من مفردات غريب القرآن (1)
(الإيلاَف)
إِيلافًا ومؤالفةً، وآلفَ فلاناً جعله يأْلفه، آلَفَهُ فِي أَوْقَاتِ الشِّدَّةِ؛ أي آنَسَهُ وعَاشَرَهُ، والإيلاَف هو عقد أمان واتفاق ببين القبائل أو الدول أو الأشخاص، وهو أيضًا عقد لتأمين خروج التجار من أرض إلى أرض[1]؛ قال تعالى: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 1 - 4].
سبحان الله، فمن معجزات القرآن الكريم أن كل حرف فيه هو تحدٍّ لكل الخلائق على أن يأتوا بمثله، وفي هذه السورة على قصرها معجزة ممثلة في حرف (اللام) المكسورة التي استهلت بها السورة المباركة، وقول علماء اللغة: (اللام) في قوله تعالي (لِإيلاف) تحتمل وجوها ثلاثة:
(إما أن تكون متعلقة بالسورة التي قبلها، أو بالآية التي بعدها، أو لا تكون متعلقة لا بما قبلها ولا بما بعدها).
الوجه الأول: وهو أن تكون متعلقة بما قبلها في سورة الفيل قال تعالى: ﴿ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 5]؛ أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف.
القول الثاني: وهو أن اللام متعلقة بقوله: ﴿ فَلْيَعْبُدُواْ ﴾، وهو قول الخليل وسيبويه، والتقدير: فلْيعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش؛ أي ليجعلوا عبادتهم شكرًا لهذه النعمة واعترافًا بها،
فإن قيل: فلِمَ دخلت الفاء في قوله: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا ﴾؟ قلنا: لِمَ في الكلام من معنى الشرط، وذلك لأن نعم الله عليهم لا تحصى).
القول الثالث: أن تكون هذه اللام غير متعلقة لا بما قبلها ولا بما بعدها، وإن هذه (اللام) لام التعجب، كأن المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش؛ وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غيًّا وجهلًا وانغماسًا في عبادة الأوثان، والله تعالى يؤلف شملهم، ويدفع الآفات عنهم، وينظم أسباب معايشهم، وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حِلم الله وكرمه، وهذا اختيار الكسائي والأخفش والفراء[2].
وكان أول من قام بتلك العقود هو هاشم بن عبد مناف، وكانت القصة كالتالي:
أولًا: (قضية الاعتفار عند العرب قديًما)، ما المقصود بتِلْكُم القضية (الاعتفار): كانت هناك عادة عند القرشيين هي أنه إذا (افتقر) أحدهم؛ أي لم يجد قوت يومه، ينصب خيمة في مكان معلوم في مكة، وتكون الخيمة مفتوحة من أسفل (أي أعلى من الأرض قليلًا)، ويقوم الرجل وزوجته وأولاده وأهل بيته بالركض والتعفير، حتى يظهر الغبار خارج الخيمة ويغطيها تمامًا، حتى إذا رأوا أهل مكة هذه العفرة علموا أن هناك فقيرًا.
وذات مرة قام بتلك الفَعلة (سيد بني مخزوم) إحدى قبائل قريش قديمًا، فرآه هاشم بن عبد مناف، وتعجب حينئذ وعاب على أن سيد بني مخزوم لم يكن لديه قوت يومه، بعدما سرق اللصوص وقطاع الطرق قوافله التي كان يتاجر فيها، فخرج ووقف ينادي على باب الكعبة وقام خطيبًا فيهم، يذكِّر بحال بني مخزوم الذين كانوا منا بالأمس أغنياءَ، واليوم هم من يعتفرون؟!
فقال الرجل: لا بد من أن نقوم بعقد أمان بيننا وبين بلاد فارس، فارتحل إلى هنالك وقام بعقد اتفاق أمان بين البلدين، وسبحان الله العظيم، فإن قُطَّاع الطرق واللصوص قديمًا قد احترموا هذا الاتفاق وهو الإيلاف.
وقد سمى الله عز وجل هذه العقود بهذا الاسم، وقد أنزل الله أيضًا الأمان على هذه العقود، وأكمَل إخوة هاشم بن عبد مناف الثلاثة باقي العقود (مع الهند والشام ومصر وحمير).
وكانت تلك العقود (الأربعة) تؤمن التجارة وقوافلها بين تلك البلاد ومكة.
ثانيًا: كانت تلك العقود تقوم أيضًا على المساهمة بين أغنياء وفقراء تلك البلاد، ولقد أخذ منها الفقهاء بعد ذلك ما يسمى الآن (بشركات المساهمة)[3].
[1] المعجم الوسيط.
[2] مفاتيح الغيب للرازي رحمه الله.
[3] سيرة ابن هشام، ومن مقتطفات درس الفقه؛ للدكتور أحمد سبالك حفظه الله.