الحلقة 44
" السر الاكبر "
" انظر يا حسن الى هذه اليد التي بها سافعل ما لم يفعله احد من قبل، وستصبح يدي هذه مثلا عبر الاجيال، وربما يقولون " اقذر من يد مرح، او اقوى من يد مرح"، فليقولوا ما يقولونه وليحدث ما يحدث، فاسمي لن يزول الى الابد.". رفعت يدها اليسرى وضمت اصابعها الا السبابة والابهام، والاشخاص "السبع الصفر" يقفون امامها كالاصنام. قالت بلهجة عنيفة: ـ " بأسمي انا مرح حارسة ابواب الشر، وبموجب صلاحياتي وبما انني الحاكمة الوحيدة والمخولة بتحريك واصدار الاوامر للعقرب بما اقرره واراه مناسبا، آمركم بأبادة هؤلاء الاشخاص الخمسة ابادة كاملة . الامر نفذ .. الامر نفذ . . ابيدوهم ... !!!" اخذت تصرخ بجنون وبصوت عال: ـ ابيدوهم ..أ بيدوهم .. ابيدوهم .. تحرك العقرب باتجاه الاقواس الخمسة بسرعة، وللحظة اردت ان اغمض عينيّ حتى لا ارى المجزرة الرهيبة التي ستقع لهؤلاء، ولكن الفضول، او ربما لانني اعتدت رؤية القتل بهذه الطريقة الغريبة ، بدأت اجد متعة في ذلك ، أخذت انظر واترقب، كان الاشخاص "الصفر السبع" يسيرون بسرعة لا مثيل لها باتجاه الاقواس الخمسة لابادة من عليها .. لحظات هي او ثوان، ومئات الصور تمر بمخيلتي لما سيحدث، والاشخاص الصفر يسيرون باتجاه الهدف، والاشخاص الخمسة اصحاب الهيبة والوقار لم يبد عليهم أي جزع او خوف، وهم يرون العقرب متجهاً اليهم، وبخفة وهدوء، وبطء وثقة، حرك الشخص الاول من الاقواس الخمسة يده حركة صغيرة بالكاد ارتفعت، او ان اصابعه هي التي تحركت، لتعود الاصنام السبعة بسرعة فاقت سرعة ذهابهم، ليحيطوا بنا من كل الجوانب، ومرح مذهولة مما ترى، وكأنها لا تصدق عيونها ، يلتفون حولنا على شكل دائرة، يسيرون بخطوات متسارعة لتضيق الدائرة علينا اكثر واكثر، حتى ان الدائرة بالكاد تتسعنا انا ومرح بعد ان جرى تضييق الدائرة ، واقتربنا من بعضنا البعض، كل هذا حدث في لحظات او ثوان.. الرعب والخوف الذي برق في عيون مرح وبدا على وجهها ، زاد يقيني باننا هالكون، والافكار التي تدور براسي بسرعة تفوق سرعة الضوء، كلها تركزت حول الطريقة التي سيبيدوننا بها .. اغمضت عيني وبدأت ادعو الله ان يغفر لي، ولم يخطر ببالي او لم يكن عندي امل بان ادعو لنفسي بالنجاة من الموت، بقيت على حالي هذا لدقائق ، ثم تجرأت وفتحي عيوني لارى وجه مرح المرعوب، و"السبع الصفر" يحيطون بنا، ولكنهم تحولوا لاصنام جامدة، لا يبدون أي حركة ولا يتركون لنا مخرجا نخرج منه، مضى وقت طويل وانا ارقب ولا أتكلم حتى فتحت فمي وقلت لمرح : ـ لقد صدق الحكيم دابارا واخطأت انت ..
ـ "لم اخطيء انا .."
ـ او ما زلت تكابرين ..
ـ "كلا، الم اقل لك ان نهايتنا ستكون واحدة.".
ضحكت مرح وضحكت معها، وما اجمل الضحك في وجه الموت اللعين، اخذت اضحك وتضحك مرح معي، وكم كانت مشاعري متناقضة وغريبة، فانا انظر لمرح خائفاً عليها من ناحية، ولكني مسرور لأحساسي بأن مرح مثلي وليست افضل مني ، وستلاقي معي نفس المصير.". وتعالى صوت ضحكاتنا وكأن جنوناً قد اصابنا. ولم يعد هناك ما نفعله بدل الترقب الا السخرية والضحك على مصيرنا المشؤوم .. ـ مرح ، ليش جماعتك " لهلأ ما فغصونا" ؟.
ـ "مش عارفه، كان لازم يعملوا هيك .".
ـ وهو انت لسة عارفة اشي ؟. ـ "آه، في اشي انا بعدي عارفتوا ..". سالتها : ـ شو هو ها الاشي الي انت عارفتيه يا عرافة زمانك ؟
ـ" انو اكيد لازم "يفغصونا"..". ضحكت بصوت عال وضحكت معها .و قلت لها : ـ طيب شو رايك ترفعي ايدك وتعملي شويةحركات ، زي اللي كنت تعمليها بلكي عفّوا عنا...
ـ "فات الاوان مش راح ينفع ..." ـ أي بس جربي .. وقولي انا مرح الحارسة.. والكلام اللي انت حافظتيه ، مش راح تخسري اشي، بلكي ردوا عليك .
ـ "مش راح ينفع يا حبيبي، مش راح ينفع .."
. قلت ساخرا : ـ أي يالله يا مرح دبري حالك، ولا نسيتي انك مرح ، ومرح لما بدها إشيء... بتعملوا ..
ـ "كان زمان هلأ انا مرح الى "حتنفغص" معك "
ـ مش لو انك شاطرة رديتي على الحكيم "دابارا " ورحتي معاه وانا روحت على داري مش كنا ارتحنا؟
ردت ايضا بسخرية : ـ "شو يا حسن انت بدك انسجن طول عمري؟ شو انا مجنونة." ـ " ابدا معاذ الله تنسجني، شو هم مش عارفين انك مرح .". ـ "شو يا حسن انت زعلان يا حبيبي على شأن رح نتفغص سوا .
" ـ " ابدا ، معقول انا اكون زعلان بالعكس الفرحة مش سايعتني .". ـ " شفت، انا حققتلك اللي عمر حد ما حلم فيه .
ـ بصراحة مزبوط، طيب قولي لي ليش انت ما تختفي زي كل مرة ولاّ تتحولي لدخان، ما انت دايما بتعملي هيك .".
ـ "يا روحي، مع الصفر اللي حولينا ما في شيء بينفع الا انك تسكت، حتموت يعني ح تموت .".
وتلاشى الضحك والمزاح وعدنا للحقيقة المرة التي تنتظرنا.. الموت المحتم على ايدي هؤلاء الاصنام الصفر، التي لا ندري متى وكيف سيبيدوننا. واخذت اشتمها:" لعنة الله عليك وعلي يا مرح لماذا لا يسرعوا ويقتلوننا حتى ارتاح.. واخذت اصرخ في وجوههم: ـ " لماذا تقفون كالاصنام؟.. هيا اقتلونا ... اقتلونا.". واصبت بنونة من الغضب، واخذت اصرخ والعن واشتم، وانا مستفز من الصمت الذي يقتلني في كل لحظة الف مرة، وانا انتظر ان تتحرك هذه الاصنام لتبيدنا، ولكن لا حياة لمن تنادي، وامسكت مرح يدي لتهديء من روعي
وتقول: ـ " كفى يا حسن ..ارجوك لن ينفعك الصراخ، يبدو ان الاوامر لم تصدر لهم لابادتنا، والا لحدث ذلك منذ وقت .". ـ ومن يصدر الاوامر الان ؟ اشارت بيدها باتجاه الاقواس وقالت : ـ "هم من يملكون القرار ومصيرنا بيدهم ولا ادري ماذا ينتظرون.". ـ وانت.. الست خائفة ؟ قالت بصراحة : ـ "كنت في البداية خائفة، اما الان فأنا لا اشعر باي نوع من الخوف، لا يوجد شيء لاخسره، وقد فعلت ما اريد انا ولم انجح، وكنت اعرف ان نهايتي ستكون سيئة ان لم انجح، فلماذا اخاف .. ان كان يجب ان اموت ساموت بشجاعة .. لم اعرف الهزيمة يوما، ولن اعرفها حتى في موتي ونهايتي، لقد فشلت في وصولي لهدفي، ولكني لم اشعر بالهزيمة لأن الذي هزمني يستحق ذلك .".
ـ "والان يا مرح ماذا سيحدث؟ هل سننجو ام سنموت... ومتى... ولماذا الانتظار ...". ـ "لكل شخص نهاية، هي اتية لا محالة، فلا تهرب من نفسك وواجهها، واستقبل النهاية بقوة وشجاعة، ولا تدعها تهزمك .". ـ" افهم من كلامك ان لا امل ؟". ـ نعم يا حسن لا يوجد امل، "فالسبع الصفر" لا يتحركون الا للابادة والقتل، وقوانين عالمنا تسمح لهم بابادتنا، وهؤلاء بالذات بعد القانون وقبله، وانا وانت قمنا بالقتل، كل على طريقته، وتجاوزنا الممنوع، ودخولنا الى هذه المنطقة بالذات، "بوابة الشر" ، يسمح بابادتنا تلقائيا وبغض النظر عن كل ما ذكرت، فنحن قد علقنا هنا، ولا طريق للعودة، ولا طريق للتقدم، وايضا بهذه الطريقة قد انتهينا". ـ "انت قتلت، هذا صحيح، ولكني انا لم افعل هذا بمحض ارادتي،أنتم سيطرتم علّي ودفعتموني لذلك، فما ذنبي انا ؟". ـ "لا تكن كالاطفال، لقد قتلت بمحض ارادتك ولم يجبرك احد على ذلك، ولا حتى نور،صحيح ان هناك تأثير، ولكن حتى هذا بمحض ارادتك وانتهى، انت تعلم ذلك جيدا ". قلت لها ولم يتبق من الكلام ما يقال الا أي كلام والسلام، لاهدار الوقت حتى يحين موعد الاعدام: ـ اصدقيني يا مرح، هل كنت فعلا ستقتلينني لو نجحنا ودخلنا بوابة الشر. ـ " كنت سافعل ذلك، لا لاي سبب، ولكن لانك كنت الشاهد الوحيد على قتل نور والقطط، ولو وقعت في ايديهم فسيعرفون كل ما حدث من خلال دماغك، ولكن بعد حضور الحكيم "دابارا" الامر لم يعد سرا، ومجلس الحكماء علم بالامر ، فلم تعد هذه الفكرة قائمة، ولم يعد لدي سبب لقتلك، لانك لا شيء، ولا تشكل اية خطورة من أي نوع.".
سألتها: ـ "لماذا لم تقتلي الحكيم "دابارا " وكان بامكانك ذلك وخاصة انه قد عرف، لماذا تركتيه يذهب؟".
ـ" لم اكن لافعل ذلك ابدا، فهو ليس مجرد حكيم، انه جدي والد والدتي، ولنقل لو اردت ان اقتله فماذا كنت ساستفيد، ان علم الحكيم فهذا يعني ان مجلس الحكماء بأسره قد علم، وماذا تظنني؟ انا لا اقتل يا حسن لمجرد القتل، ان لم يكن السبب يستحق ذلك ما كنت افعل."
ـ ماذا يوجد خلف هذه البوابة بالضبط ؟
أجابت : ـ "انا لا اعلم، كل ما اعلمه انه هناك توجد قوة الشر، وكل من ملكها يستطيع السيطرة على عالمنا، فهذه القوة تمتاز بخواص عالمنا وعالمكم، وهي سر دفين منذ الاف السنين .".
ـ "ومن هؤلاء الذين ترددت كثيرا لتقومي بقتلهم .". ـ " انهم " السر الاكبر " المختفي منذ ازمان، ولا اريد الحديث عنهم، ولا تسالني .". ـ "اصدقيني يا مرح، هل كذبت علي بأي شيء يخص غادة .؟".
ـ "كلا يا حسن، لم اكذب عليك بخصوصها، فغادة احبتك فعلا وضحت من اجلك وسجنت، وهي الان موجودة في السجن الذي لا يخرج منه احد، ولم يكن بمقدوري مساعدتها برغم مكانتي العالية في عالمي، وغادة اختي فعلا، وكانت بالنسبة لي اهم شيء في حياتي رغم اني كنت استسخفها دوما، واعتبرها ضعيفة، لقد كانت رمزا للحب والعطاء مثلما كنت انا رمزا للقوة والشر، ولا اخفي اني كنت احيانا اقلدها، ولكنها كانت تكره سلطة "الكاتو"، وكانت تكره النظام، لقد كانت تشعر دائما بان عملي في سلطة "الكاتو" قد اخذني منها وابعدني، ولو كنت بجانبها واعطيتها الوقت لما تورطت معك، وكان هذا مصيرها، ويا للسخرية: رمز الحب انتهى في سجن، ورمز الشر كان سينتهي في نفس المكان ولكنه سينتهي الى الابد، وانت يا حسن محظوظ، فبسببك انتهت غادة الحب، وامامك ستنتهي مرح". سألتها: ـ " لو سألك هؤلاء الاشخاص قبل ان يقتلوك: ماذا تتمنين، فماذا ستطلبين ؟". ـ "ان لا يعرف احد قصتي وما فعلت.. وانت يا حسن ماذا كنت ستتمنى ؟" ـ "ان يتركوا غادة وبصدق لا اريد شيئا اخر .". ـ "لو حصلت على قوة الشر لكنت استطعت ان اخرجها من محنتها..". فأطرقت بالتفكير وانا اتأمل هذه المخلوقة، واتساءل في نفسي عن حقيقة مشاعري تجاهها، هل انا اكرهها ام احبها ، اشعر انها سبب دماري ونهايتي، اتأملها وهي تقف امامي،" والسبع الصفر" حولنا،واننا في أي لحظة سنصبح جزءاً من الماضي، واقفة تنظر الى السماء شاردة الذهن، انا اعلم بل على يقين، بانها حزينة وخائفة ومهمومة ومرعوبة اكثر مني بكثير، ولكنها حتى اللحظة الاخيرة تحاول ان لا تظهر امامي ضعفها وهزيمتها، حتى وهي تنتظر الموت تتصنع الانتصار، وكانها تقول: لن تهزموني حتى في موتي، لن تروا الهزيمة، انا اعلم ان الحقيقة غير ذلك، وارى انها تود ان تبكي وتبكي على النهاية التي وصلت اليها، لا افهم لماذا اشفق عليها اكثر من اشفاقي على نفسي، وانا اواجه نفس المصير، هل لاني ابن بشر ومشاعرنا نحن البشر متناقضة تتأثر بالموقف والحدث الذي نحياه، وتتغير مشاعرنا في كل لحظة وحسب الظرف، او ان اشفاقي سببه انها كانت مثالا للقوة التي لا تهزم واصبحت في لحظات لا شيء؟.. اتأملها من جديد، من اخمص قدميها حتى راسها في جو من الصمت الرهيب في انتظار الموت.. فجأة.. دبت الحياة في "السبع الصفر" ،وتحركوا ودب الذعر والخوف في قلبي لدرجة ان ساقاي لم تعد قادرة على حملي، وسقطت على الارض، وقلبي يخفق ويدق بقوة، ومرح رفعت راسها الى فوق واغمضت عيونها ووقفت بشموخ وكبرياء.. تحرك "السبع الصفر" مزق الصمت، ومزق معه قلبي، في لحظات، او اقل من لحظات، وددت ان اصرخ فلم استطع، لان صوتي لم يتحرك من حنجرتي، تخيلت كيف سيقتلونني ، تحرك الرجل الاصفر وابتعد عنا ما يقارب المائة خطوة ووقف، لحقت به المرأة الصفراء، ولحق به الرجل الاصفر الثاني، ولحقته المرأة الصفراء الثانية، ثم الرجل الاصفر الثالث، وهكذا دواليك، حتى وقفوا جميعا بجانب بعضهم البعض، وقاموا بالاصطفاف على شكل رقم ثمانية بالعربية، ومرح ما زالت ترفع راسها وتغلق عيونها .. امسكت بساق مرح وهززتها، لم تتحرك، امسكت بها بكلتا يدي لالفت انتباهها لما يجري، ولكنها وقفت ساكنة، صرخت بها قائلا : ـ "انظري يا مرح ..". فتحت عيونها ونظرت الّي، لم تر "السبع الصفر".. ذهلت والتفت الى حيث ركزت عيوني واخذت تترقب معي، وانا لا افهم ما يحدث، هل ابتعدوا حتى يهجموا علينا ويبيدوننا، تخيلتهم كالثور في حلبة المصارعة كيف يبتعد ويستعد للهجوم ... ثم يهجم . انهم الان يصطفون استعداداً للهجوم، تخيلت انهم وقفوا على شكل رقم ثمانية ليشكلوا مقصا ليقصوننا، او انهم يتشاورون عن كيفية الطريقة التي سيبيدوننا بها، لحظات حتى بدأوا يغوصون في بطن الارض رويدا رويدا، الاقدام ثم السيقان، لم يعد يظهر منهم سوى الرؤوس، وهم على نفس الطريقة التي اصطفوا بها، ثم اخذ ما ظهر منهم بالغوص في عمق الارض، حتى اختفوا تماما، وبعد ذلك ظهر دخان عبق المكان الذي اختفوا فيه، واخذ الدخان يدخل خلفهم في جوف الارض ايضا، حتى اختفى . اخذت اسأل مرح كالاطفال الصغار : ـ "وين راحوا .. وين راحوا ؟". ومرح لا تجيب، اخذت انظر حولي لأتأكد إن كنت احلم، واحث مرح ان تكلمني، ولكن مرح جلست على الارض واجهشت بالبكاء كطفلة صغيرة، وبصوت عال، بعد ان اخفت وجهها بكفيها، واخذت تبكي بحرقة وبطريقة هستيرية، تهز راسها وتضرب بيدها على فخذيها وتعيد كفيها على وجهها، وتبكي ودموعها تسقط بغزارة ، لم ار في حياتي مثل هذا البكاء وهذا الحزن، الا مرة واحدة قبل سنين طويلة، حينما بكت خالتي ونحن ندفن ابنها الذي مات في حادث سير، ومرح ما زالت تبكي، حتى ان ما اراه امامي من تصرفات مرح قد انساني كل لحظات الخوف والموت التي مرت قبل دقائق، واخذت اصرخ فيها: ـ " ارجوك ..كفى.. كفى.. ماذا حصل؟ ..ماذا حصل ؟..". قالت وهي تبكي
يتبع>>>>>>>> الحلقة 45