زار المؤرخ العثماني غاليبولي لو مصطفى عالي مدينة القاهرة للمرة الأولى عام 1563م. ثم جاءت زيارته الثانية لها إبان ذهابه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج بعد ذلك بربع قرن. غير أنه كتب مخطوطته الشهيرة عندما زار القاهرة ثانية في نهاية القرن السادس عشر الميلادي، حيث عمل في معية لا لا مصطفى باشا البوسنوي. بدأ مصطفى عالي بالسبب الذي جعله يخط مخطوطته. فذكر أن أصدقاءه طلبوا منه ذلك بعد تدهور أوضاع مصر، وحتى لا تضيع معلوماته التي استقاها عبر زياراته المتكررة للقاهرة.
استهل مؤرخنا العثماني مخطوطته بمدخل خصصه عن بداية العمران في مصر وأحوالها قبل طوفان نوح، قبل أن يتحدث في الفصل الأول عن الأماكن الجميلة والمواضع المقبولة فيها. ثم تناول في الفصل الثاني الحديث عن الأمور المستهجنة فيها، قبل أن يشير في الفصل الأخير إلى حكّام مصر منذ العهد الإسلامي حتى زمن زيارته للقاهرة.
وفي حديثه عن إعمار مصر، اعتمد مصطفى عالي – وذكر ذلك بنفسه أيضاً – على مؤلف الإمام جلال الدين السيوطي”حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة”، الذي امتلأ بحكايات أسطورية عن”أموس”عاصمة مصر، وعن الأهرامات التي دفن داخل إحداها مصر بن بيصر بن حام بن نوح. وكذلك الطوفان الذي أصاب البلاد وخرب ديارها. قبل أن يتحدث عن الكاهن اقليمون، وخدمته لسيدنا نوح عليه السلام، ونشأة مدينة منف على شاطئ النيل. غير أن مصطفى عالي يتوقف كثيراً للحديث عن ما حفلت به مصر من المحاسن والفضائل وهناك العديد من المصادر التاريخية والجغرافية الإسلامية التي تحدثت عن فضائل مصر كابن زولاق وغيره، وعلى سبيل المثال يشير إلى نهر النيل ومائه”… العذب إلى أقصى درجة”، فضلاً عن صفاته، ويتابع بعض الأقوال التي ذكرت أنه ينبع من الجنة.
كما أوضح مؤرخنا بالتفصيل كيف أنه عندما يحين فيضان النيل، يقوم المشايخ المختصون بمراقبة ذلك بإبلاغ الحاكم والسكان بزيادة منسوب المياه. كما لفت نظره أيضاً أنه عندما يفيض النهر تتزين مدن مصر وقراها كافة، وكذلك المراكب الموجودة بها، ويتم إشعال القناديل التي تضاء بها السفن، ويأخذ الناس في قرع الطبول ونفخ النفير والمزامير وإطلاق المدافع والبنادق، قبل أن تقام الموائد والاحتفالات.
وكان من الطبيعي أن يعود مصطفى عالي للحديث عن أهرامات مصر”التي لا مثيل لها في غرابتها بأي بلد آخر”. غير أنه يعود مرة أخرى للاعتماد على كتاب السيوطي، حول حاكم مصر، الكاهن العظيم”سوريد”، الذي حلم بمنامه أن الطوفان يجتاح مصر، فأمر ببناء الأهرامات للاحتماء بها، ودفن الأموال والثروات داخلها.
ولم يفت مؤرخنا العثماني الإشارة إلى المسجد الأزهر في القاهرة ومكانته في أفئدة المصريين بعد الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى. كما أشار إلى خروج قافلة الحج التي تحمل كسوة الكعبة الشريفة من مصر إلى الأراضي المقدسة في موكب فرح يستمر لأسبوع كامل. كما أنه لاحظ عودة الحجيج وما يحدث حينها من حسن الاستقبال والفرح والسرور والعناق.
غير أنه أشار إلى مسألة تحدث حتى الآن في المجتمع المصري، وهو ندب أحد الخطاطين لكتابة الآيات المتعلقة بالحج على جدران منازل الحجاج قبيل وصولهم، حتى يعرف المارة أن أصحابها قاموا بالحج في عامهم هذا.
يستمر مصطفى عالي في حديثه عن منازل القاهرة، فيلفت نظره أنها شاهقة، متعددة الطوابق، تبلغ ستة أو ثمانية طوابق، تتزين واجهاتها بالنقوش. كما يقوم أصحابها بتأمينها بحسب طريقتهم الخاصة، عبر استخدام الطلاسم والأحجبة، وآيات القرآن الكريم، فضلاً عن بعض الأدعية المعروفة.
كما أشار أيضاً إلى استقبال المصريين لشهر رمضان، إذ تتزين وتتجمل الحوانيت وتضاء بالقناديل الأسرجة المنيرة. فضلاً عن قيام الناس، من فرط فرحتهم، بإطلاق الأعيرة النارية في الهواء…،”ولا تجد ليلة أعلى منها عظمة وفرحاً وابتهاجاً”.
وتوقف مصطفى عالي كثيراً أمام المقاهى العديدة في القاهرة. فقد ذكر أنه وجد المقاهي”… عند كل خطوة”،”وأنها لم تكن مكاناً للمتسكعين فقط. بل أنها كانت محطة للمتدينين في أوقات السحر، حيث يتوجهون إليها لشرب القهوة أولاً قبل التوجه لصلاة الفجر”. وأكد أن مقاهي القاهرة العثمانية آنذاك كانت تحوي جميع أطياف المجتمع، كالمشايخ والدراويش والعجائز وأفراد الشرطة وحتى المدمنين الذين اتخذوا اللهو والتسلية هدفاً لهم. كما أنه لاحظ أن أفراد”الجاويشية”، كانوا يذهبون أيضاً إلى المقاهي، ويتحدثون في مبالغة واضحة عن أعمالهم في مطاردة البدو وقطاع الطرق، وفي الوقت نفسه ينتظرون أن يتطوع أحد الأغنياء، ويمن عليهم بفنجان من القهوة.
وفي القسم الثاني من مخطوطته، عدّد مأخذه على المصريين متعسفاً آيات من القرآن الكريم، بخاصة”اهبطوا مصر”من سورة البقرة. مستدلاً إلى أن هذا الهبوط قرينة على النزول إلى درجة أقل. كما يربط – في غرابة شديدة ? ذلك بالآية”سأريكم دار الفاسقين”من سورة الأعراف. ثم يستعين بأحاديث موضوعة للتأكيد على فساد المصريين من ذلك”أن إبليس دخل العراق، فقضى حاجته، ثم دخل إلى الشام فطرد حتى بلغ ميسان، ثم دخل إلى مصر فباض فيها وفرخ عبقريته”. وأعقب مصطفى عالي استنتاجاته تلك بتقارير إلى الباب العالي في اسطنبول عن”شيطنة المصريين وقيامهم بغش العملات وفسادهم في عمليات البيع والشراء”.
كما تعرض لكثرة احتفالات المصريين التي ربما تستمر لأسابيع متصلة. وخلص إلى أنه على رغم أجواء الفرح التي تنشرها فإنها تدفع على الكسل وعدم العمل، وبالتالي إلى البطالة، ومن الواضح أنه كان لديه كثير من الحق، إذ تحدث عن أن المصريين لا يكتفون باحتفالات عيدي الفطر والأضحى وتوزيع استقبال الحجاج، بل يبتدعون أعياداً يمارسون فيها إهدار أي فرصة ممكنة للإبداع”.
وهنا يرتدي مصطفى عالي ثوب الحكمة، إذ يذكر أن ذلك من عجائب الزمان،”لأن العقلاء لا يضيعون أوقاتهم بهذا الشكل”. وعلى رغم ذلك يبدو أنه لم يلحظ أن للمصريين أعيادهم المستمدة من تراثهم الفرعوني.كما انتقد ما قام به بعض الأثرياء من عمل المأدب لغرض التفاخر، في الوقت الذي كثرت أعداد المتسولين وأصحاب العاهات في القاهرة.
كما يعود مصطفى عالي مرة أخرى إلى الاعتزاز بأصله، إذ يذكر أن النساء المصريات لا يهتممن بنظافة منازلهن أو طهي الطعام فيها، ولا بأعمال الخياطة والتطريز. بل أنهن يقضين أيامهن في كسل بعكس السيدات التركيات. ومن الملاحظ هنا أنه – وبسبب حديثه عن القاهرة فقط – قد ظلم الفلاحات المصريات اللائي ساعدن أزواجهن في الحقول فضلاً عن قيامهن بطهي الطعام وأعمال المنزل على خير وجه. غير أننا في الوقت نفسه لا يمكننا إلا أن نمتدح ملاحظاته الذكية عن ممارسات قامت بها أعداد من النساء، استمرت لعدة قرون بعد عصر مصطفى عالي، الذي تحدث عن وجود نساء نائحات، يتم استئجارهن في حالات الوفاة، فيحضرن ملتحفين بفوطة سوداء، ويقمن بالبكاء والنواح والولولة التي يرافقها تعداد لمحاسن الفقيد أوالفقيدة. وبحسب كلماته”… فإن من يسمع نواحهن وعويل النائحات، يظن أنهن المبتليات حقاً في عزيزٍ لديهن”