفة،ولا تبتعد طويلا فتنسى.”
ورب عاشقين مجنونين،وسبب هذا الحب الكبير هو حركتا القرب والبعد المتناغمتين،
حتى إذا تم الزواج صارا عدوين وذهبا إلى حدود الانفصال.
فن المسافة أيضا فن إسلامي ورد في الحديث النبوي الشريف “زر غبا تزدد حبا”،
فالزيارة والصلة واجبتان في الإسلام،لكن تم تغليب الغاية الأبعد وهي المحبة.
وذلك في سياق بناء المجتمع وبناء العلاقات الإنسانية المبنية على الود والاحترام لا على العصبية والسيف.
وعلينا كذلك أخذ العبرة من الطبيعة أو بعبارة أدق من حكمة الله،
فهناك فن مسافة بين الأرض والشمس، لا اقتراب ينتج عنه احتراق ولا ابتعاد ينتج عنه التجمد،
كلا الأمرين فيه موت لهذه العلاقة المتناغمة.والقمر الذي يبهرنا بجماله،والذي يطرب له كل عاشق،
لو اقتربنا منه كثيرا لوجدناه حجارة وترابا.
وعلينا تقليد البحر في حالتي المد والجزر حتى تظل علاقاتنا جميلة وهادئة وصاخبة كالبحر.
حتى أننا دائما نرغب في الابتعاد عن أنفسنا عبر ساعات متواصلة من النوم،فما بالك بالآخرين؟
كل من نحبه وكل ما نحبه علينا أن نضع بيننا وبينه مسافة معقولة:
الناس،والأغاني التي نحبها،الأفلام، القصائد،والملابس،والأماكن،والأكلات والمشروبات…
فالأغنية التي كانت في وقت سببا في استمتاعنا وهدوئنا لو لم نضع مسافة معقولة
بين أوقات سماعها ستتحول إلى سبب لضجرنا وسنكرهها بعد حبنا لها.
العلاقات التي تمشي بسرعة جنونية،
والتي تتطور بسرعة،تتعرض لحادثة اصطدام خطيرة وتصاب بإعاقة دائمة.
والبعد نراه سلبيا لكنه في الحقيقة صحي،حتى الشجار والخصومة ليسا سلبيين.
علاقاتنا يجب أن تعيش كل الفصول لكي تدوم.
يجب على العلاقة أن تسقط أوراقها القديمة وتستعد لتلبس الأوراق الجديدة.
عليها أن تعيش رياح المشاكل وقوة العواصف وبرد البعد لكي تستمع بربيعها القادم.
إنها مثل الأرض،يجب أن تعيش كل الفصول حتى تستمر الحياة.
الربيع والصيف جميلان،لكن الخريف والشتاء ليسا سيئين ولولاهما لما أحببنا الفصلين الآخرين.