الجزء ( 65 )
ويدسُّ جسده خلفها، أحاط بطنها بذراعه وملامحه تغرق بخصلاتِ شعرها الطويلة، يا ليلي أنتِ! إني لوجه الله أترك الحياة أمامِك، لأجلِ الحُب أتركها ولكن! عيناكِ ما سرُّها؟ ما سرُّ النكران وأنا محجرُها يا غادة. تعالي، أقبلي كحشدٍ مستبِّد إني أرضى بإستبدادي، أقبلِي كحكومةٍ ترأسني إني أرضى بظُلمي، تعالي لأقُول لكِ فقط أني أحبك، تعالي كـ غادة، كروح غادة، كعيْنِ غادة، تعالي حتى أعيش، حتى أتنفس بصورةٍ طبيعية، أنا والله من بعدكِ لم أرى شيئًا يستحقُ العيش وكيف أرى بعد أن كُنت أرى الغديرُ من ضحكتكِ ينساب؟ والجنَّة بين هدبيْكِ تُرى؟ كيف أرى بهذا العالم شيءٌ يستحق التأمل وأنتِ كُنتِ حبيبتي؟ كُنتِ يا غادة والآن؟ هل تكفي المساحة؟ هل تكفي لأقول " آآآه " هل ستشعرِين ببحَّة قلبي ؟ قاسية جدًا قاسية على رجل يراكِ من هذا الكونُ كونًا آخر، قاسية على رجلٍ يُقدّم لكِ قلبهُ قربانًا ؟ أستجيبي .. من أجل الله أستجيبي ليْ لمرَّة، قولي أنكِ أشتقتِ! لا تتركيني أمُوت ولم أسمعها منك! لا تتركيني أغرق وصوتُك طوق نجاتي. لا تتركيني يا غادة وأنا عطشان، تعالي و أرويني بماءِك، - يستنشق عنقها ليشدَّها نحوه أكثر بوجعٍ أكثر – هذا الجسد كيف ينساني؟ وأنا الموشومُ بك من مفرقِ رأسي إلى أقدامي! هذا الجلد الذي يحبسُ كلماتنا وضحكاتنا كيف تفكرينه بهذه الخشونة! كيف تمحين – قلبي – بسهولة. أنا حزين! حزين جدًا وأشعرُ بالوحشة رُغم أن جسدك يُدثرّني.
تحركت وهي تتضايق من حصاره، فتحت عينيْها لتنظر إليْه بجمُود بعد أن نامت و بكائِها يتلحفها، حاولت أن تسحب ذراعها ولكن لا حيلة للهروب ويديْه تُثبتها من كل جهة، بهمس مبحوح : ممكن تبعد!
لا يُجيبها ليغمض عينيْه ورأسه يضعه على كتفها، وبمثل همسها أوجعها : إذا كان بُعدك واقع أتركيني على الأقل أحلم.
غادة صمتت لثواني وكلماته تصبُّ في قلبها كندباتٍ مالحة : لا توجعني أكثر .. أتركني لو سمحت.
ناصر بلهيبِ أنفاسه يشدُّ عليها حتى كادت تدخل به : لا تقولين لو سمحت
وتشعرُ بالألم من قبضته على جسدها : ناصر أتركني أوجعتني
ناصر بهذيانِ حُمى الحب : 5 سنين كيف تنسينها ؟ أنتِ اللي أوجعتيني .. شوفي وش سويتي فيني! مريض فيك وتعبان منك ..... ليتني ماعرفتك . . ليتني صدقت موتك وبقيت عليه، أحزن عليك ولا أضيق منك!
نزلت دمعتها بنهايةِ كلمته الأخيرة، وإن نسيتُ من أنت ولكن هذه الكلمة تُهين قلبي الذي لا يشعر بك، تُهينه لأنه متخم بالكبرياء الذي لا يروق له بأن أحدًا يندمُ على معرفته به.
يُكمل بصوتٍ ينامُ به الحزن : كنتِ تقولين الحب ما يموت! كلهم يشهدون عليك! هالجدران هذي تشهد عليك! ليه مات في صدرك حُبي؟ ليه ذبحتيني وأنا المتشفق عليك! . . . . مين المخطي؟ انا ولا أنتِ! . . قلبك هذا من أيش؟ قلبك هذا أناآآ . . وين ضيعتيني ؟ وين تركتيني ؟ . . .
وبهمسٍ يمُوت تدريجيًا : رديني . . ردِّي لقلبي حياته
تتحسسُ الحمرّة التي تنسابُ من صوته، يندفعُ قلبه بإتجاهِ صدرها الرقيق، أستسلمت من قوَّاه بين ذراعيْه، لم تستطع أن تقاوم وأفلتت كل وسيلة للمقاومة بعد كلماته، كيف تكون لهذه الكلمات حوافٍ حادة تقتلني بهذه الصورة؟ يالله يا ناصر! لو أنني فقط أسترجعُ نفسي حتى أعرفُ كيف أسترجعك.
همست بين ظلامِ الغرفَة والهواء العابر دُون أن يغطيهما شيء، كانت أجسادِهم الباردة تُدثِّر نفسها بنفسها والفراش يُغطي أقدامهما فقط. : عطني وقت! بس وقت عشان أصلح نفسي.
ناصر وهو مغمض عينيْه : عطيني عُمر! وأوعدك بالوقت.
شدَّت على شفتيْها حتى لا يخرج أنينها، لم تستطع أن تتمالك نفسها أمام كلماته المندفعة بعاطفته، هذه العاطفة الرجولية تكسرها بعنف، بضراوة لم تتوقعها. ببحَّةِ البكاء وعيناها تغرق بالدمع وهي لا تستطيع أن تلتفت إليْه ما دام ظهرها يلاصق بطنه وهو يستلقي على جانبه الأيمن : تكفى ....
ناصِر : تبين تبعدين؟ تبين تصلِحِين نفسك بعيد عنِّي! يا قساوتك
غادة وضعت يدها على ذراعيه وهي تحاول أن تفكّ قيده على جسدِها : أرجوك . . والله مافيني طاقة أتحمل كل هذا
ناصر بعنف يشدّها أكثر وهو يضغط على بطنها حتى شعرت بأنه يخترق جلدها ليطحن أحشائها بقبضته، وبنبرةٍ حادة تتركها تصرخ بألمها : أنتِ ليْ.
بضيق حنجرتها : آآآه . . خلاص .. تكفى خلااااص أوجعتني
بغياب الوعي التام يؤلمها بمفاصلِ يدِه المشتاقة، أزداد بضغطه وأزدادت بألمها، غرزت أظافرُها في ذراعه وهي تهمسُ بين أنفاسها المضطربة : نااااصر ...... كافي .. كااااااااااااااافي
بهذيان : تتذكريني! متأكد أنك تتذكريني مستحيل تنسيني لكن فيه شخص ثاني بحياتك! فيه شخص تبينه ..
فتح عينيه ليُكمل : تبينه صح؟
غادة : ماأبي أحد . . أتركني واللي يرحم والديك
ناصر : تبين وليد؟ . . . وليد بسنة خلاك تنسين 5 سنين من عُمرك! أنا بس بسألك شي واحد وبعدها بتركك
أرخى يديْه لتتنهَّد براحة بعد أن شعرت بالغثيان من معدتها، أستلقت على ظهرها وهو يفكّ قيد جسده منها، نظر لعينيْها المُضيئتيْن بالدمع كما تُضيء السماء في هذه اللحظات بماءها.
أردف : مين قال أنه المطر أنت وأنه السما ما تشبه إلا عيونك ؟
غادة تجمدَّت حواسُها في لحظةٍ لا تعرفُ ماهية نبرةُ الأحداث التي تجري على لسان ناصر.
أبتعد ليقف، يُراقب شفتيها، لا يُريد أن يفقد الأمل و موسيقى الحزن تضربُ في قلبه، أنتظر لدقائِقٍ طويلة وهو ينتظر جواب! لاتصمتِي! هذه المرة أرجوكِ اكذبي وقولي أنا وجهتُ هذا الخطاب لعينيْك. من أجل الله لا تكسري مجاديفُ الأمل في قلبي.
أرتجفت شفتيْها ليشعُر بأملٍ أن تتحدَّث ليُصدَم بفظاعة الخيبة وهي تنطق : تضغط عليّ كثير.
من يداوي الخيبات في صدرِي؟ من يشقّ طريقه لقلبِي ويضمِّد جراحه؟ من يعتذر عنها نيابةً؟ من يعتذر عن حزني هذا وسأعفُ عنه! أنا أحتاج وبشدَّة لشخصٍ يقرأ عليّ آياتِ السكينة، أن يقول " وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ " علَّه ينتشلنِي من وعثاء الحياة، يالله لا تُميت بي الحياة بهذه الطريقة.
تراجع بخطواته مضطربًا، وصوتُها الخمري يغشى عليه ليستذكر ذاك اليومٍ الماطر أسفل سماءُ باريس كان صوتُها أغنية، كيف تنسى لحنها؟
بتراقصات المطر تسيرُ معه وذراعها تتأبطُ ذراعه : أعلمك شي !
ناصر : وشو
غادة : جايني حس الشاعرية اللي عندك
وترجفُ شفتيه من البرد وأنفاسه البيضاء يزفرها : سمعينا
غادة تتنحنح لتُردف بصوتٍ عذب : و أعطشك! وأنت المطر وهذي السماء ما تشبه إلا عيُونك.
ناصر بإبتسامة شاسِعة : الله الله صح لسانك! . . . يسمح لي مقامك أني أرد عليك ؟
غادة بخجل شفاهِها التي تُصيِّر أنفاسها للبياض وهُما يدخلان الممر المغطى حتى يقيهما من المطر : إيش ردِّك؟
ناصر يقف لتلاصق أقدامه أقدامها ويدِه تُلامس ظهرها الناعم وعيناهما تُغنِي الصمت: البدر يقول .. انا قلبي عصفورك وباقي الصدر اعشاش.
عاد لواقعه، لِلاإتزان الذي يتشكلُ بها، أعطيني الكلمات حتى أسترجعك أغنية، أنا عرفتُكِ لحنٌ لا ينسى كيف قطَّع أوتارهُ ونسى؟
كيف نسى وأنا قرأتُ على قلبك المعوذتيْن و " أحبك " ، كيف نسيَ صخبُ القصائِد المقروؤة بيننا، قلت لكِ مرّة بلهجةِ مُهندس الكلمة " إنتِ عيونك هالمدى بحر وطيور مهاجرة " والآن بمثلِ القصيدة أُعيد لكِ المقطع " إنتِ عيونك نجمتين ضي ورا ضي يعود، ويادوب غابوا ليلتين خلو شموس الكون سود ، رحتي ولا ظنك تجين .. وين الوعد يامفارقه "
أتجه خارجًا وقلبهُ يسجدُ بحزنه ولا يضربُ بأوتارِ صوته سوى جملة مبحوحة – وين الوعد يا مفارقه ؟ -.
،
خرج من الحمام و المنشفة السوداء تُغطي جزءه السفلي وتُعرِّي صدره الصاخبُ بعضلاتِه المشدودة، بلعت ريقها لتضيع كل الكلمات التي جهزتها لتُلقيها بوجهه بعد أن شعرت بأنه لا نية له للحديث والنقاش، بللت شفتيْها بلسانها لتُردف : ممكن أحكي معك شوي!
ريَّان : طيب ممكن ألبس أوَّل ؟
شعرت بالإحراج يدبُّ بوجهها كقبائلٍ محمرَّة، أخذت نفس عميق لتُغمض عينيها لثواني معدودة حتى تتخلص من ربكتها : قصدي بعد ما تلبس . . . أبتعد متجهًا ليرتدِي ملابسه، أستغرق دقائِقه الممتدة ويستلذُ بجعلها تنتظر طويلاً، خلخل أصابعه بشعره المبلل وهو يتجه نحو الأريكة المقابلة لها : إيه وش عندِك ؟
ريم : أنت ما ودِّك تتكلم معي بشي؟
ريَّان ببرود وهو يسند ظهره على ظهرِ الأريكة : لا
ريم تحاول أن تُرخي أعصابها وأن تُطيل بمزاجها الهادىء معه : أظن صارت أشياء لازم نحكي فيها
ريَّان : وش الأشياء ؟
ريم : ليه تحكي معي وكأنه ما صار شي؟
ريَّان : يعني تبيني أناقشك بإحترامك وأنك طلعت بغيابي وبدون إذني؟ ولا أقول كيف أخوك الكبير المحترم جاء من الرياض عشان ياخذك! ولا أثقفك بواجباتك وبأنك ملزومة ما تطلعين بإذني! وأظنك تعرفين بالدين وتعرفين وش الواجب وش المحظور!
ريم بهدوء : الحين رحت عند أغلاطي وما شفت وش سويت قبلها! أنا بحياتي كلها ما أنمدت يد أحد عليّ وأنت بسهولة تمدَّها! وأظنك بعد تعرف بحقوقي اللي عليك!
ريَّان : أنتِ الغلطانة من البداية وحطي هالشي في بالك
ريم : لا ماني غلطانة! صبرت في تركيا وقلت معليش بس أنك تحرجني قدام أهلك كل يوم وكل ما سألوا عنك سكت وما عرفت كيف أجاوبهم ! أبسط شي عنك أنا أجهله! وفوق هذا طول اليوم طالع من الصبح لين الليل ماأشوفك ولا تشوفني! و لو مااصحى قبلك يمكن ما كان شفتك أبد!
وبإندفاع أكملت : يا روحي أبسط الأشياء اللي مفروض تكون بيننا معدومة.
صمت ينظرُ إليْها بعينٍ ثرثارة لا تفهمُ ريم منها شيءً سوى جمودها، أطال صمته لتقطعه ريم : ليه سكت؟ يالله برر ليْ
ريان : لغة نقاشك ما تعجبني!
ريم أمالت شفتها السفليَة : وأيش يعجبك إن شاء الله ؟
ريّان يتجاهلُ كلامها الأخير : أولاً أنا ما قصرت عليك بشي! لكن أنتِ اللي تبدين بكلامك وتستفزيني وأنا إنسان عصبي! يوم مديت إيدي عليك شوفي من بدآ .. كنت أسألك وكنتِ مستفزة بأجوبتك يعني أنتِ كنتِي تبينها من الله عشان تختلقين مشكلة. ثانيًا سالفة أنك تبشرين أهلك عند كل مشكلة تصير هذي كارثة بالنسبة ليْ! منتِ بزر عشان تخلين أخوك يدري عن أدق الأشياء اللي بيننا
ريم بسخرية : هذا إذا بيننا أشياء
ريَّان بهدُوء : شفتي ! لاحظتي نفسك كيف تتكلمين! وتبينا نتناقش بعد .. الكلام معك ضايع لأن أنتِ حتى السلام ويخب عليك بعد . . . وقف.
ريم بعصبية أحمرّت بها عيناها : لما يكون كلامي كِذا فهذا يعني أني مقهورة! ولاحظ أنه عمري ماأهنتك بكلامي لكن أهين المضمون نفسها لكن أنت! تهينني عند أول كلمة .
ريّان بضيق : طيب يا ريم
ريم تكتفت وهي تقف : وشو طيب؟
ريَّان : أعطيكِ إياها من الآخر. . أنا بالزواج ما أمشي .. خليك هنا معززة مكرمة لا تناقشيني ولا أناقشك لك حياتك ولي حياتي .. أتفقنا ؟
ريم أرتجفت أهدابها لتُردف : كيف لي حياتي ولك حياتك؟
ريَّان : أنا وياك ما نضبط مع بعض فخلينا منفصلين أحسن لي وأحسن لك
ريم : وش مفهوم الزواج عندِك؟
ريّان :تأكدِي أنك منتِ فاهمته بعد.
ريم : طيب ليه رجعتني ؟
ريَّان بإذلال : مزاج!
ريم بهدُوء يُغطي ثورة حزنها وغضبها : وأنا تحت رحمة مزاجك ؟
بصمت أعطاها ظهره، بحدَّة أوقفته : دام ما أنتهى كلامي ما تعطيني ظهرك وتروح!
ريَّان ألتفت عليها وبنبرة ساخرة : أبشري عمتي .. أيّ أوامر ثانية ؟
ريم بغضب سارت بإتجاه الحمام لتصفع الباب بقوَّة، تشعُر بغضبٍ عارِم يستدعي بها الحال أن تكسر كل شيء أمامها، أن تُفرغ كل هذه الشحنات و الشتائِمُ تتوافد على لسانها، أنا الغبية التي خططتُ للزهر الذي سيعانق احلامنا ولم أرى الأحلام بعد، أنا الغبية التي فكرتُ بالحدائِق ونسيتُ البذور! أنا الغبية التي رأيتُك حياةً ثانية وجئت موتٌ أثبت لي بأن هُناك موتٌ في الحياة لم نلحظه بعد.
،
أقتربت من النافذة بخُطى مرتبكة عينٌ تراقب ضي الملتوية حول نفسها وعينٌ أخرى تحاول أن تتلصص لِمَا خلف الستار، خشيْت أن ترى شيئًا مروعًا، وقفت عند النافذة كثيرًا ولا تملك الجرأة أن تُبعد الستارة قليلاً حتى تنظر وتتأكد، قرأت كل الأذكار التي تحفظها وكل الآيات التي أتت على بالها، قطع كل شيء رنين الجرس الحاد الذي أشعل في قلبها خوفٌ ما بعدهُ خوف،
ضي برجفتها تُقطِّع أظافرها بأسنانها: يمكن اللي جايبهم عبدالرحمن!
رتيل ألتفتت عليها وهي تضيعُ بالكلمات حتى تلحفت بالصمت، شدَّت على بلوزتها الصوفية الواسعة وشعرُها الداكن المموَّج يصطف خلفُ ظهرها، أتى صوتُه الرجولي الصاخب : يا أم سعود!!!
ضي شعرت بأن راحة الكون هبطت على قلبها لدقائِق، رتيل تنهدت لتقف خلف الباب : أيوا
: أنا نايف أكيد قالكم بوسعود .. على العموم راح أكون برا إذا أحتجتوا أيّ شي.
رتيل : طيب يعطيك العافية . .
أختفى صوته لتخطُو بسرعة نحو الشباك وتفرج جهةٍ بسيطة حتى ترى بوضوح : إثنين مو واحد
ضي : الحمدلله ..
أتجهت نحوها : للحين يوجعك بطنك ؟
ضي : تقلصات تجي وتروح
رتيل بعفوية : هُم اللي يحملون كذا ولا ممكن شي خطير!
ضي وتُشاركها جهلها بهذه المعلومات : لا أتوقع طبيعي .. إن شاء الله طبيعي لأن من فترة وهي تجيني
رتيل : طيب بسوي لك شي تآكلينه . . . تقدمت نحو المطبخ المكشوف على الصالة، أبتسمت وهي تنظر للأغراض التي أشتراها عبدالعزيز : وش ودِّك فيه ؟
ضي بخمُول تستلقي: أيّ شي
رتيل : طيب لا تنامين . . . أفرغت الأكياس لتُلملمها بكفُوفِها حتى ترميها، أتجهت نحو الرفُوف لتستكشف الأغراض والأواني، أخرجت كُوبيْن وطبقيْن لتُغسلهما جيدًا، بدأت تبحثْ بأسرع شيء تصنعه، قلبت كيس المعكرونة بين يديْها لتبحث عن إناء تضعه بها، أستغرقت دقائقها الطويلة وهي تبحث بكل درج، حتى وجدته غسلته جيدًا لتبدأ طبختها السريعة، أسندت ظهرها بجانب الفرن بإنتظارها أن تنضج، لتغرق عينيها بالطعام المعلَّب والأكياس الصغيرة، أنتبهت للصلصة، تقدَّمت إليها لترفع عينها لضي : ضيوو لا تنامين ..
ضي بصوتٍ ناعس : صاحية . .
رتيل تفتح الصلصة لتُردف : الكولا مضرة للحامل ولا ؟
ضي : لا ما أتوقع يعني عادي
رتيل : تشربين عصير مع مكرونة ؟
ضي : وش جوك رتيل !!
رتيل أبتسمت محاولةً تجاهل كل هذه الظروف : فيه ناس يشربون عصير والله! عشان نتطمن أكثر ..
ضي وهي تمسح على وجهها : طيب .. خلصي هالشي اللي مو راضي يخلص
رتيل عادت للفرن لتُغلقه، وزعت المعكرونة على الطبقيْن لتضع فوقهما الصلصة، أخذته لتجلس بمُقابل ضي : طيب نقدر نطلع مع هاللي إسمه نايف! على الأقل نرجع بس نجيب ملابسنا
رتيل : لآ مستحيل! خلينا هنا أخاف يصير شي هناك! . . نكلمهم نخليهم يروحون يجيبون لنا .. يعني واحد يجلس معنا والثاني يروح يجيب!
ضي : لا فشلة!
رتيل : أجل كيف نطلع؟ . . طيب أطلع أنا وتجلسين أنتِ مع واحد فيهم؟
ضي : أخاف عبدالرحمن يعصب!! أو يصير شي لا سمح الله
رتيل : لآ ماني راجعة لباريس نشوف شي قريب من هنا! . . بطاقتي معي
ضي : بس يتصل أبوك نقوله
،
سمعت صوتِه وهو يقترب من الباب، وعقلها يخيطُ حيلةً للهروب، أستلقت على الأريكة وهي تمثِّل النوم مغمضة العينيْن، فتح الباب ليطِّل عليها، نظر لهدُوئها وغرقها بالنوم، تقدَّم إليْها ليجلس على ركبتيْه فوق السجَّاد بمُقابلها، فرصَة تأملها وهي هادئة مغرية جدًا لعينيْه، وضع يدِه على جبينها ليسحبها لفوق حتى يُزيل حجابها، لأولِ مرة يرى شعرها بطبيعته بعينيْه وليست بعينِ الصور، وإن حسبتُ عمري فإن ميلاده بين خصلاتِ شعرك ونُضجه عندما أبصرك، وإن عددتُ كم من موتٍ عشته؟ فهي كل اللحظات التي قضيتها وحيدًا وأنا منذُ أحببتك جربت لأولِ مرة كيف يكون العيش، كيف أتنفس بصورةٍ منتظمة وأنا أستشعرُ بالهواء الذي يدخل إلى رئتي، كانت حالة الحُب ومازالت ذنبُ الحياة الذي لم أطلب غفرانه يومًا ولم أطلبُ نسيانه، أتلذذُ بهذا العذاب القهري وعيناكِ مغفرة، أتلذذ بقساوة أهدابِك التي تُشبه الحدائِقُ الغنَّاء، على الداوم تُغريني للرسم، تُغريني للكتابة، أنتِ الملهمة في كل شيء وفوق كل شيء. هل أبتسم لأنك زوجتي وهذا الحلمُ أصبح واقع أم أحزن لأنكِ ليست زوجتي بالمعنى الصحيح! ولكن لي الحق أن ألمس شعرك الذي أحب، لي الحق دُون أن يغضب الله منَّا بأن أتحسسُ ملامحك.
شعرت بقلبها يرتبك مع لمساتِه، وشعرها الذي بدأ يتخلخله الهواء، أندفعت الحُمرة من صدرها لتسحب من أسفل جسدها العصَا الخشبية التي كسرتها من الكرسي حتى ضربته بها، أنحنى ليضع يده على رأسه، في جهةٍ أخرى هرولت سريعًا كانت ستسحب حجابها ولكن لم تستطع، تركته لتخرج من الغرفة، نظرت للمساحة الواسعة من الشقة التي شعرت لوهلة أنها بيْت، تقدمت نحو الباب الخارجي لتفتحه لتشعر بأن الحظ يبتسم لها وهي تنظرُ للدرج الخاص بالعمارة خاليًا، نزلت سريعًا لتقف بالمنتصف وهي تسمع الأصوات التي بالأسفل، أقشعر جسدها من الحرس الذين لمحتهم، لم تُفكر كثيرًا وهي تشعر باليد التي تلفُّ ذراعها، دُون أن ينطق شيئًا سحبها للأعلى، أدخلها الغرفة ليغلقها وبغضب بعد أن تجرَّح رأسه ونزف بدماءِه : المنطقة كلها رجال أبوي! يعني وين مارحتي راح يشوفونك!!! أفهمي هالشي!
عبير بضيق : أبغى أطلع
فارس بعصبية أنفجر : يالله أطلعي وريني كيف بتطلعين
عبير أختنقت محاجرها : لآ تصارخ عليّ!
فارس تنهَّد : ليه مو راضية تفهمين؟ قلت ماراح أضرِّك بشي! والله يا بنت الحلال ماراح أقرب لك . .
جلست على طرفِ السرير السُكرِي ذو النقوشات السوداء، أخفظت رأسها لينساب شعرها عليْها، تفقد الأمل في كل لحظة تمِّر، تفقد الأمل في الخروج من هذه الدوامات، أنا التي بقيتُ لأيامٍ أواجه أرق حُبك كيف تأتِ بهذه السهولة؟ كيف بهذه البساطة يحدث كل هذا دُون ان أفكر، متى أتطهرُ من هذا الذنب؟ كيف أكفِّر عنه؟ . . ويبقى حُبك مشيئة وأنا التابعيةُ له.
فارس بهدُوء : عبير
عبير : ماأبغى أتكلم معاك، ممكن ؟
فارس بضيق يسحب الكرسي ليجلس وبين يديْه حجابها : وأنا ماراح أتحرك من هنا
عبير غطت ملامحها بكفيّها لتدخل بغيبوبة بكاءها الصامت.
يتأملها بخفُوت، ينظر لتلاعب خصلات شعرها وتبادلها الأدوار لتغطية وجهها، لو كان لهذه الخصلات صوت؟ أكانت ستصرخ بعراكها على ملامحها، لو أنني فقط أستطيع أن أتقدم خطوة إليْك دُون أن تضجري لمَا ترددت.
أطالت ببكائها وفوق ما يتصوَّر تؤثر به، تغزي قلبه بحنيَّةِ السماء والأرض معًا، أنحنت لتنزع حذاءها دُون أن تنظر إليْها بينما هو كان لا يرمش من مراقبة تفاصيلها الدقيقة، أخذت خصلة من شعرَها لتعقد بها بقية خصلاتها كذيل حصان، مسحت دموعها وهي تتجاهل وجوده، مدَّت أكمامها لتُدفىء كفوفها وعينيها الباكية مثبَّتة على الطاولة.
لم يستطع أن يقاوم هذا الجمُود وهذا الصمت وهي أمامه، وقف متجهًا إليْه لترفع عينيْها والإعتراضات تتضح من نظراتها. : بردانة ؟
عبير بقيت صامتة وعينيها بعينيْه، هذا الأسمر هو الذي كان يواصِلُ غزو قلبي طيلة الشهور الماضية، هذه العينيْن " الولعانة " هي التي كانت تستشف حالتي وتواسيني، يا سُلطة الجمال إذا نضجت عند الرجال! يا قوة هذه السلطة. كيف أفلت منها؟
شعر بأنها تسرح به، ليُعيد سؤاله : عبير بردانة ؟
أخذت نفس عميق وشفتيْها ترتجف : لا . .
فارس : محتاجة شي؟
عبير بربكة كلماتها : أبغى أكلم أبوي
فارس صمت لثواني طويلة حتى أردف : مقدر
عبير شدَّت على شفتها السفليَة تُصارع قوَّاها الداخلية التي تنهار، لم تعتاد أبدًا أن تمر أياما دُون أن تسمع صوت أبيها، تشعر بإشتياق فظيع إليه، إشتياق الخوف من الفقد. تجمَّعت دموعها في محاجرها حتى تضببت رؤيتها، لم ينزل على خدها شيئًا بقيت معلقة هُناك لتُضيء عينيها.
فارس حنّ عليها وعينيْها كيف تحبس الدمع لوحدها بالنسبة له مصيبة عاطفية : ترسلين له مسج ؟
عبير بنبرةِ باكية : أبي أسمع صوته
فارس : مقدر! والله مقدر . .
عبير مدت يدَها لتسحب الحجاب من بين يديْه ولكن ثبَّت يديْها به، أرتجفت أطرافها لتحاول أن تسحب يدها ولكن كانت قبضته أقوى، رُغمًا عنها وقفت وهي تتقيَّدُ بين أصابعه، تلامست أقدامها المغطاة بالجواربْ السُكريَّة بأقدامه، أختلطت أنفاسها البيضاء بأنفاسه، تثبتت نظراتها بعينيْه وصدرها يضطرب بقُربه، يعتلي بشهيق ويهبط بزفيرٍ موبوء، تمرُّ الثواني بضياع مرغوب، كيف أعتاد على إسمك؟ هذا الإسم الذي بين يوم وليلة أصبح يتعارك مع لساني بضراوة؟ كيف لأربعة حروف أن تُحدث كل هذا الضجيجُ بيْ ؟ كيف لكُوبليه إسمك أن يمرُّ كقصيدةٍ حادَّة تقف بثبات دُون أن يكسرها شطرٌ ولا بيتْ، ماذا أفعل؟ أنا واثقةٌ من شيء واحد أن عيناك إجرامٌ محقق وأن سُمرَةِ ملامحك لن يذهب ضحيتها إلا أنا. كُنت أجِد الصعُوبة في نسيانك وأنا فقط سمعتُ صوتك! كنت لا أعرف كيف أنساك وأنت تخترقني بكلماتك، والآن؟ مالحل؟ مالحل أمام كل هذا؟ إن كان نسيانُ صوتك صعب فما بالُ نسيان عينيْك و ملامحك وكل هذه الفتنة؟ و يا حُزني حين ظننتُك ماءً وأتيت ليْ بكل إحتراقٍ، يا خيبةُ الظنون ويا شرّ نارك يا فارس.
أخذت نفس عميق وهي تأخذُ شهيقها من أنفاسه القريبة، سحبت يدها بعد أن أرخى أصابعه، غطت كفيّها المشتعلة بحرارتها والحُمرة بأطرافِ كمّها، شتت أنظارها وهي تبتعد عدة خطوات للخلف.
فارس يسحب شال الصُوف الرقيق ليُغطيها به ويسكن رجفتها، بخفُوت : بكون برا إذا أحتجتِ شي . . وخرج.
لا تعرف كيف تُهذِّب رجفتها بمرورِ صوته الأسمر.
خرج لينظر لوالده الذي يفتح باب الغرفة التي وُضع بها عبدالعزيز، تبعه ليسمع سخرية والده : ماشاء الله فارس مو مقصِّر معقم جروحك بعد!
فارس يغلق الباب خلفه وهو يأخذ نفسٍ عميق.
رائد يضع قدمًا على قدم وهو يجلس بمُقابل عبدالعزيز الصامت الهادىء، يستفزُه بصمته وعيناه التي تنظر إليْه ببرود.
رائد بإبتسامة : بما أني رحوم وقلبي ما يقوى أشوفك بهالحالة! بجرِّب أسألك وش ودِّك فيه قبل لا تندفن؟
عبدالعزيز بمثل إبتسامته : صلِّي عليْ
رائد وشعر بأن براكينه تُثار، لم يُخفي فارس إبتسامته من جواب عبدالعزيز المستفز بصورة رهيبة.
رائد يُخفي الغضب بهدوءه : يعجبني فيك أنك تحاول تكذب على حالك! . . وقف متقدمًا إليْه وبيدِه المشرط المعتاد : أضيِّع خرايط وجهك؟
عبدالعزيز : إذا أنت عاجز تضيع هالخرايط على قولتك وأنا واقف قدامك بدون كل هالتقييد! فغيرّها بجلوسي لأنك ماتقدر تسوي شي الا وأنا منحني!
فارس بخطوات سريعة تقدَّم نحو السلاح المثبت خشيّةً من نفاذه نحوهما.
رائِد بغضبٍ كبير مرر المشرط الحاد نحو خدِه ليُدميه كما أدمى رقبته، ركل الكرسي ليسقط بقوة على الأرضية الرخام وهو مازال مقيَّدٍ لا يستطيع الإنفلات.
تحركت أقدامه ليُحرِّك فارس السلاح بإتجاه النافذة حتى نفذت الرصاصة وتناثر الزُجاج.
بعصبية بالغة يضع قدمه على بطنِ عبدالعزيز : لا تحاول تتحداني بشي أنت ما تقدر عليه! مفهوم؟
عبدالعزيز يشعرُ بغليانِ رأسه والدماء التي تثُور هناك، غشى على عينيْه الضباب وهو الذي لم يدخل بطنه شيئًا يمدُّه بالطاقة، نظر لرائد بهيئةٍ مقلوبة ولشفتيه التي تصوِّب الكلمات الخشنَة.
رائِد : ماهو من صالحك أبد! هذاني نبهتك . . أبعد قدمِه ليغرزها بقوة في بطنه الخاوي حتى يتقيأ دماءُ لثته التي جُرحت دُون أن يصدر صوتًا وهو يحاول أن لا يصرخ ويتحمَّل كل هذا.
خرج رائِد ليتركه عاقد الحاجبيْن من طعم الدماء السيئة في فمه، تقدَّم إليه فارس بحنق وهو يمسح وجهه من الدماء وملامح عبدالعزيز تذبل بشحُوبها، رفعه من ظهره ليستقيم على الكرسي، مسح شعره الذي ألتصق ببعضِ نثرات الأرض، فارس : يوجعك شي؟
هز رأسه بالرفض وهو يشتمُ كل شيء في داخله، تأتِ خيالاتِهم على باله بصورةٍ مُفجعة، ليتني ذهبت معكم ولم أشهد كل هذا، ليتني رحلت.
فارس يجلس على ركبتيْه ليُفكِك الحبال الملتفة حول قدمِه ليشدّ على عقدة الزناد فتنطلق رصاصةً أخرى وقبل أن تأتِ سحبه فارس ليرتطم خده الغائر بجرحه على الأرض.
: آسف يا عبدالعزيز ما توقعت أنه فيه رصاص . . وقف متجهًا نحو السلاح ليفكّ الحبل منه ويعُود إليْه ليرفعه وهو يشعرُ بأنه يموت فعليًا ولا طاقة له بالكلام.
فارس : كِذا تمام ؟
عبدالعزيز بصوتٍ يضيق : إيه
فارس سحب كرسي آخر ليجلس أمامه وهو يمسح على وجهه بعناءٍ شديد ويشعرُ بألمِ عبدالعزيز فوق ما يتخيَّل.
رفع عينه إليْه : أحد أتصل ؟
فارس يخرج جوال رتيل من جيبه : لا جوالك ما جاه ولا إتصال.
عبدالعزيز أخذ نفس عميق خشية من أن أمرًا حدث لهُما، لا يستطيع أن يوصِي فارس أن يذهب ليطمئن بعينيْه ورائِد يراقب خطواته.
فارس : إن شاء الله مو صاير لهم شي .. أبوي اصلا حاط في راسه أنت وعبير! . . . أنتبه لدماءُه تأتِ من رأسه . . أنتظر لحظة.
أتجه نحو المكتب ليخرج من الدرج حبات قطن، مسح رأسِ عبدالعزيز المتوجِّع بصداعِ الدماء المغلية في دماغه.
دخل رائِد بصورةٍ مفاجئة : أطلع!
فارس تنهَّد ليُمسك الهاتف الذي في حضنه ويُمسك عين رائِد معه التي تُدقق بكل شيء : هذا جوال مين ؟
فارس بهدوء : جوالي
رائد يقترب منه : عطني إياه
رفع عبدالعزيز عينه بغضبٍ كبير دُون أن يلفظ شيئًا.
فارس : الحين رضيت تسوي فيني كل شيء لكن بعد جوالي!
يسحبه بقوة وهو يعرف ماذا يُخطط له هذان الإثنان، فتح آخر المكالمات ليجِد – جنتِي ، عبدالعزيز ، عبدالعزيز ، جنتي ، ضي –
نظر لفارس بحدة : وش جايب جواله معك؟
فارس أخذ نفسٍ عميق دُون أن يجيبه بكلمة.
بغضب يتصفح الرسائِل ليجدها أحاديثٍ بضميرٍ أنثوي، فتح الصور لتتسع إبتسامته بخبث، مدّ الهاتف بوجه عبدالعزيز وكانت صُورة رتِيل العفويَة وهي ترفعُ عينها ولسانها خارجًا وشعرُها المموَّج ينعكسُ على ملامحها البروزنيَة، وبنبرةٍ مستفزة : هذي الحلوة حرم سيادتِك!
عبدالعزيز أشتعل بغضبٍ لا يوازيه غضب وهو يصرخ : و ربّ البيت لا أذوقك كل هذا في دقيقة
ضحك رائِد بسخرية : متى بتذوقني إياه إن شاء الله؟ في القبر؟ . . أنا شكلي بغيِّر رايي وبطلعها من تحت الأرض، على الأقل تسلينا
عبدالعزيز يشدُّ على شفتيْه ويشعرُ بحرقة الغبن في صدره، رفع عينيه المحمرَّة بالعصبيَة : والله العظيم يا رائد لو لمست منها شعرة لا أجننك بمعاملاتك الجاية والله ما يهمني شي لو تذبحني ولا يهمني لو تهددني بغيري .. لا أخلي سنينك هذي كلها تطلع من عيونك قدام شركائك!
رائد بإبتسامة هادئة : يعني تبي تساوم على عبير؟
عبدالعزيز بثقة : ما أساومك عليها! ولا راح أساومك على أحد! بساومك على تجارتك
رائد بحدَّة : والله وطلع لك لسان وتبي تساوم بعد
عبدالعزيز بغضب : أترك الجوال!!
رائِد بإستفزاز يتجه لصورٍ أخرى ولم تكُن هي صاحبتها حتى وجد صورةٍ أخرى بفستانِ زواج ريَّان، قدَّم الصورة المغرية له ليُثير كل الحمم البركانية في داخله، أهتز كثيرًا محاولاً الحركة وفك القيد حتى سحب فارس الهاتف من بين يدّي والده بشدَّة ورماه على الجدار ليتفكك قطعةً قطعة.
رائد ألتفت عليه بغضب وهو يُمسكه من ياقة قميصه : ناوي تبيعني عشان هالكلب!!!!
فارس بعصبية : لأن هالأسلوب ما أرضاه على نفسي!
رائد يصفعه بقوَّة دون أن يقاومه فارس، رُغم كل شيء لا يستطيع أن يدافع عن جسدِه أمام والده ولو أستطاع لقدَر أن يتوازى معه بالقوة الجسدية. دفعه على الجدار ليصطدم رأسه فوق إصطدام العصا الأولى، بحدَّة : صدقني محد بيضيِّع نفسه غيرك! للمرة المليون أحذرك لا تحاول تلعب من وراي معاه ولا والله ما تلوم الا نفسك! لأخليك تحلم بشوفة عبير فاهم! . . . وخرج.
فارس عدَّل ياقته التي أنشدَّت بحركاتٍ غاضبة و عبدالعزيز لا تهدأ النار بداخله، يشعرُ بالغيرة تأكل أطرافه كدودةٍ لا تفكّ عن تقطيع جلده وصورتها تأتِ كجحيمٍ لاذع، عيناها المكحلة بزفافٍ يجهله تُثير في داخله ألفْ علامة غضب وغضب.
يسجد على سجَّاد المسجد الخمرِي بعد إنتهاءِ صلاة العشاء، لتخرج دمعة القهر من عينيْه التي ذاقت كل أنواع القهر ولم تبكِي، ولكن هذه المرَّة الأمرُ يتعلق بـ - قطعةٍ من روحه - ، كيف يتحمَّل قلبي لذاعةُ الأمر و رُوحي تختطف! كيف أقف بثبات و إبنتِي بصورةٍ لم أتوقعها يومًا تتزوج هكذا! لم أفرح بأيّ منهما، لم استطع أن أسعد ليومٍ واحد! يالله أنت تعرف قيمة الأشياء بقلبي، أن هذا العالم لا يعنيني والله لا يعنيني ولكن " بناتي " لا ترني بهن مكروه، لا تُذيقني حزن واحدةٍ منهن، أنا والله أحترق من بُعدهما ومن المجهول الذي ينتظرهما، يارب القضاء والقدر إن قلبي معذبٌ بهما فلا تزيدُ من نيرانه، أني أسألك بأضعافِ القهر والغبن الذي بقلبي أن تُريِّح صدر بناتي، أن تلطف بهما وأنت عزيزٌ رحيم، يارب السعادة أهطل بفرحك عليهما، يارب أنهنّ جزءً مني فلا تزدني حرقة عليهما أكثر، يارب يا سميع الدعاء.
رفع رأسه ليلفظ التشهد ويُسلِّم، سحب المنديل الذي أمامه ليغزي عينيْه المحمَّرة، من يشعرُ بحرقة الرجال؟ من يُقدِّر حزنهم؟ أكان يجب أن نستعيذُ في كل مرة من حزنهم الذي لا يرحم.
خرج من المسجد لينحني ويُخرج حذاءه ومعها أخرج هاتفه، أتصل على هاتف ضي وأقدامه تسير بإتجاه السيارة، أطالت حتى أجابت بصوتٍ ناعس : ألو
عبدالرحمن : السلام عليكم
ضي بلهفة أستعدلت حتى تجلس : وعليكم السلام والرحمة . . .
عبدالرحمن بصوتِه المخنوق : كنتِ نايمة؟
ضي بربكة ضاعت كلماتها : إيه . . لا يعني مو مرة .. المهم بشرني عنك
عبدالرحمن : أنا بخير ، أنتم اللي بشروني عنكم ؟
ضي : تمام .. جو اليوم اللي أرسلتهم
عبدالرحمن : الحمدلله . . ما جاكم إتصال من أحد غريب ؟
ضي : لآ كل شي تمام . . .
أستغرقُوا بصمتهما حتى تقطعها نبرة ضي الباكية : وحشتني
عبدالرحمن وعاطفته ليست بخير، قلبُه لا يحتمل أكثر ليبلع ريقه الجاف : وأنا أكثر
ضي غرقت ملامحها بدمعها وهي تسمعه لأولِ مرة يصارحها بكلماته دُون أن يلفظ برسمية – تشتاق لك الجنة - ، دُون أن يقولها بصيغة الجمع المستفزة.
عبدالرحمن : ضي لا تعورين قلبي ببكيْك .. اللي فيني يكفي!
ضي وتشدُّ على شفتيها حتى تتمالك نفسها : طيب متى تجي؟
عبدالرحمن : قلت للسكرتير يدبِّر لي حجز، إن شاء الله قريب
ضي وهي تنظرُ لرتيل الجالسة تتأملهما بهدُوء لتعاود دموعها السقوط : أنتبه لنفسك حبيبي وأهتم لصحتك ..
عبدالرحمن : إن شاء الله .. بطاقاتكم معاكم؟
ضي : إيه
عبدالرحمن : كويس لأن حولت لكم فلوس خفت أتأخر عليكم وما ألقى حجز ... إذا أحتجتوا أيّ شي كلموا نايف
ضي : إن شاء الله . .
عاودَا الصمت دُون أن ينهي المكالمة أحدٌ منهما، يا مشقة الوداع و الكلمة الأخيرة بعد هذه الكلمات المخبئة لعاطفة عميقة، لم أتوقع يومًا أن تكون " مع السلامة " شاقَّة حزينة قاسية لا يُمكن لفظها بسهولة.
ركن عبدالرحمن سيارته بجانب المستشفى لينظر بعينيْه الضائعة ويديْه مازالت تُثبت الهاتف ويستمع لأنفاسها التي تُحزنه فوق حزنه، لو كنت أملك عصَا سحريَة لما جعلتُكِ تحزنين لخبئتُكِ وخبئتهم جميعًا فيِّ، لو أنني أستطيع فقط.
ضي ببكاءها أنهارت : مقدر عبدالرحمن .. والله محد يقدر فينا يتحمَّل
رتيل أشاحت أنظارها بعيدًا وهي تحتبسُ الدمع في داخلها، لتلفظ ضي بخفُوتِ صوتها المرتبك بحزنه : مدري كيف كنت أصبر بالأشهر بدون لا اشوفك! أنا هاليومين ما أعرف كيف أعيشهم والله! مافيني حيل أصبر أكثر
عبدالرحمن تنهَّد بإختناقٍ فعلي : قوِّي نفسك وأنتبهي لصلواتك والله معك ويحفظك .. لا تنامين وأنتِ تبكين، أنا محتاجك تكونين أقوى
ضي تلتزمُ صمتها، لا قدرة لها أكثر لتحمل فوضوية هذه الأحداث بحياتها.
عبدالرحمن : أتفقنا؟
ضي : إن شاء الله
عبدالرحمن بنبرةٍ حاول أن تصل إليْها مبتسمة : تبشرين بالجنة وفردوسها . . مع السلامة
ضي : بحفظ الرحمن.
نزل من السيارة متجهًا نحو الباب الرئيسي للمستشفى ودخوله صادف خروج سكرتير سلطان،
: كنت راح أتصل عليك! بوبدر واصلة معه عقب ما عرف بموضوع عبدالعزيز!
عبدالرحمن أخذ نفس عميق : طيب . . . تركه ليخطُو نحو غرفة سلطان، دخل دُون أن ينطق كلمة ليهاجمه سلطان بكلماته اللاذعة : ليه ما قلت لي عن عبدالعزيز؟ ليه خبيت عنِّي!
عبدالرحمن بهدوء : الموضوع ما صار له يومين!
سلطان بغضب عارم : كان لازم أعرف من أول دقيقة أنه بنتك عنده وعبدالعزيز معاه! أنا وش وظيفتي عشان تخبون عليّ
عبدالرحمن : طيب حالتك ما تسمح!
سلطان بصراخ : يخي مالكم دخل مريض ولا غيره! ماني جدار عشان أكون آخر واحد يعرف
عبدالرحمن بعصبية: صوتك لا يعلى عليّ! ماني أصغر عيالك
سلطان يُبعد نظره عنه وهو يشتعل بقهره، ألتزم صمته وقلبه ينبضُ بثرثرة لا تنقطع.
عبدالرحمن يسحب الكرسي ليجلس بمُقابله : وش كان بيصير لو عرفت بوقتها؟ بتتعب زيادة فوق هالتعب!
سلطان بهدُوء غاضب : ولو! كان مفروض أعرف
عبدالرحمن : طيب هذا أنت عرفت خلنا نسكر هالموضوع .. فيني اللي مكفيني يا سلطان كل واحد ضايع بطريق لا أدري وش صاير فيهم ولا وش جالسين يسوون معهم
سلطان صمت قليلاً حتى أردف : راقبت السجلات ؟
عبدالرحمن : إيه بو منصور للحين بعد في مكتبي يرتبهم بس أطلع منك راح أرجع له
سلطان : مسكتوا كل قضية!
عبدالرحمن : كل شي من الصبح إلى الآن وإحنا نراجع كل إسم حتى موظفينا الجدد قمت أراجعهم معه .. بومنصور شاك بزياد وأنا شاك معه! بس بنتظر لين بكرا وبناديه
سلطان : زياد ما غيره؟ اللي منظم أمن الحيّ ؟
عبدالرحمن صمت حتى يستوعب : حسبي الله! . . الثغرات اللي كانت تصير من الحرس ونقول قضاء وقدر أثاريه يلعبها علينا . . . مسك هاتفه ليقف متصلاً على عبدالله اليوسف :. . عبدالله زياد عندِك؟
عبدالله : توه طلع من عندي!
عبدالرحمن : أمسكه لا يروح!
عبدالله يقف من على كومة الأوراق التي تفتحت : صار شي؟
عبدالرحمن : أمسكه بالأول قبل لا يهرب! وأرجع أتصل فيني . .
عبدالله : طيب . . . أغلقه ليخرج ويُبلغ أمن البوابات أن لا يخرجوه في جهةٍ كان يركب سيارته متجهًا للخروج من مبنى العمل حتى توقفت سيارته عند البوابة وأجتاحه الإستغراب من عدم إستجابة الأمن إليْه، فتح الشباك حتى يُبادلونه بفتح الباب ويخرجونه.
زياد : وش قصتكم؟
: أسأل بومنصور .. مالنا علاقة . . قيدُّوا يديْه ودخلوا به متجهين لمكتب عبدالرحمن بن خالد.
في المستشفى كانت الأفكار مرمية بينهما، بتنهيدة : ولا عليك أمر عطني الورقة
مدّها له عبدالرحمن ليكتب سلطان ويشرح على هذه الورقة البيضاء : جاء زياد بعدها صار الإختراق لشبكتنا قبل شهور ! و قدرت جماعة عمَّار تدخل بيتك رغم أن الحي مراقب! ودخلوا بيتي بعد جماعة . . . مو رائد! مو رائد اللي صوَّب عليّ! لأن ما تكلم ولا بيَّن أنه مسؤول عن شي! و دام الحرس مقدروا يلحقونه هذا معناته أنه متعاون مع الحرس!
عبدالرحمن : فيه حرس من رائد صايرين مع حرسنَا والبركة بزياد!
سلطان : اللي في بيتي أنا متأكد منهم من أول ماجيت أشوفهم! لكن اللي معهم ما عندي خلفية عنهم!
عبدالرحمن : طيب مسكنا خيط! هو زياد لكن مين اللي وراه؟ مستحيل رائد لأن لو رائد كان عرف بموضوع عبدالعزيز من البداية !
سلطان : الطرف الثالث مافي غيره! بس لو أعرف مين والله لأطلع حرة سنة كاملة فيه
عبدالرحمن يحكُّ عوارِضه وهو يتعمقُ بتفكيره : بس ليه دايم الملفات اللي نفقدها تتعلق بسليمان و صالح بس؟
سلطان : ومقرن! يقول أنه طالب أسماء ناس عشان يراقبهم! وكل هالأسماء تتبع رائد .. فيه خونة من الطرفين
عبدالرحمن : واللي يقدر يساعدنا هو مقرن! أنا متأكد من هالشي لكنه أختفى مدري ليه يختفي بهالوقت!
سلطان : يمكن مثل ما قال بومنصور أنه تحت التهديد!!!
عبدالرحمن تنهَّد وهو يمسح على وجهه : بس لو يخلينا نكلمه كان حليناها بسهولة!
دخل الدكتُور مقاطعًا : السلام عليكم
: وعليكم السلام
الدكتور : شلونك يا بو بدر ؟
سلطان : تمام
الدكتور يأخذ ملفه المعلق بنهاية السرير : لا فحوصاتك تمام الحمدلله .. إن شاء الله بكرا راح نكتب لك إذن بالخروج
سلطان : ما ينفع اليوم؟
الدكتور بإبتسامة : الصبح لو تبي عشان نسوي لك الفحوصات الأخيرة لكن خلك اليوم
سلطان : طيب
عبدالرحمن : أنا رايح .. تآمر على شي
سلطان : سلامتك وبلغني بس يصير شي
عبدالرحمن : إن شاء الله .. بحفظ الرحمن .. وخرج.
،
دخل بعد أن تلقى أقسى صفعة بحياتِه، لم يتوقع من ناصر أن يفعل به كل هذا، حقده سيطر عليه حتى أفتعل عليه هذه المصائب ولو أنني أدرك بأن خلف هذه المصيبة رجالُ سليمان وليس ناصر وناصر مُجرد إسم ليُمرر به، كيف أحلّ هذه الديُون الآن التي أبتليت بها؟ نظر لوالدته ليتحامل ويبتسم لها : مساء الخير
: مساء النور
تقدَّم نحوها ليقبِّل رأسها وينزلُ للأسفلِ قليلاً ويُقبِّل جبينها العَطِر، جلس عند أقدامها وهو يضع يديْه على ركبتيْها : شلونك اليوم؟
والدته بإبتسامة : بخير الحمدلله .. تعشيت؟
فيصل : إيه الحمدلله . . وين ريف؟
والدته : طلعتها معي للسوق ورجعت دايخة ... زواجك ما بقى عليه شي وللحين ما سويت شي؟
فيصل : بتسكن هنا ماراح نطلع! .. كم بقى على العيد ؟
والدته : الأسبوع الجاي يا روحي
فيصل تنهَّد لتُردف والدته : مفروض تكون أسعد إنسان هالأيام
فيصل بإبتسامة : ومين قال أني ماني سعيد؟ بس لأن عندي أشغال فقمت أحاتيها
والدته : طيب وش رايك تآخذ بريك من كل هالأشغال وتسافر مع هيفاء تشم هوا جديد وبعيد عن كل هالمشاكل
فيصل : ليتني أقدر! بس عندي شغل مقدر أهمله
والدته بضيق : يعني يوم بغيت أفرح فيك تشغل نفسك بهالشغل اللي ما يخلص!
فيصل تنهَّد : وش أسوي! بعدين تتراكم عليّ وانا مااثق في أيّ أحد
والدته : طيب أهم شي أشوفك بالبشت وأفرح فيك
فيصل بإبتسامة تسرق من تفاصيل والده الكثير : بتفرحين فيني إن شاء الله وبتفرحين بعيالي بعد
والدته وتعيش الحلم بلهفة : يالله يا فيصل بروحي أحسبها يوم يوم والحين بحسب بعد متى يجون عيالك
فيصل ضحك ليُردف : الله يرزقنا الذرية الصالحة
،
بإبتسامة حانيَة وقفتْ بعد أن وضعت الطعام على الطاولة : يالله يا عُمري شدِّي على نفسك وأكلي ..
مُهرة بحرج : إن شاء الله .. تعبتك معي ما تقصرين
ريَّانة : هالرسمية مفروض ما تكون بين الأم وبنتها
مُهرة أبتسمت بشحُوبِ ملامحها : الله يحفظك ويخليك لنا
ريَّانة : آمين .. يالله تصبحون على خير . .
يُوسف يقبِّل رأسها : وأنتِ من أهل الخير . . خرج مع والدته لتلتفت إليه . . أنتبه لها يا يمه
يوسف : إن شاء الله لا توصين حريص
والدته : وخلها تآكل مو زين تهمل صحتها وهي تعبانة
يوسف : إن شاء الله
والدته وهي تشعر بحزنِ إبنها ولمعة الوجَع في عينيْه : الله يعوضك بالذرية الصالحة
يوسف : آمين . . . راقبها حتى دخلت لغرفتها ليعُود لمُهرة التي جلست حتى تأكل.
جلس بمُقابلها : ما خبرتي أمك؟
مُهرة : لا . . رفعت عينيها . . متى ما رحت حايل قلت لها! .. بتوديني صح ؟
يُوسف بضيق : طيب
مُهرة أنتبهت لنبرته : إذا مشغول هالأسبوع عادِي بعد العيد
يُوسف ويُمرر يدِه على رقبته التي تضِيقُ عليه : لا عادِي
مُهرة تركت الملعقة وهي تستشف أمرًا بعينيْه : صاير شي؟
يُوسف بهدُوء : لا .. كملي أكلك لا يبرد
مُهرة تنظر إليه بريبَة : إلا صاير شي
يوسف : مو صاير شي بس ما نمت ومزاجي مش ولا بُد
مُهرة : طيب خلاص نام أنا بنزل الصحُون تحت
يوسف : لآ بنتظرك
مُهرة بهدُوء أردفت : ماتبيني أروح حايل؟
يوسف صمت لثواني طويلة حتى يُردف : أهلك ماراح أمنعك منهم!
مُهرة : فيه أحد من خوالي مكلمك؟
يوسف بإبتسامة : ملاحظة أنك تسألين اليوم كثير!
مُهرة : مدري أنت شككتني!!
يُوسف : أنا بس ما ودِي تروحين لهم وأنتِ تعبانة! يعني أنتظري لين ترجع لك صحتك زي أول وأحسن وبعدها روحي لهم! لأن ما أظن الجو هناك جو صحي وأنتِ عندك مشاكل مع زوجات خوالك وبناتهم
مُهرة عقدت حاجبيْها : بس ودي أشوف أمي.
يُوسف : طيب مثل ما تبين ..
،
في مكتبِه لم يستطع أن يسيطر على أعصابه المشدودة ليصفعه بقوَّة حتى أدمَى شفتيْه، لم يُفكر عبدالله أن يوقفه تركه يفرغ قهره على عائلته به. ليشدّه من ياقته التي أحمرَّت : كلمة وحدة ماراح أعيدها مين اللي أرسلك؟ لا تقولي رائد عشان ما أنهي لك حياتك!!
زياد لا يُجيبه، لا ينطق بكلمة وهو مرمي على الكرسِي ينتظرُ الموت ولا ينتظرُ أن تُكشف الحقيقة، بغضب عارم : واحد . . إثنين . . . ثلاث . . أربع . . . خمسة . . ستة . . . يُخرج من جيبه السلاح ليوجهه لزيَّاد . . . سبعة . . ثمانية . . . تسـ
بصوتٍ ضيِّق : أسامة
عبدالرحمن : اسامة مين ؟
زياد : أسامة محسن
عبدالرحمن بنبرته الجادَّة المائلة للحدَّة : و إيش سويت؟ . . يتجه نحو درجه بمُراقبة عبدالله الصامت، أخرج آلة التسجيل ليُشغلها . . : يالله أنا أبغاك تقولي وش سويت من الألف إلى الياء
زياد بهدُوء : ما أعرف شي .. اللي فوق أسامة ما عندي خبر عنه
عبدالرحمن يسحب كرسي ليجلس عليه : معليه بتعرفه إن شاء الله . .
عبدالله بسخرية : نذكرك فيه
زياد : طلبت من أمين الأرشيف يآخذ إجازته السنوية وإلا بنلبسه سرقة أوراق سريَة وبنورطه
عبدالرحمن : و نائبه ؟
زياد : ماعنده علم بشي لأنه يثق فيني ويخليني ادخل
عبدالرحمن يلوي شفتِه : وش علاقتك بمقرن؟
زياد : مالي علاقة فيه
عبدالرحمن : كمِّل الكذب عشان أكمل عليك بعد
زياد بربكة : والله مالي علاقة فيه
عبدالرحمن ينظرُ لعينيْه بحدةٍ أربكته جدًا : وش علاقتك بمقرن؟
زياد : مالي علاقة فيه
عبدالرحمن : أغيِّر صيغة السؤال وش تعرف عن مقرن؟
زياد : ولا شي
عبدالرحمن بحدة : وش تعرف عن مقرن؟
زياد : ما أعرف شي
عبدالرحمن يُكرر بطريقة مستفزة : وش تعرف عن مقرن؟
زياد بعصبية : ما أعرف شي
عبدالرحمن : وش تعرف عن مقرن ؟
زياد : ما أعرف .. ماأأأأعرررررررررررف
عبدالرحمن : وش تعرف عن مقرن يا زياد!
زياد يعود لنبرته الهادئة بعد إشتعالُ الغضب بها : ما أعرف شي عنه
عبدالله : نغيِّر الصيغة مرة ثالثة ونقولك يا زياد! مين اللي يهدد مقرن ؟
زياد بتوتر : ما أعرف .. ما أعرف شي عن مقرن
عبدالرحمن : وش تعرف عن مقرن ؟
زياد بصراخ : ما أعرف شي
عبدالرحمن بهدُوء : وش تعرف عن مقرن ؟
زياد أخذ نفسًا عميقًا وهو يغمض عينيْه : ما أعرف شي
عبدالرحمن : وش تعرف عن مقرن ؟
زياد بصراخه العالي : ما أعرف . . مدري عن شي
عبدالرحمن : وش اللي ما تدري عنه ؟
زياد : مدري . . مدررري
عبدالرحمن : وش اللي تبي تعرفه عن مقرن؟ . . كِذا السؤال تمام؟
زياد يشعرُ بأن الذي يجري بخلاياه عبارة عن دماءً مغلية : ما أبغى اعرف شي
عبدالرحمن : مين اللي هدد مقرن ؟ . . عسى دخل مخك هالسؤال!
زياد بوجَع يوّد لو يضرب رأسه بالجدار، هذا الإستفزاز لا يتحمله وهو رجلٌ هادىء الأعصاب لا يستطيع أحدٍ بسهولة أن يستفزه، كان يعرف أن الوقوع بقبضة عبدالرحمن أمرٌ أشبه بالعذاب النفسي الذي لا ينتهي.
عبدالرحمن : مين اللي هدده؟
زياد : ما أعرف
عبدالرحمن صفعه بقوَّة : كذبة ثانية وماراح يصير لك طيِّب! راح نشهِّر فيك عشان تكون عضة وعبرة لغيرك! . . أستوعب الموضوع مخك ولا للحين ؟
زيَّاد تنهَّد : ما أعرف
عبدالرحمن : واحد . . إثنين . . ثلاث . . أربع . . خمس . . ست . .
زياد يصرخ بقهر : سليماااااااااااان
عبدالله ضحك بشدَّة حتى أتضحت أسنانه ليردف : برااافو يعني تذكرت الحين!
عبدالرحمن أبتسم بهدُوء : سليمان الفهد، طيب يا عيال اللي مانيب قايل! . . وقف ليلتفت لعبدالله . . يا فرحة سلطان . . أخرج هاتفه : طبعًا يا زياد الحين اللي بيتولاّك سلطان مالي علاقة فيك
نظر إليْه بربكة وهو يعرف أن الجحيم الآخر إسمه – سلطان بن بدر –
عبدالرحمن : ألو
سلطان : هلا
عبدالرحمن : لك عندي بشارة!
سلطان بلهفة : وشو؟ .. عرفتوا مين ؟
عبدالرحمن : سليمان الفهد ورى كل هذا ! ومهدد مقرن زي ما توقعنا
سلطان شعر بأن كل شيء يبتسم له بدقيقة واحدة : وش ينطرني لبكرا! أبي أجيكم
عبدالرحمن ضحك ليُردف : موعدنا بكرا إن شاء الله .. بدت تمشي أمورنا
سلطان : اللهم لك الحمد والشكر كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه
عبدالرحمن بإنتصار حقيقي ولذة هذه الإنتصار تسري بأوردته المقهورة : الحمدلله .. نام زين عشان تصحصح بكرا
سلطان أبتسم : وين يجيني النوم! أبي أشوف بس زياد أطلع حرتي فيه بعدها يصير خير
عبدالرحمن : لآ أفا عليك ما قصرت فيه
سلطان : كفو والله . .
عبدالرحمن : يالله تصبح على خير .. بشوف هالبلوة اللي قدامي!
سلطان : وأنت من أهله ، مع السلامة . .
عبدالرحمن ينظر إليْه : تدري وش جرايمك! أولا إحتيال ثانيًا إفساد ثالثًا زرع الفتنة . . عاد الله أعلم القاضي كم بيصكك سنة! وأدعي ما يكون فيها تشهير بعد!
زياد برهبة : أنا بس . .
عبدالرحمن بقهر : أنت بس إيش؟ هذي بلدك! مفروض تخاف عليها أكثر من نفسك! وش أستفدت؟ شوية فلوس طيب تعال لنا نوظفك وكل سنة تستلم زيادة وعلاوات! قولي وش اللذة بأنك تخون بلدك! فيه أحد يخون نفسه؟ فيه أحد يخون الأرض اللي رفعته؟ . . لا تبرر ما فيه أيّ تبرير يخليني أقول حرام مسكين! أنا بناتي الحين ما أدري وش صاير فيهم والبركة في مين؟ فيك! تعرف ليش؟ لأنك سكت ولأنك ساعدت! واللي يسكت عن شي فهو مجرم! فما بالك باللي فعل؟ . . صدقني أقسى العقوبات راح تكون على ظهرك وبتعرف ضريبة الخيانة زين! أنك تخون أشخاص ممكن نقول نعفُو ونسامح! لكن أنك تخون وطن لا والله لا تذوق حرّ الخيانة بعيُونك!
،
بإبتسامة صافيَة أستلقت ليتناثر شعرها في حجرِ حصَّـة، خلخلت أصابعها بخصلاتها الطويلة، حصَة : تعرفين فيه أغنية كنا نغنيها دايم .. على هالجو يبي لنا نسمعها .. بس ترى الكلمات مضروبة لأن ماهي لأحد يعني إحنا أخترعناها
الجوهرة وهي تنظرُ للفراغ الذي أمامها : وشو .. سمعيني
حصَّة بصوتٍ خافت عذب تُلاعب شعرها : هذا الأسمر يا ميمه روَّح ليْ قلبي . .
الجوهرة بضحكة تُقاطعها : أعرفها أعرفها هي عراقية أذكر يوم طحنا في اللهجة العراقية كانوا يغنونها البنات بالمدرسة . .
وبصوتٍ هادىء مبحوح تُكمل الجوهرة : هذا الأسمر يا ميمه روّح لي قلبي ، ضليت أعدِّ له الجيّة وهو كاتلني بعينه
حصَة بإبتسامة شاسعة : يا ميمه عيونه كتَّالة . .
الجُوهرة ويأتِ على بالها سلطان بسُمرته الواضِحة و عيناه – القتالة – فعليًا، تُغني حصَّة وتدخل هي في دوامته، أتلاحظ أني أشتقتُك؟ وأن يومًا كاملاً دُونك لا يجب أن يُدرج في أوراق التقويم! تبًا لوسامتك يا سلطان كيف أتجاهلك؟
: وأنا لعيونه هذا الأسمر يا ميمه أروح له فدوة . .
الجوهرة ألتفتت عليها لتقف وشعرها متناثر لتندفع بعاطفتها : بروح أكلم سلطان . . .
حصَّة بضحكة : مين اللي قال ماراح أكلمه خل يحس على دمه!
الجوهرة : أنا كذابة وشكرًا لأنك تذكريني بهالشي
حصة أبتسمت : يارب يارب يارب يا الجوهرة يا بنت عبدالمحسن أسمعك اليوم قبل بكرا تبشريني بالبيبي
الجوهرة تجمدَّت أصابعها على الهاتف لتلتفت إليْها والحمرة تهرول بجسدِها : وشو!!
حصة : أدعي لك ..
الجوهرة أرتبكت بتوتر شديد : طيب . . رفعت السماعة . . تهقين نايم ؟
حصة : دقي بس مهو نايم
الجوهرة : إذا رد وصوته مليان نوم بخليك تكلمينه
حصة : طيب ولا يهمك الحين دقي
الجوهرة بهدُوء تضغط على أرقامه لتُطيل الثواني الشاهقة ولم تسمع صوته : شكله نايم
حصَة : لا أنتظري مستحيل ينام بهالوقت!
رفع الهاتف سلطان وصمت بهدُوء وسكينة الجدران التي حوله وهو يسمع أحاديثهما، غرقت الجوهرة بنبرةِ حصة ونست الهاتف عند أذنها تنتظر إجابته.
حصة : وش دعوى ينام الحين! هو ما ينام الا بعد صلاة الفجر
الجوهرة : يمكن نام بدري اليوم أو تعبان!
حصة : بسم الله عليه مو تقولين صار أحسن وعمك قال بعد
الجوهرة : إيه بس أخاف يخبون علينا ....
حصة بهدُوء : لا تخليني أوسوس الحين
الجوهرة بضحكة : هذي من أغنيتك ما يجي منها خير
حصة بإبتسامة : حافظتها أكثر مني يالخير
الجوهرة بمثل إبتسامتها تُدندن بمجاراةٍ لها : هذا الأسمر يا ميمه عيونه كتلتني
حصة بخبث : هذا سلطان لو سمحتِ
الجوهرة : هههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه هههه
: والله الضحكة قتلتني
الجوهرة بربكة عارمة عادت للوراء ليسقط الهاتف وتدفع المزهريَة التي تتوسط الطاولة حتى تناثر زجاجها حولها.
حصة كادت تموت من ضحكاتها الصاخبة، مُجرد صوته فعل بها كل هذا، رفعت الهاتف لتُجيب سلطان : هلا بالغالي
سلطان بإبتسامة : هلابك . . وينها؟
حصة : ذابت
سلطان بضحكة أردف : وش تغنون ؟ خربتيها
حصة : ما خربتها والله! أصلا مهي أغنية يعني كذا قصيدة مغناة . .
سلطان : طيب عطيني إياها
حصة : أول قول لنا وش أخبارك؟
سلطان : عال العال
حصة : عسى دوم .. طيب فرحنا معك
سلطان : متى يصير مزاجي عال العال ؟
حصة : إذا مشى شغلك . . طيب خذها خربت لنا الصالة . .
الجوهرة ووجهها يصخب بالحُمرة والحرارة، تنحنحت وهي تهمس : مدري كيف ما حسيت فيه . . ألو
سلطان أطال بثواني صامتة حتى أردف : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شعرت بأنه يستهزأ بها لتُردف بهدُوء : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
سلطان بخفُوت : مين اللي عيونه قتلتك ؟
الجوهرة أبتسمت وهي تلاحظ نظرات حصَة التي تبثُّ بها شغف الخبث : أسأل عمتك وش يعرفني فيه
سلطان : طيب غنيها خليني أسمعها كاملة
الجوهرة : ماني حافظتها
سلطان : يا كذبك!
الجوهرة بتضييع للموضوع : كيف حالك اليوم ؟
سلطان : بكرا إن شاء الله بطلع
الجوهرة : الحمدلله .. مو قالوا اسبوع؟
سلطان : لآ الفحوصات تمام
الجوهرة : بتنوِّر بيتك
حصة همست : بيطلع ؟
الجوهرة هزت رأسها بالإيجاب لتُردف : طيب ما أعطلك .. تآمر على شي
سلطان : غنيها ليْ يا بخيلة
الجوهرة : صوت عمتك أحلى
سلطان : أبي أسمع بصوتك!!
الجوهرة بإستلعان رتَّلت بصوتها الخافت : إذ يغشيكم النعاس آمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام.
سلطان : تصبحين على خير
الجوهرة : هههههههههههههههههههههههههههههههههه وأنت من أهله
سلطان : تعرفين تحجرين للواحد
الجوهرة : أتعلم منك
سلطان بوعيدٍ خافت : لاحقين لاحقين .. أنتظريني بكرا
الجوهرة بتوتر : طيب تبغى شي ثاني
سلطان أنهاها بضحكته التي لا تسمعها كثيرًا ليغلقه دُون أن ينطق شيئًا، الجوهرة : سكره بوجهي
حصة : هههههههههههههههههههههههههههههههه تصير بأحسن العوائل
،
في أطرافِ الليل كانت تستلقي عند المدفئة الجداريَة وهي تتأملُ بالنار التي تحرق الحطب، وتشعرُ أنها تصعد بها حتى تحرقها، تتناثر دموعها وقد أعتادت الدمع في الأيام الأخيرة، مدَّدت أكمامها لكفيّها الباردة وهي تُبصِر اللاشيء، كل الأشياء تتوافدُ من خيالها المبحوح بحزنه، كل الأشياء تقف عند قلب عزيز و نبرته مازالت تتردد في عقلها " أنتبهي لي " ، كيف تتطمئن عليه؟ كيف تعرف أخباره؟ كيف تشعُر به بعمقٍ أكثر! عادت ذاكرتها للأيام التي غادرت بها أثير باريس لتخرج معه بهدوءٍ دُون إستفزاز، كانت الريحُ تهبّ من كل جانب حتى وضع ذراعه على كتفيْها. أبسط الأشياء منك تكُون حميمية بصورةٍ كارثية لقلبٍ بكر حين جرَّب الحُب كنت أول تجاربه ويبدُو أنك آخرها . . . تلك الحديقة موبوءة بك . .
،
ثبَّت كتفيْها لتصرخ بآآآهٍ مقتولة، تحاول أن تقاومه و الدموع لا تنفَّك من تشتيتِ بصرها، شعرت بأن يديْها تنكسران وهما تحاولان دفعه، ضاقت أنفاسها لتهمس بوجَع : لا
،
تبحث بكل زاويَة عن أوراقٍ تُوصلها لشيء، و عن أرقامٍ تكشف لها أيُّ شيء، كانت تُفتش أوراقه بلهفة لمعرفة ما يحدثُ بحياتها وتجهله، سمعت صرخته لتتجمَّد أصابعها على الطاولة الخشبيَة . .
غُرِز السكينُ حتى شعرَ بأن الرُوح تصعد . . .
،
أنتهى