..
كانت أجملَ من أن تنظر إليك ؛ إلا أنها نظرتْ ، وكنتَ أجْبنَ من أن تنظر إليها ولكنك نظرتَ ، وقبل أن تجد لنفسك زورقاً في مَرْفأ عينيها كنت قد كسرتَ قاعدتك الأولى وأبحرت ، ورأيتَها في بحرها عيناً بعين ؛ فما رأيتَها إلا جميلة ، وما هي إلا أن غضَّت طَرْفها ؛ فكان قلبك الذي يــَـخفق في هذه الدنيا منذ عشرين عاماً قد بدأ يــُـخفق ...
.
وأخفق الشقيّ الصغير ؛ ذاك الذي قالت عنه أمّكَ بأنه سيتعلم القتال في اليوم الذي سيجد فيه شيئاً يستحق أن يقاتل من أجله ، فلما وجدها لم تكن شيئاً ولكن كانت فوق كل شيء ، ومعَها بدأتَ شيئاً كنتَ تعلم يقيناً أنك لن تستطيع أن تُنهيَه ، إلا أنكَ بدأتَه ، ربّما لأنكَ لم تعد تعرف عن نفسك إلا الأشياء التي قالتها تلك الشقيّة عنك ، وضللْتَ الطريق إلى نفسك في كل مرة حاولتَ فيها أن تجد نفسك ، حتى إذا لم تعد تعرف من أنت عرّفتَ نفسك بها ؛ بالألم الذي يتغشّاكَ كلما صدّت بوجهها عنك ، تماماً كما يعرِّف القتيلُ قاتله ...
.
وهي .. جمالٌ يتّكئ على جمال ، لا تجد منها اثنين إلا إذا كان الثاني هو القمر ، بَضّة ؛ ينافس أعلاها فيها أسفلها ، هي أيلولُ إذا أراد أيلولُ أن يكون امرأة ، هي العيد إذا جاء العيد في كل يومٍ من أيام السنة ، هي في هذه الدنيا قوةٌ قاهرة لا تملك معها أن تأخذ أو تدع ...
كالقمر تبدو ، إلا أن للقمر جانباً يكسوه الظلام ، غضبى على نفسها من أجل نفسها ، تمنحك الامتناع ولكن بنصف قبول ، تعطيكَ بعضاً من نظرة وتطلب منك أن تعطيَها كل نظرة ..
.
وقبل أن تتعلم درسك الأقسى في الحياة تعلمتَ فيها درسك الأجمل : أن تكون ناجحاً في كل شيءٍ وتختارَ أن تفشلَ في واحدة ، وعرفت معنى أن يكون لك في الانتصار هزيمة ، حتى إذا هزمَتكَ انتزعتكَ منك ، فبقيتَ أنت بلا أنت ، خيالاً مبتسماً على خيبته ..
.
أما درسك الأقسى فقد كان أنّ البيوت إنما تُؤتى من أبوابها ، وأن العهود التي تختزلها الكلمات ربّما تخونها المعاني ، وربما لن تسيرا معاً من زهرة العمر إلى خريفه ، وعندما تسقط عنكما ورقة التوت الأخيرة ستتعلمان أن الخطوط المتوازية ليس لها أن تتقاطع ولو أردْتما لها ذلك .. لقد كنتَ ترى ، وكانت ترى ، واللّه من قبلكما كان يرى ...
.
وأنتِ .. يوماً ما سيتَّضح كل شيءٍ في عقلكِ ؛ ستجتمع الأشلاء الجريحة لتشكل حقيقة كانت مبهمة ، لعلكِ حينها ستدركين خراباً في ذاكرته كما شاء الهوى لذاكرته أن تكون ..
يومها ستقرئين في صمتي أشياءَ لن يقرأها أحدٌ سواكِ ، في ذلك اليوم ستعلمين أن لكلٍ منا فكرته عمّا يريد ، وإن كان ما أريده أن تبقَي بعيدة ...
.
" أن تبقَي بعيدة "
وعلى خاصرة هذه الكلمات تضع الحرب أوزارها ، لتبقى أسيراً في عينيها ، فلمّا ردَدْتَ عينك عنها ما ارتدّت إلا إليها ، وكم حاولتَ أن تفرَّ منها فما فررتَ إلا إليها ، كانت منفاكَ في وطنك ، ووطناً لك في كل منفى ...
#طاحونة_الغبار |
|
|
|
|
]