بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
لا الشِّعرَ أبكيهِ، لا الأبداعَ، لا الأدبا
أبكي العراق، وأبكي أُمَّتي العرَبا
أبكي على كلِّ شمسٍ أهدروا دمَها
وبعدَما فقدوها أسرجوا الحطبا
أبكي على وطنٍ يبقى الأديبُ بهِ
ليس الغريب، ولكنْ أهلُهُ غُرَبا
أبكي على النَّخلِ يا من أنت صاحبُهُ
وأنت ساقيهِ قرناً ماءك العذبا
وراحَ حتى العِدا يجنونَهُ رُطَباً
وأنت تعلكُ منه السَّعفَ والكرَبا!
أبكي لأهوارِ أهلي الآنَ بلقَعُها
يبكي فيُبكي بها البَرديَّ والقَصَبا
وإذْ مُهاجرةُ الأطيار تبلغُها
تبكي وتُمعنُ عن قيعانِها هرَبا!
أبكي الفُراتَين.. هل تدري مياهُهما
بأنَّ أعظمَ مَن غنّى لها ذهبا؟
لا "دجلةُ الخير" ألوَتْ من أعنَّتِهِ
ولا الفراتُ بخَيلِ الموتِ فيه كبا
كأنَّهُ لم يكنْ يوماً نديمَهما
ولا أدارَ هنا كأساً، ولا شَرِبا
ولا جرى دمعُهُ ما سالَ دمعُهُما
ولا تنَزَّى دماءً كلَّما اختَضَبا
يا حاملَ السَّبعِ والتّسعين مُعجزةً
أقَلُّها أنَّها لم تَعرفِ الرَّهبَا
لكنَّها عُمرَ قرنٍ كاملٍ عرفَتْ
أنْ تُستَفَزَّ، وأن تُوري الدُّنا غضَبا!
يُقالُ أرهبُ ما في الموتِ وَحشَتُهُ
نفسي فداك، هل استوحَشْتَ حين دَبى؟!
وهل شعرتَ اغتراباً في مَعيَّتِه؟ِ
قضيتَ عمركَ يا مولايَ مُغتَربا!
وهل صَمَتَّ اضطراراً، أو مجانَفَةً؟
أم كنتَ أبلغَ أهلِ الأرضِ مُنشَعِبا؟!
وهل تُوفيِّتَ فعلاً، أم ولِدتَ بهِ؟!
إنّي رأيتُكَ مِلْءَ الموتِ مُنتَصبا
حتى لقد ضَجَّتْ الدُّنيا بما نَشبَتْ
أظفارُ مجدِكَ فيه لا بما نشِبا!
يا شيخَ شعري، ويا شيخي وشيخَ دمي
من لي بأن أفتديكَ الآن مُحتَسبا؟
من لي بأن أُرجعَ الأيّام دورتَها
فأستعيدكَ بحراً زاخراً لَجِبا
يلوي يدَ الرّيح لا تَلوي أعنَّتهُ
ويلطمُ الجبلَ الجلمودَ مُحتَربا
سبعون عاماً، وللطاغوتِ رَهبتُه
ماراءكَ الناسُ، أيُّ الناس، مُرتَهبا
بل والجاً كولوجِ الموتِ دورَهمو
مُهتّكاً عنهم الأستارَ والحُجُبا
مُغاضباً مثلَ صلِّ الرَّملِ، مُنصَلِتاً
للرّيح.. لا عطشاً تشكو ولا سَغَبا
في حين بيتُكَ أغصانٌ مهدَّلَةٌ
تذوي، وأجنحةٌ أبقَيتَها زُغُبا
مُرَفرفاتٍ على الأوجاع، داميةً
وأنتَ ترنو إليها مُشفقاً حَدِبا
وكلَّما مالَ ميزانُ الأب انتفَضَتْ
أبوَّةُ الشِّعِر في جَنبيْك فانقَلبا!
قالوا هرِمتَ.. وَعُمري لم أجدْ هرِماً
مَرآهُ يمنحُ حتى الميّتينَ صِبا!
وَدَدتُ واللهِ لو أْعطيكَ من عُمُري
عمراُ ليُصبحَ لي إن أنتَسبْ نَسبا!
يا ذا المُسَجَّى غريباً والعراقُ هنا
يَشقُّ قمصانَهُ في البُعدِ منتحبا
وتصرخُ النَّجفُ الثَّكلى مُروَّعةً
رجعُ المآذنِ فيها يُفزعُ القُببا
وأنت تنأى فتلَوي ألفُ مئذنةٍ
رقابَها، ويضجُّ الصَّحنُ مضطربا!
وللجبالِ بكردستان نائحةٌ
تبكي الينابيعُ، والغاباتُ، والرَّشَبا
من بيره مكرون يَمتُّد العويلُ بها
حتى تراهُ على حمرين مُنسَكبا!
أمّا الجنوب، فيدري الماءُ ما هجَعتْ
حمريَّةٌ فيه، أو هبَّتْ عليه صَبا
إلاّ جرَتْ أدمعاً خُرساً شَواطئُهُ
وجاءها دمعُ كلِّ النَّخلِ مُنسربا!
أبا فراتٍ.. أبا روحي وقافيتي
وما عرفتُ لأوجاعي سواك أبا
مِن يوم فتَّحتُ عيني والعراقُ دمٌ
يُطوى، فتهتكُ عن طوفانهِ الحُجُبا
معاتباً تارةً.. مستنكراً أبداً
مغاضباً.. ساخراً حيناً، ومُكتئبا
لكن تظلُّ على الحالاتِ أجمَعِها
شَوكَِ العراقِ الذي يُدمي إذا احتُطِبا!
علَّمتنَي مُذْ شراييني بَرَتْ قلمي
كيف الأديبُ يُلاقي موتَهُ حَرِبا
وكيفَ يجعلُ من أعصابِه نُذُراً
حيناً، وحيناً نذوراً كلَّما وَجَبا
وكيف يصعدُ دربَ الجمرِ مشتَعلاً
مجانفاً.. عصَبٌ يُدمي بهِ عصَبَا!
علَّمتَني كيف أُهدي للعراقِ دمي
شِعراً، وأخشى العراقيين إن نَضبا!
"من قبلِ قرنٍ لو انّا نبتغي عِظةً
وَعَظتَنَا أن نصونَ الشِّعرَ والأدَبا"!