الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
العظيم: ذو العظمة والجلال في مُلكه وسلطانه عزّ وجل.
كذلك تُعَرِّفه العرب في خُطَبها ومحاوراتها، يقول قائلهم: مَنْ عظيمُ بني فُلانٍ اليوم؟ أي: مَنْ له العظمَةُ والرِّئاسَةُ منهم؟ فيقال: فلانٌ عَظِيمُهم، ويقولون: هؤلاء عظماءُ القوم؛ أي: رؤساؤُهم، وذَوو الجلالة والرئاسة منهم[1].
«قال الأصبهاني[2]: العَظَمَةُ صِفةٌ مِنْ صفات الله، لا يقوم لها خَلْقٌ، واللهُ تعالى خَلَقَ بين الخلقِ عظمةً يُعَظِّمُ بها بعضُهم بعضاً، فمن الناس مَنْ يُعَظَّمُ لمالٍ، ومنهم من يعظم لفضلٍ، ومنهم من يُعظم لعلمٍ، ومنهم من يُعظم لسلطانٍ، ومنهم من يُعظم لجاهٍ.
وكُلُّ واحد من الخَلْقِ إنما يُعَظَّم بمعنى دون معنى، واللهُ عزّ وجل يُعظَّم في الأحوال كلها، هناك فرق بين عظمة الخالق، وبين عظمة المخلوق: فالمخلوق قد يكون عظيماً في حال دون حال، وفي زمان دون زمان، فقد يكون عظيماً في شبابه، ولا يكون كذلك عند شيبه، وقد يكون غنياً معظَّماً في قومه، فيذهب مُلكه وغناه أو يفارق قومه وتذهب عظمته معها، لكن الله سبحانه هو العظيم أبداً.
فينبغي لمن عَرَفَ حقَّ عظمةِ الله، ألاَّ يتكلَّم بكلمةٍ يكرهها الله، ولا يرتكب معصيةً لا يرضاها الله، إذْ هو القائِمُ على كل نَفْسٍ بما كسبت»[3].
فالله تعالى هو العظيم المطلق؛ لأنه عظيم في ذاته وأسمائه وصفاته كلها فلا يجوز قصر عظمته في شيء دون شيء منها؛ لأنَّ ذلك تحكُّم لم يأذن به الله.
قال ابن القيم[4] - رحمه الله - مقرراً ذلك:
وهو العَظِيمُ بِكُلِّ مَعْنًى يُوجِبُ التَّـ *** ـعْظِيمَ لا يُحْصِيه مِنْ إِنْسَانِ[5]
فَمِنْ عَظَمَتِهِ تعالى: أنه لا يَشُقُّ عليه أن يحفظ السَّماوات السَّبع والأرضين السَّبع، ومَنْ فيهما، وما فيهما، كما قال تعالى: ﴿ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255][6].
والقرآن كلام الله العظيم، به تكلَّم، وأنزله على نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم، فهو يستمدُّ عظمته من عظمة مُنزِّله جلَّ جلالُه، ويتَّضح ذلك جلياً في عدَّة آيات منها:
قوله تعالى: ﴿ الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [السجدة: 1-3] .
وقوله تعالى: ﴿ حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [الجاثية، الأحقاف: 1، 2][7].
[1] انظر: تفسير أسماء الله الحسنى، لإبراهيم بن السَّري الزجاج (ص46)؛ شأن الدعاء، لحمد بن محمد الخطابي (ص64، 65)؛ تفسير القرطبي (16 /83).
[2] هو الحافظ إسماعيل بن محمد بن الفضل القرشي التيمي ثم الطَّلحي الأصبهاني، الملقَّب بـ«قِوام السُّنة». مولده سنة (457هـ). حدَّث عنه: أبو سعد السَّمعاني، وأبو طاهر السِّلَفِي، وأبو القاسم ابن عساكر، وأبو موسى المديني، وغيرهم. قال السَّمعاني: «هو إمام في التفسير والحديث واللغة والأدب، عارفٌ بالمتون والأسانيد، كنت إذا سألته عن المشكلات أجاب في الحال»، توفي سنة (535هـ). من مصنفاته: «الترغيب والترهيب»، و«الحجة في المحجَّة» ويُسمَّى بـ«السُّنة»، و«دلائل النبوة» و«سير السلف»، و«المغازي». انظر: البداية والنهاية (12 /217)؛ سير أعلام النبلاء (20 /80-88).
[3] الحجة في المحجة، لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ق15ب-16أ).
[4] هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزَّرعي ثم الدِّمشقي، شمس الدِّين أبو عبد الله ابن قيم الجوزية، تَفقَّه في مذهب الإمام أحمد وبرع وأفتى، لازَمَ ابنَ تيمية وأخذ عنه، وتفنَّن في علوم الإسلام، وله في كُلِّ فن اليد الطُّولى. وكان ذا عبادة وتهجُّد، وقد امتُحِنَ وأُوذي مرات، وصنَّف تصانيف كثيرة، منها: «زاد المعاد في هدي خير العباد»، و«الصَّواعق المرسلة على الجهمية والمعطِّلة»، توفي سنة (751هـ). انظر: ذيل طبقات الحنابلة (2 /447).
[5] النونية بشرح أحمد بن إبراهيم بن عيسى (2 /214).
[6] انظر: المصدر السابق (1 /266).
[7] تأمَّلْ نماذجَ لذلك أيضاً في أرقام آيات السور التالية: (آل عمران: 2، 3)، (المائدة: 48)، (إبراهيم: 1، 2)، (الكهف: 1، 2)، (النمل: 6)، (يس: 1-5)، (غافر: 2)، (فصلت: 1، 2)، (الرحمن: 1، 2).