الجزء ( 69 )
ألتفت عليها بنظرةٍ لا تدرِي ما هيتها وإلى ما تصِل إليه، عادت بخطواتها للخلف حتى ألتصقت بالجدَار وصدرها يرتفعُ بعلوِ الشهيقُ دُون الزفير، الزفير الذي دائما ما يهزمني بقوةِ أنفاسه التي تسلب الهواء من مُحيط فمي، تصَادم فكيّها برجفةٍ خافتة وهي تنظرُ إليْه برهبةٍ لم تستطع أن تُخفيها، أقترب حتى وضع ذراعه بشكلٍ أفقي على نحرها ليُردف بحُمرة عينيْه الغاضبة : لسانك طايل! . . أنتبهي على نفسك منِّي . . مفهوم؟
عضت شفتِها السفليَة بمحاولة جادّة أن لا تبكِي أمامه، بمحاولة أكثرُ صدقًا بأنها لا تنهارُ وتضعف، بمحاولةٍ حقيقيَة بكَت، سقطت دمعة من عينيْها الداكِنة، رفعت نظراتها للسقف وشفتيْها ترتجفَان معًا، البردُ يحقن نفسه بجسدِها رُغم دفء الأجواء، في كل مرّة، في كل لحظة أؤمن أكثر بأن البرد هُنا! في صدرِي وليس في السماء ولا في الهواء، ولا الريحُ تجلب هذا البرد، البردُ فيّ وإن طالت الشمسُ هناك، لم يُساعدني هذا الدفء على أن أستعيد توازنِي من عينيْه الغاضبة، لم يُساعدني أبدًا بأن يُخفف ربكتي في اللحظة التي يتسربُ حبه في دمائي، حتى عينيْه يالله! حتى عينيْه تهزمني شر هزيمَة، لمرّة واحدة . . لمرةٍ واحدة يالله أجعلني صالحة بما يكفي بأن أرد عليه، بأن أغضب . . من حقي أن أغضب وأحرقه بالكلمات مثلما يُحرقني، أن أفرغ هذه الشحنات السلبيَة المشبعّة بحُبه، لِمَ أحبك على أيّ حال؟ لِمَ أُخبرك أيضًا بخبرٍ أجزم بأنه لن يُسعدِك! لمْ يعتاد قلبك أن يفرح لأنه لم يحزن كفايةً ولم يفرح أيضًا كفايةً ، أنت النصف يا سلطان، نصفُ الأشياء التي لا ترحل، ولا تعود أيضًا، أنت النصف المعلّق بالسماء التي كلما نظرتُ إليها قُلت في نفسي أنها ستأتِ يومًا، ستكون في متناول يدِي ولكن . . دائِمًا ما تكسر ذراعي بأشعتها.
أبعد ذراعه لتصطدم قدمِه بقدمها، يُلامس أنفاسها المضطربَة بشفتيْه التي تستنشق مثل الهواء، أطال نظره، أطال ترجمة عينيْها التي تتحدث بلا توقف وتبكِي بلا توقف و تحزنُ بلا توقف، متى تأتِ النهاية؟ متى تأتِ النقطة التي تُوقف كل هذه الأشياء؟ شعرت بطعم الدماءِ على شفتيْها، تستثير حواسِّي يا سلطان، تستثيرها بشكلٍ لاذع ومُدمي، حتى أنفِي الذي أحاول أن أتخلص من التوتر الذي يُربكه تُعيده إليّ بكل عدوانيَة، وضع أصبعيْه السبابة والوسطى على شفتيْها، مسكت كفّه لتُبعده بنظرةٍ أشدُ عدوانيَةٍ منه ولكن يدِه اليسرى أتت لتوقف حركة يديْها، مسح الدماء التي على شفتيْها ليُخرج منديلاً من جيبه ويرفع رأسها للأعلى، بلحظاتٍ قليلة أوقف النزيف الجارِي من أنفها، أبتعد متجهًا للحاوية الصغيرة المنزويَة ليرمي بها المنديل، بخطواتٍ سريعة أتجهت للحمام لتُغلق على نفسها، وضعت يديْها على المغسلة وهي تنحني بظهرها بدمعٍ لا ينضَبّ، وضعت أصبعيْها فوق شفتيْها التي شحبت بلونها، مازال طعمُ لمساتِه في فمي، مازلتُ أشعر بإنشطار الكلمات على حافة لساني، مازال يؤذيني هذا الشعور.
في جهةٍ أخرى جلس على الأريكة وهو يمسح على وجهه متنهدًا : لا حول ولا قوة إلا بالله . . . وقف متجهًا نحو الحمام ليطرق الباب : الجوهرة! . . . لم يأتِ صوتها ولم يقترب أبدًا منه.
شدّ على مقبض الباب ليُردف : أفتحي . . مو زين الجلسة بالحمام! . .
بغضبٍ يتفحمُ بنبرته : لو ما فتحتيه بكسره فوق راسك! . .
ثوانِي قليلة حتى فتحته ولم تترك له مجال بأن يرى ملامحها من خُطاها المبعثرة التي أتجهت نحو الأريكة وأعطته ظهرها لتُردف بصوتٍ متحشرج يحاول أن يصعد لمرحلة الإتزان ولكن دائِمًا ما يُوقعها في الدرك الأسفَل من البحّة : ما أبي منك شي! ولا أبي أسمع منك شي! ماني على هواك متى ماتبي تسمع صوتي قلت سمعيني ومتى ما بغيت سكوتي قلت يا ويلك لو أسمعك . . ماأمشي مثل ماتبي! ماني جدار ولا أنا أشتغل عندك عشان تمحي شخصيتي بهالطريقة وتحاول تبيّن كيف تقدر تتحكم فيني! أنا حرّة يا سلطان ماني عبدة عندِك توجهني مثل ما تبي . .
كان واقف خلفها يسمعُ لكلماتها الخافتة ببحّة تارة و تارةً ترتفع ببحةٍ أشد، صامت لا يقطعُ مجرى كلماتها بخطوة ولا صوت، يشعرُ بإنقباضات قلبها التي تسحبُ صوتها وتُخفِض من حدّته، صمتت أمام صمته لتصمت الأشياء من حولهما، لم تتجرأ أن تلتفت إليه، أن تضع عينيْها بعينيْه، تشابكت يديْها ببعضهما البعض بمحاولةٍ طبيعية لتخفيف إضطراب جسدها المنتشي بالربكَة، بنبرةٍ مُجهدة بما يكفي للبكاء : أفصل بيني وبين اللي يشتغلون معك! ماني بالقوة اللي تستحمل كل هذا . . أنا بنت يا سلطان ما أتحمّل كل هالضغط! ما أتحمل كل هالقهر! . . ماراح أحاسبك إذا بتتحملني أو لا! مو عشان ما أبغى بس لأني مقدر! مقدر أوقف بوجهك وأقولك ليه! ومقدر آخذ منك إجابة . . ولا حتى نص إجابة، بس خلاص! مقدر أتحمل اكثر . . تبغى تعاقبني؟ عاقبتني بعيونك كثييير! . . تبغى تعذبني؟ عذبتني بعيونك كثيير! . . تبغى تقهرني؟ قهرتني بعيونك كثيير! . . تبغى تذبحني؟
أخفضت رأسها لتجهش بالبكاء وهي تلفظ بين أوتار صوتها الباكية : ذبحتني كثييير! . . و أحرقتني! . . بس أنا وش سويت؟ ما عصيتك بأيّ أمر طلبته مني ولا قهرتك بشي ولا . . ليه أشرح لك أصلاً؟ . . ماراح تستوعب حجم الألم فيني! ماراح تستوعب خسارتي بهالحياة! . . ماراح تستوعب أبد كمية اليأس اللي عايشة فيها . . . . . بقولك شي أخير يا سلطان أنا لولا رحمة الله كان ما شفتني الحين! لولا رحمة الله كان أنتهيت من زمان! لكن شي واحد يصبرني على اللي تسويه فيني! على نظراتك اللي تحسسني بالقرف وأني إنسانة ما توصل مستواك! على نظراتك اللي تنتقص من شرفي كثير! شي واحد يقولي في كل مرة إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . . . الله يعرفني ويعرف نيتي ويعرف اللي بداخلي! . . وقفت لتلتفت ببطء نحوه، نظرت لعينيْه لصمتِه الشاهق جدًا بشكلٍ لا تقدر أن تصِل إليه، للمسافة القصيرة التي تفصلُ بينهما وعبارة عن مترٍ ورُبما أقل، لم تعرف أن تترجم ملامحه الجامدة، نظرت إليه بنظرةٍ عاشقة لتُردف بصوتٍ ركيك، أخفضه الحُب كثيرًا، بلحظةٍ تنتصرُ بها لنفسها : أنا ما أحتاجك! ماعطيتني شي يخليني أحتاجك . . لكن أنت؟ ولا مرة حاولت تصدق وتختار! . .
سلطان بحركةٍ أولى، بحركةٍ يُزهق بها صمته وهدُوءه، سحب شفتِه العليَة بلسانه ليُردف : خلصتي كلامك؟
شتت نظراتها بعيدًا وهي تتلألأ بالدمع لتبتلع ريقها المُنهك : بتستهزأ كالعادة! بتقول أنتِ مالك حق تـ
يُقاطعها بهدُوءه الغريب عليْها : لِك حق! . . على أيش بالضبط تبيني أجاوبك؟ على أيّ كلمة قلتيها؟
الجوهرة بثبات تتجه إليه ليبقى الفاصل بينهما ثلاثِ خطوات لا أكثر ولا أقل : ليه تسوي فيني كذا؟
سلطان بحدّة : على أيّ سؤال أجاوبك!
الجوهرة بإنهيارٍ تام ترتخي دموعها من تفرعاتِ أهدابها : لا تسوي فيني كذا
سلطان بحدةٍ أكبر : على أيّ سؤال أجاوبك!
الجوهرة أخفضت رأسها ليُشاركها العزاء شعرها الطويل، تقدّم حتى تلامس قدمه بقدمها : سهل عليّ أكسر كلامك! وأطلعك كذابة! وأعطيك إجابات على قولتك . . شفتي كيف أني أقدر بمزاجي أخلي كل الحق لي وأحيانًا لك!
الجوهرة دُون أن تنظر إليها، بكلماتٍ متقطعة بالبكاء : وأنا مقدر أعيش مع هالمزاج! مقدر أعيش تحت الضغط والخوف من هالمزاج! . . مقدر
سلطان يُمسكها من ذقنها ليرفع عينيْها بإتجاهه وهو يغرزُ أصابعه على جانبيّ خدها بالقُرب من شفتيْها : إذا أنا مسبب لك كل هالأزمات! لعلمك عيونك أكبر حاجز بيني وبينك!
الجوهرة بنبرةٍ خافتة وحاجبيْها ينعقدان بالبكاء : ومزاجك وكلامك؟
سلطان بحدّة نبرته : وافعالي . . وأيش بعد؟
الجوهرة تضع يديْها فوق يديْه وهي تحاول ان تخفف من شدّته على وجهها : ليه ما تعترف بذنبك؟
سلطان بغضبٍ يُبعد يديْه لتتراجع خطوتين من صوته الصاخب : الحين عرفت وش هي مشكلتك! . . مُشكلتك هنا . . غرز أصابعه بكل شراسَة بإتجاه قلبها حتى عادت أكثرُ من خطوة للخلف وهي تشعر بأن أصابعه تأتِ كهيئة سكين تُبدد الإتزان من دماءها المنتشيَة به. أعطاها ظهره وهو ينظرُ بإتجاه النافذة، بنبرةٍ تكسرُ قلبها من الوجَع وتكسرُه كثيرًا وهو الذي عاش في كنف الألم أكثرُ من عقديْن : يوجعني كثير أني مقدرت أسِّس لي حياة توازي التعب اللي عشته طول الثلاثين السنة اللي فاتت! يوجعني أكثر أنه زوجتي تكون بهالحزن! صح أنا مقدرت أختارك! مقدرت أقول أبي الجوهرة ! . . ألتفت عليها بكامل جسدِه ليقترب إليها وبنبرةٍ تُحرقها . . ما أخترتك بكامل قناعاتي! لأني ما أخترت أشوفك ذيك الليلة، ما تفكرين للحظة وش اللي جابني الشرقية في هاليوم! وش اللي خلاني أجي بروحي! وش اللي خلاني أكلم أبوك من الأساس! وش اللي خلاني أدخل بيتكم وأشوفك! . . ما أخترت أنا ولا شي من كل هذا! . . ولا راح أختار . . بخطواتٍ لا يُحددها شعور ولا ترتفع لسقفٍ يُقرر ماهيتها . . أتجه نحو الباب حتى وقف ودُون أن يلتفت عليها لفظ : لا تتصورين ولا للحظة أني بقمة سعادتي وأنا أوجعك ولا أضايقك بكلمة . . لا تتصورين أبد أني مبسوط . . . انا قبل ما أوجعك أوجع نفسي اللي مقدرت تنجح في حياتها أبد . . . وخرج تاركها تُصارع إحتمالاتها بالحياة، يهزمني كعادته بكلماته، حتى وأنا أخفف تراكمات الحزن بصدري وأبددها بصوتي، حتى وأنا أحاول الحديث معه لنصِل لنقطة يهزمني، لأن الوجع بيْ على كل حال مهما حاولت، لأن عيناه يالله مؤذيَة وموجعة.
،
أخفضت رأسها دُون أن تستوعب ما يحدث الآن، وأصوات طلقات النار تصخبُ وأنا التي لم اعرفها إلا بلحظاتٍ قليلة كنت أتمرنُ بها مع رتيل في الرياض، وضع ذراعه على رأسها عندما أستدار بتقاطع الشارع بقوةٍ كانت ستُذهب رأسها بإتجاه النافذة لولا يدِه التي شدّتها بقوة ناحيته، أكمل سيْره للطريق السريع متجهًا لشمال باريس، رفعت رأسها ليلتفت نحوها : بخير؟
هزت رأسها بالإيجاب دون أن تلفظ كلمة وهي تنظرُ للزجاج الخلفي كيف تهشّم، قلل من سرعة السيارة عندما أبتعد عن المنطقة، في كل ثانيَة كان يلتفت إليْها ويراقب حركاتها الصغيرة والدقيقة، تداخل أصابعها في بعضها البعض وغرزها بلحظةٍ أخرى في ركبتيْها و ليدِها التي تشدُّ على معطفها في لحظةٍ أخرى و السبابة والإبهام اللذانِ يرتفعها نحو إذنها لتُحرِّك به قرطها الناعم الصغير، دُون أن تنظر إليه : وين بنروح ؟
فارس : مدري يا عبير . . فتح " درج السيارة " الذي أمام أقدامها ليُخرج السلاح ويضعه في حضنه، أخرج الجوال ليحاول أن يفتحه إلا أنه مقفل برمزٍ سري، نظر للأوراق ليُخرجها ويقرأها تحت أنظار عبير التي تراقبه بخشيَة، تتفحصُ عيناه الأسماء وألقابها التي تخفي شخصياتٍ حقيقية، كان يحاول أن يفكك الشفرات وهو يعدُ في عقله المواقف السابقة التي حصلت والكلمات التي كان يتناقلها والده مع رجاله، ينظرُ للطريق الذي أمامه وعينيْه تغرق بالتفكير، صمتُ والده عن عبدالعزيز إلى الآن يُثير بداخله ألف سؤال، من المستحيل أن يكون والده بهذا الصمت والغباء، شعر بأن عروقه تحترق من فكرة إستغباءهم لوالده، ادفع حياتي بأكملها من اجل أبي، حمَد خطوته إتجاه عبير لم تكُن لمجرد أهواءه، هُناك أمر مُخبأ و فكرة أسامة ومهاتفته لأحدٍ مجهول مثلما سمعته عبير لم تكُن أيضًا لمجرد اللاشيء، هُناك سبب واضح لصمت والدي وسبب أوضح لوجود هؤلاء حوله، ماذا يحدث بالضبط؟ عادت أنظاره للأوراق، للكلمات الحادّة المكتوبة، هل هذه وثائق سريَة؟ من المستحيل أن توضع في السيارة، أيّ رجال أبي يقود هذه السيارة؟ بالتأكيد ليس أسامة ولا حمد . . هُناك شخص آخر يتلاعبُ بهم.
ألتفت على عبير وهو يُعيد الأوراق وخلفه السلاح ليشتم نفسه عندما شعر بأن ضيّع فرصة التحقيق مع أسامة وعقله يربط الأحداث، محاولة إغتيال سلطان بن بدر وقعت دُون علم أبي من رجاله، هذا يعني أنه هؤلاء الرجال مشتركين مع شخصٍ يوجههم غير أبي، هذا الشخص لا بُد أن يكون معروف، هذا يعني أن بعد حادث العيد كانوا رجال والدِي يتصرفون بغير علمه، شِتْ!
حرّك السيارة ليُكمل سيره بطريقٍ لا يعرف ما مُنتهاه، وأفكاره تتخبّط بإحتمالاتٍ تُبعد عنه التركيز/الإتزان، عبير بصوتٍ هادىء : ودني الفندق!
لم يسمعها وأمواجه تتلاطم عند طبلة إذنه، بصوتٍ أكثر وضوحًا : فارس!
ألتفت عليها ليُعيد أنظاره بثواني قليلة إلى الطريق : هلا
عبير : ودني الفندق . . أهلي هناك؟
فارس : لا . . بنشوف لنا مكان قريب تجلسين فيه وأنا بضطر أرجع أشوف أبوي
عبير : بتخليني بروحي؟
فارس : ساعة بالكثير وراجع لك
عبير وفكيْها يتصادمان معًا : كيف تتركني بروحي؟ بأيّ مكان؟ إحنا مو بالرياض!!!
فارس: طيب انتظرك لين تنامين وأطلع وماتصحين الا وأنا عندك . .
عبير : يعني تسكتني؟ تعرف شي! روح الله لا يردِّك
فارس ألتفت عليها وعيناه تشتعل بالغضب : يا كُبرها عند الله
تنظرُ للطريق وشفتيْها ترتجفَان بزمهرير غضبه، شعرت بأن صدرها يحترق بكلمتِه، لامت لسانها كثيرًا وشتمت نفسها بداخلها من دعوتها عليه، ودّت لو تقول " آسفة " ودّت لو تنطق شيئًا يُمحي هذه الدعوة، أخفضت رأسها أمام عينيه التي تراقبها بقهر، شدّت على شفتيْها بأسنانها لتلفظ بخفُوت : مو قصدِي!
فارس : في هالدنيا كلها محد يخاف عليك كثري عدا أبوك . . تأكدي من هالشي
عبير تنزلُ دمعة رقيقة على ذكرى والدها الذي أصبح يمرُّ كإسم دُون أن تراه : أنا مقهورة من اللي صار! . . كان مفروض توقف بوجه أبوك قبل كل شي . . كان مفروض ما تجي الفندق وتكذب عليّ عشان أنزل وتآخذني . . كان مفروض ما تتزوجني بهالطريقة الرخيصة . . . كان مفروض تسوي أشياء كثيرة تخليني أثق فيك وبحبك . . بس أنت يا فارس ما سويت شي!
فارس يركن السيارة مرةً اخرى ليلتفت عليها بكامل جسدِه : طيب إذا كان شي فوق طاقتي؟ تبيني أقولهم خلاص أنا مقدر سوو اللي تسوونه فيها . . أنا حاولت بس أمنع أشياء كثيرة كانوا ممكن يسوونها فيك! . . حاولت يا عبير وتقولين ما سويت شي! . . يا جحودك!
عبير ببكاء : في داخلك كنت راضي لأنك تزوجتني وأنت موافق بس أنا ماعطيتوني مجال حتى اختار! . . قهرتوا أبوي بعد هالعُمر! أبوي اللي كان يرفض الرجال أحسنهم وأسوأهم بعد! . . كان يرفض لأنه ماكان يثق بأي أحد والحين يجي أحد يتزوجني و أبوه بعد ملاحق قانونيًا ويضر أبوي . . فيه أكثر من كذا قهر لأبوي؟ . . ماراح تفهم أبد وش معنى انه أبوك يحترق؟ ماراح تفهم أبد لما تشوف القهر بعيونه! أنا أعرف . . أعرف والله أنه أبوي الحين جالس يحترق من وجودي معك! أعرف أنه أبوي مايحط راسه على المخدة الا وهو مقهور! . . كيف تبيني أرضى؟ . . إذا أنا رضيت كيف أبوي؟ . . محد بقى لي في هالدنيا الا أبوي! . . وكسرتوه! كسرتووه يا فارس! عُمري ماراح أغفر لأحد كسَر أبوي وقهره! عُمري ماراح أسامح أحد ذبحني بأبوي!
فارس ينظرُ لنهرِ عينيْها المتلألأ : مو بكيفي! . . كانوا راح يآخذونك سواءً معي أو لا . . بس أنا مارضيت .. لأني كنت فعلاً خايف عليك . . والله كنت خايف عليك! . . صح معك حق ما حاولت كثير بموضوع الزواج لأني كنت أتمناه . . بس ماكنت أتمناه بهالطريقة . . ولا كنت راضي على هالطريقة . . كنت أحلم بشيء ثاني! بس هذي الظروف . . هذي الحياة اللي خلت خطواتنا تتقابل! . . بالنهاية محد بيجبرك على شي! بالنهاية راح تختارين .. إذا مو اليوم بكرَا . . راح تختارين
،
،
في جهةٍ أخرى صفعه بقوة حتى سقط على الأرض، رفع حاجبِه : قلت تمسكونه! تخوفونه! بس ما قلت أذبحوه واطلقوا عليه النار!
: هذا اللي صار! هرب ومقدرنا نوقفه الا بأننا نطلق عليه
رائد يُمسكه من ياقته : لو صار شي لولدي! وش ممكن أسوي فيك؟ . . ضربه على رأسه . . فارس لا ! مفهوم ياغبي؟ . .
يقف وهو يعدِّل ياقته وقميصه الذي أنتزع : إن شاء الله
رائد : انقلع عن وجهي . . . دخل أسامة وهو يُغلق أزارير جاكيته الأسود . . طلبتني
رائد بهدوء : اجلس . .
أسامة : تفضّل
رائد وهو يلعبُ بحباتِ النرد بين أصابعه : أفكِّر نكلم آسلي ونحدد موعد قريب في باريس
أسامة رفع حاجبه : آسلي؟ . . بس ماعندِك عبدالعزيز!
رائد : هذا اللي بوصل فيه وياك . . نلتقي فيه ونخلي سلطان وبوسعود ينشغلون بهالموعد . . نخليهم يجون هالمكان وبكذا راح نضرب روسهم في بعض
أسامة : اللي تشوفه
رائد : أبي رايك
أسامة : متوقع أنها بتنجح الخطة ؟ يعني . . ممكن يشكون
رائد بثقة : ماراح يشكون! مافيه هنا أيّ جاسوس ممكن يخرب الوضع . . صح؟
أسامة بتوتر : صح . . وقف . . خلاص أدبّر لك موعد وأجهز لك اياه
رائد : تمام .. تقدر تطلع
أسامة خرج وهو يفتح أزارير ياقته من حُمرة التوتر التي صعدت إليه.
رائد نظر إليه وهو يخرج ليتمتم : بنشوف أنا ولا أنت يا سليمان!
،
كان المسطّح مرتفع وأقدام رتيل يُحرّكها الهواء وبجانبها يجلسُ بصخبِ حضوره ورائحة عطره تغزو جسدها الذي يلامس معطفه : أكيد ما تهمك كلمة هالقد؟
والبردُ يسحب صوتها للداخل أكثر : مو مسألة كلمة! لكن مسألة رفضك هي اللي توجع . . مو مسألة أني أبي أسمع منك كلام حلو ولا غيره .. بس كل المسألة أنك . . . . مدري أنت وش أصلاً . . نظرت إليه بينما كانت عيناه للأرض التي أمامه، أبعدت عينيْها ليلتفت عليها بإبتسامة : وش هالنظرة؟
رتيل إبتسمت رُغمًا عنها : نظرة وحدة حقيرة
عبدالعزيز ضحك ليُردف بصوتٍ مُتعب : محشومة
بنبرةٍ تحمل معنى يعرفه عزيز : ليتك تقولها لشي ثاني
عبدالعزيز تنهَّد لينظرُ إليها بنظرةٍ تُضيء هذا الليل الباريسي، يستمعُ لتأوهاتِ جسدها بمُجرد أن يلامس كفّها، يشعرُ بأنها تلتحم به في كل مرةٍ يحاول أن يبتعد، في كل مرةٍ يحاول أن يُنهي البدايَة : عن الوجع محشومة.
نظرت إليه لتُحقن عينيْها بكلماتٍ خافتة مُحمّرة ترتفع شحوبًا للحظة وتقتلها البحة في صوتها : ما أحب غموضك يخي!
عبدالعزيز بإبتسامة يمسح دمعتها التي حاولت أن تلامس خدّها : يخي؟!!!! طيب أسمعي . . فيه بيت شعر أحبه كثير وعالق في بالي دايم
رتيل : ما توقعتك تحب الشعر
عبدالعزيز بضحكة : أحب المواويل! . . ترى حافظ إذا تبين
رتيل لتُردف بين دموعها : وش حافظ من المواويل ؟
عبدالعزيز : ما أحفظ شي شريف
رتيل : ههههههههههههههههههههههه زين تعترف بعد
عبدالعزيز : أيام الجامعة والسهرات كان ما يعلق على لساني الا المواويل اللي أسمعها بالقهاوي ماكنت أميل للشعر أبد . . يمكن لأن كنت ملغي دور قلبي فماأحب الشعر الغزلي أبدًا
رتيل : وللحين ملغيه على فكرة
عبدالعزيز بضحكة : لا ماني ملغيه . . لو ملغيه ما قلت لك أبي أقولك بيت شعر وبعد ماخليتيني أقوله
رتيل : طيب وشو؟
عبدالعزيز وهو يُبعد أنظاره عنها : أنت عمر صـب في عمري جفافه نصف نار ونصفه الثاني جليد . . أنت نهر عندي استودع ضفافه وعذابي لا افتكرت إني وحيد ! . . . لشاعر إسمه الحميدي الثقفي
نظرت إليْه بعينيْن تتلألأ، ترتفعُ الحمرة الضيِّقة إليها أمام إرتجافات شفتيْها التي تصارع البرد، بحنجرته التي تسرق الكلام والأماني والمواعيد ليُكمل : و فيه شيء ثاني قرأته ببلوق أحد ناسي مين بالضبط .. لكن حفظته من كثر ما استرجعه ببالي
رتيل تحت ضوء القمر كانت عينيْها تُسرفان بالدموع دُون أن تطلق آه واحدة، عبدالعزيز : ماقلت لك ! كم أسهرك ؟ وأتنفسك ؟ وأمشي معك واقدّرك .. ! وماقلت لك! تمر لحظه .. فيهـآ أكرهك ! وأحس إني اجهلك ! وأستغربك ! وأودعك .! وماقلت لك ! برجع بـشوقي و أعشقك .. و بـداخلي ألملمك .. وأحلف, والله ما أتركك .. وأبدلك! ماقلت لك ! أني غبيّ ..! لـأني عجزت أستوعبك . . .
ألتفت عليها لينظرُ لعينيْها الداكنتيْن التي تُضيء بإسراف، لم أحبك كفايةً ولم أكرهك كفايةً، أنا بينُهما، ما بين الوجود واللاوجود، ما بين البداية والنهاية، أحيانًا أشعُر بأنني أمامك مقيِّدٌ تمامًا، يستحيلُ عليّ أن أتزنُ أمام عينيْكِ وأحيانًا أشعرُ بأن الإبتعاد هو الحقيقة الواحدة الموجودة أمام عينيْكِ، أحيانًا أشعرُ بأنكِ هُنا! فيّ، وأحيانًا أشعرُ بأن ظلالِك تُعشعش بصدرِي، أحيانًا لا أعرفني، أجهلني كثيرًا، أحيانًا أحبك بشراهة و أحيانًا لا أعرفُ كيف أحبك؟
رتيل : ليه هالقصيدة بالذات؟
عبدالعزيز لأولِ مرّة تُضيء عينيْه أمامها بماءِ محاجره، رفع حاجبيْه باللاأدري ليُردف : تركضين يا رتيل وتعرفين وش النهاية . . تركضين كثييير وينقطع نفسَك بس ماتوصلين لشي . .
رتيل تتبللُ ملامحها بملحِ بكاءها : وش النهايَة؟ ما تعرفها كيف تحكم من كيفك؟
عبدالعزيز يُدخل يديْه بجيُوبِ بنطاله وهو ينظرُ للسماء الغامقة وعيناه ترتفعُ بإتجاه القمر : شايفة هالمسافات الطويلة اللي مشيناها . . . . ضاعت منِّي يا رتيل! . . ضاعت . . ومستحيل ترجع . . .
عقد حاجبيْه وهو يشعرُ بأن أعصابه تنهار شيئًا فشيئًا.
رتيل بصوتٍ يُقاطعه البكاء كثيرًا : نقدر، صح أننا مقدرنا نسوي شي صح في حياتنا بس نقدر
عبدالعزيز بضيق : أنا ما كنت جبان معاك! . . كان أقدر أقولك بأيّ وقت وبأيّ لحظة أني أفقدني لما أفقدك! بس
ألتفت عليها وعينيْه تستثيرُ دموعها : بس أنا مقدر أقول لأن أنا ما ينفع أقول كذا . . لأني مقدر . . مقدر
اخفضت رأسها ليصِل أنينُ بكاءها لآخر مدى في جسدِه، تناثر بكاءها وهي تستقبلُ إعترافِه الشفاف بنفسِه، يالوجع الذي يتسربُ من صوتِك، يا لمرارة الحزن التي تعبر لسانِك، يالكُبر فجيعتي بقلبِك الذي يموت شيئًا فشيئًا، لم يتركُوا لي مساحة لأتغنج بحُبك، لم يتركوا لي مساحة لأعشق إسمك، سرقوا منِّي رغيفُ الحب و تركوني على حافةِ الإنهيار، سرقُوا مني الماء و عينيْك يا عزيز.
عبدالعزيز بحنجرةٍ تبحّ مع الهواء : فيه رجال ينهزمون بالحياة ومايتقبلون الهزيمة يضلُّون يحاربون ويحاربون لين تثور أوجاعهم ضدهم . . تخيلي أوجاعك توقف ضدِك؟ تصوّري وش كثر الرجّال يفقد نفسه؟ إحنا ما نؤمن بقبول الأمر الواقع . . إحنا الرجال سيئيين ومحد يتأسف علينا ولا يبرر لنا لأننا نستاهل كل لحظة وجع! لأننا ماعندنا قلوبكم يا رتيل! ماعندنا قلوب تتحمل وتحبس هالوجع! ما عندنا قلب يكمل حياته بدون لا يرجع لورى! ماعندنا هالشيء! إحنا سيئين بالحب حيييل! وسيئيين أكثر لأننا تربينا في مجتمع جاف! ما وقف فيه شخص يدافع عن حُبه . . .
بنبرةٍ يتحشرجُ بها الألم يُكمل : المسألة ماهي فيك! المسألة أنه الشخص ما يقدر يتخلى عن نفسه . . مايقدر ينفصل عن نفسه . . وأنا . .
رفعت عينيْها التي تُضبب عليها رؤيتها من نهرُ الدمع الذي يجري بها : وأنت؟
عبدالعزيز تنهَّد ليُشاركه الهواء البارد الأبيض الخارج من فمِه : وأنا؟ . . مين بالضبط؟
رتيل بإرتجافة شفتيْها وبالمسافة القصيرة جدًا ما بينهما : أنت يا عبدالعزيز
عبدالعزيز بوجَع الرجال الذين تلاحمُوا في صدرِه ولم يرحموه : ما قلت لك الخسارة يوم جتني حاصرتني جماعة . . . وماقلت لك نحارب هالحياة لين ينكسر فينا الضلع واحد ورى الثاني . . وما قلت لك أنك نفسي يا رتيل . . وإني مهما بعدت ماراح ألقاني إلا ويَاك . . وإني مهما سويت الكثير منِي فيك . . وإني مهما حاولت أحفظك فيني . . يكسروني! .. .. مو أنا اللي ما أبيك لأن محد يرفض نفسه وقلبه . . يقترب منها فوق إقترابه ليحاصِر ملامحها بيديْه وجبينه يلاصق جبينها وعينيْها يتدافعُ بها الدمعُ بلا توقف، بصوتٍ يسلبُ قلبها و يزرع في كل زاويَةٍ بجسدها وجعًا آخر وعينيْه تحتبسُ الدموع دُون أن تنزل دمعة من أجلها : يمكن الله ما كتب لنا الحياة في الدنيَا، يمكن الوعد في الجنَـة بس تدرين وش أخاف منه؟ . . .
أرتجف من درجة الحرارة التي تقل أكثرُ بكلماته الضيِّقة : أخاف أننا ما نلتقِي بعد، قدرت أهرب وأحمي نفسي مرَّة ومرتين . . بس الثالثة ماراح تكون سهلة أبد يا رتيل . . . أقترب من عينها اليسرى الباكيَة ليُقبِّلها بعمقٍ و صوتُ الهواء الذي يُداعب أوراق الأشجار وحده من يشارك صخب أنفاسهم المتصاعدة : مو جبان لما تقولين أختار الطلاق! . . لأني ما أبي ننفصل . . لأني أبي أعيش هالخراب معك وهالأساس الهش اللي مقدرنا نوثق حباله، أبي لمَّا أغيب تكونين زوجتي اللي مقدرت أراقب حركاتها وهي نايمَة، مقدرت أشوف عيونها كيف تشرق! مقدرت أحتفل معاها بزواجنا ولا قدرت أجيب منها طفل يشبهها . . أبيك تكونين زوجتي اللي حلمت فيها ولا قدرت أوصلها . . اللي أنتظرتها وماعرفت كيف ألاقيها . . ابيك زوجتي اللي مقدرت أصلي جمبها ركعتيْن ولا قدرت أشوفها كيف تصحيني! . . أبيك زوجتي اللي مقدرت أسهر معها ليلة ولا قدرت أشاركها بأيّ قرار . . أبيك مثل ما أنتِ! أبي كل هذا ينتهي وأنتِ زوجتي
لم تبكِي مثل هذه المرّة أبدًا، ضاعت بغياهيبه وهي تُغمض عينيْها حتى لا تراه أكثر، هذا الوداع تعرفه، هذا الوداع لا تطيقه، أرتخى جسدُها بين ذراعيْه وهي تجهلُ كيف تتحدث، تلعثم قلبها بالكلمات وبالحُب، تشعرُ بأن الرجفة لا تخترق جلدها فقط! بل قلبها يُشاركها الرجفة، بكت كثيرًا منه وعليه ولكن لم تبكِي يومًا بكاءً يذبلُ به كل شيء، يذبلُ به تفكيرها وقلبها معًا، تفقدُ وظائفي الجسميَة مرونتها، كل شيء يتيبس يجف يا عزيز.
أقترب من عنقها ليحبس أنفه بها وهو يتحدث كأن روحه تُزهق، دقائق كي أسحبُ رائحتك فيّ، كي أحبسُ لمسات جسدِك في صدرِي، أنا أموت يا جميلتي وكل آه مصدرها سمرَاء، وكل آه يتحشرجُ بها الطريق المسافر عنكِ أصلُها عينيْك، اموت بهزائمي التي قررت أن تُنيب بقراراتها عنِّي، أمُوت من حرقة الولع، أموتُ يا رتيل ولا تكفيني صلاة الغائب عليّ! أنا الذي كنت أرى الموت في أعينهم، أنا الذي أحببتُك في اللحظة التي كنت أقترب بها من الموت، المجدُ لقلبك الذي صبَر والرثاء على قلبٍ أندثَر، المجدُ للبكاء الذي لم يفوِّت لحظة من غطرسته نحوي و الحزن كل الحزن على أولئك الذين جرّمُوا البكاء بحق الرجال، الحزن على أولئك الذين علّموني كيف أتغطرسُ على دمعي حتى تغطرس عليّ، الحزن على المجتمع الذي تعامل مع الرجال ولم يتعامل مع إنسانيتهم، الحزن وكل الحزن أنهم جعلونَا نبكي بقلوبنا حتى لا نضعف، ليتهم ينظرون! ليتهم يعرفون كيف بكاء القلوب يسلبُ من الحوَّاس حركتها، ليتهم يعرفون كيف لقلبٍ أن يتقطع ولا تنزل دمعة تخفف وطأة النحَر، ليتهم يعرفُون وليتني استطعت أن انسلخ من هذه القناعات من أجلِك، ليتهم يعرفُون كيف لبرزخ القلوب أن يؤذي بهذه الصورة دُون أن يُحيلني لحياةٍ أخرى، أنا واقف بالمنتصف، واقف بالمرحلة الوسطية، واقفٌ وكلِّي موْت.
أغمض عينيْه وهو يغرقُ بها : مقدرنا نسوي شي مجنون! . . ما صوّرنا ولا مرة مع بعض . . ما أحتفظنا بشيء . . قسينا! قسينا كثير!
رتيل رفعت رأسها للسماء لتبكِي و أنهارُ عينيْها لا تتوقف، وضعت يديْها فوق رأسه القريبُ منها وهي تجهشُ ببكاءٍ لا يتوقف أبدًا، ما عاد الوقوف يُفيد؟ ما عادت النهايَة تُغري للوقوف! كل الأشياء ترحل . . كل الأشياء تبتعد منِّي.
عبدالعزيز أرتخت يديْه منها ليصعدُ بقبلةٍ عميقة بين حاجبيْها وهو يهمس لعينيْها المغمضتيْن : جينا لزمان ماهو زماننا ولمكان ماهو مكاننا . . جينا بوقت غلط ماكان في شيء صح إلا عيونك . .
رتيل تدفنُ ملامحها بعنقِه وهي تستنشق سُمرتِه وبصوتٍ مخنوق : أشششش! لا تقول كذا . . لا تتشائم بهالطريقة! أنت تعرف وأنا أعرف أننا نقدر . . راح نرجع الرياض وراح نكمّل حياتنا . . راح نبدأ من جديد وراح ننسى هاللي صار! . . أنت ماتعرف وش يصير فيني لو تغيب عنِّي؟ . . أنا مقدر . . إحنا قلوبنا بعد ما تتحمَّل! ما تتحمّل والله . . . لا تروح! . . خلك هنا، أنا أحتاجك!
عبدالعزيز وشعرُها البنِّي يهطلُ على وجهه وهو يشدُّ جسدِه بقوة، يعانقها بعنفِ قلبه الذي اصطبر حتى تلاشى صبره : ما أتشائم!
رتيل بضيق : من خاف سلم! .. وأنا قلبي خاف كثير ولا سلَم يا عزيز
عبدالعزيز بخفُوت : كانوا يهددون أبوي لكن ما سمع لهم! . . وماتوا كلهم ولا تركوا لي أحد . . . والحين نفس الأسلوب يستعملونه معايْ . . . أنا ماأتشاءم بس ما احلم كثير
رتيل ببكاء : ليتني ما سمعت كل هذا! . . ليتني ما عرفت كل هذا . . ليتني ما اصريت عليك عشان تتكلم . . . ما احب هالوجع اللي بعيونك . . أحترق يا عزيز فيه
،
بصوتٍ يتوتر لحظة ويتزن بلحظةٍ أخرى، يجلسُ بسكينةٍ على المقعد الجلدِي دُون أن يتحرك به شيء سوى أصابعه التي تتحركُ بموسيقيَةٍ على جانبِ الكرسي : حصل هالشيء بعد الحادث تحديدًا، اضطر مقرن يساعدني وتورط معهم . . . خبينا غادة في مستشفى ثاني و . . قدموا الرشوات للطاقم الطبي المسؤول عن حالتها . . قدرنا نزوّر أوراق كثيرة تتعلق فيها . . حوّلنا إسمها وخليناه يقترن بإسم مقرن بدون رضا منه لكن من ضغطهم عليه . . . فيه أوراق محتفظ فيها مقرن وكانوا يحاولون يآخذونها دايمًا بس كل محاولاتهم تفشل ويساعدهم مقرن بطريقة ثانية غير الأوراق . . لين ما قدرُوا يضبطون له كل هالأفعال ووصلوها لكم بطريقة غير مباشرة بعد . . لما وصلتوا لمرحلة الشك فيه أضطر يختفي عشان يتفاوض معهم بخصوص الملفات اللي عنده من سلطان العيد الله يرحمه لكن . . مقدر يسرب معلومات تخص أمن بلد . . أقتلوه! و الحين مهدديني عشان ما يوصلكم كل هذا! . . . . . لأن سليمان راح ينهي قوة الجوهي بعد ما ينهي الأشخاص الواقفين هنا! . . كانت هذي خطته من بعد حادث العيد . . لكن حاليًا يستعمله آسلي المتعاون مع سليمان ورائد بس بالصدق هو ضدهم لكن يحاول يستغل إندفاعهم . . . عبدالعزيز هو الوجهة الأخيرة لهم . . راح يستدرجونه في الأيام الجاية عشان يروح لهم بروحه بدون أيّ أحد ثاني . . وهناك راح يستعملون إسمه مع شركاءهم . . وعشان يستعملون إسمه أكيد ماراح يكون حيّ . . . . راح يفككونكم .. راح يفككون أساس الأمن هنا . . وراح يضربونكم في بعض . .
عبدالرحمن : آسلي هو اللي كانوا يسمونه صلاح؟
فيصل : إيه
عبدالرحمن بضيق يقف : كل شي قاعد يطلع من سيطرتنا! . .
وصَل سلطان بخطواتِه الثقيلة ليُسرع إليه أحمد : ينتظرونك . . في مكتب بوسعود
سلطان يتجه نحو مكتبه بعُقدة حاجبيْن حادة، فتح الباب لتتجه الأعين نحوه، نظر لفيصل بإستفهامٍ شديد حتى وقف الآخر : أنا مضطر أروح الحين . . مع السلامة . . . وخرج من أمام سلطان دُون أن يتحاور معه بكلمة.
سلطان : وش صاير؟
عبدالله : اجلس وأستهدي بالله عشان نقولك
سلطان : أتمنى بس أنكم ما اتخذتوا قرارات من دوني
عبدالرحمن تنهّد : تطمّن
سلطان يجلس على المقعد بمُقابلهم : وش صار؟ وش قال فيصل؟
مرّت الدقائِق والساعات الطويلة في سماء الرياض وهُم يشرحُون ما قاله فيصَل ثم معرفَة فك الشفرات التي بدأت تختلط ببعضها البعض، والأوراق تنتشرُ في كل مكان حتى الأرض التي جلس بها عبدالله ويحلل مسار قضايا قديمة بدأ الشك يتسلط عليها، جلس كل واحدٍ منهم في زاويَة لمراجعة الأوراق من جديد والملفات التي رُبما تعمل معلومة تساعدهم، تربّع سلطان على الأرض وهو يوزّع بعض الأسماء في الأرض ليُردف : صلاح يتعامل مع فوّاز . . بس مافيه أيّ ملف يحمل إسم فواز . . . . ولا حتى له أيّ وثائق رسمية . . لا جواز ولا بطاقة تحمل هالإسم . .
عبدالرحمن رفع عينِه والساعة تصِل للثالثة فجرًا : دققت بإسمه الكامل؟
سلطان صمت قليلاً حتى أردف : فواز أكيد من طرف سليمان! . . يستعمل هالإسم عشان ما نصيد عليه شيْ!!!!!! . . . و سليمان يلتقي مع رائد بأسامة . . هذا يعني أنه مخططات سليمان تتم بكل هالسرية لأنه يستعمل إسم فواز . . ممكن يكون هو فواز مو شخص ثاني من اللي يشتغلون تحته
عبدالرحمن يقف وهو يسير يمنة و يُسرة : إذا حطينا هالفرضية .. أنه فواز هو سليمان . . كيف حققوا و استجوبوا فواز؟ .. مين كان ماسك القضية؟
سلطان : عبدالمجيد . . بو سطام الله يشفيه
عبدالله : يتعالج في باريس الحين صح؟
سلطان : إيه قبل مدة كلمته كان طالع من غيبوبة . .
عبدالله : هو تقاعد قبلنا بسنة أو . .
عبدالرحمن : معقولة يكون يعرف شي وما حطّه في الملف؟
سلطان يقف وهو يُمدِّد يديْه بإجهاد : بو سطام تقريبًا تقاعد 2007 بعد المشاكل في قلبه وعلى طول راح باريس . . لحظة لحظة . . في الوقت نفسه كان سلطان العيد الله يرحمه مقدّم على التقاعد والروحة لباريس! . .
عبدالله : ما فيه غير نكلِّم عبدالمجيد ونستفسر! . . مستحيل يكون فيه أوراق رسمية ما حطّها في الملف
سلطان : ومستحيل تفوت على عبدالمجيد أنه هالوثائق مزورة وهالإسم ماله أيّ وجود! . . فيه شي ناقص بالموضوع!
عبدالرحمن : كيف نلقى اللي كانوا مع عبدالمجيد في تحقيقه مع هالفوّاز!
سلطان : ووش يضمن أنه تم التحقيق؟ ممكن ماحصل تحقيق وكل هذا كلام!
عبدالله : أنا رايي من راي سلطان! . . مستحيل هالإستجواب يكون صاير وناقص بهالشكل المشكوك فيه! . .عبدالمجيد مو غبي عشان تفوت عليه مثل هالأشياء . . .
سلطان : هذي بتاريخ 7 / 6 / 2007 .. يوم الخميس ..
عبدالله : ما تتم الإستجوابات هذي يوم الخميس!
عبدالرحمن : الخميس إجازة لدائرة عبدالمجيد أصلاً
عبدالله : إيه بدائرتنا معنا الخميس إجازة دايم وماتتم فيه تحقيقات ولا شي! اللهم أمور روتينية
سلطان تنهّد ليُردف بعد صمت لثواني : يعني هذا الملف مزوّر! أو ماله وجود! . . عشان كذا سليمان ما هو مراقب! لأن مافيه أيّ شي يدينه . . بس هذي جريمة بعد! اللي غطوا عليه وأتركونا ننحاس كل هالحوسة عشان نوصل لإسمه . . .
عبدالرحمن : وممكن إسم عبدالمجيد بالتحقيق مزوّر بعد . . مو شرط
سلطان : أموت عشان أعرف وش كان يخبي سلطان العيد الله يرحمه
عبدالرحمن : بنرجع لنفس الموضوع اللي ماراح يفيدك بشي
عبدالله : وش تتوقع ممكن يخبي سلطان العيد؟
عبدالرحمن : خرابيط من سلطان!
سلطان بإبتسامة : تتحدى! إذا طلع صح وش ممكن تعطيني؟
عبدالرحمن بمثل إبتسامته : أحلق شاربي!
عبدلله ضحك ليُردف: خرفتوا رسميًا!
سلطان : لأنه صار له كم يوم يشكك بأنه سلطان العيد ممكن يخبي شي عظيم! . .
عبدالله يقف وهو يأخذ شماغه ليرتديه : طيب ليه ما نستعمل زياد! . . نخليه يرجع لهم لكن نراقبه ويوصِّلنا هالأوراق اللي مضيعتكم
سلطان : مستحيل ينوثق فيه! . . خله زي الكلب هنا لين يجون الكلاب الثانيين ويحاكمونهم! . .
عبدالله : على الطاري! اليوم مدري أيّ جريدة كاتبة عن إختطاف بس مو كاتبة أسماء أحد لكن يقصدون بنت عبدالرحمن . . أتوقع رائد قاعد يحاول يرسلك بطريقة غير مباشرة بأنه بنتك تحت التهديد
عبدالرحمن تنهّد بحنق : أفكر نحاصر بيته بس بهدوء، أخاف يوصله الخبر ويولّع في عبدالعزيز والبنات
سلطان : كيف بهدوء؟ .. ماراح نقدر! لأن هو ماسك علينا أكثر من شي . . ولو عرف بموضوع أننا مصادرين بيته ماراح يرحم أحد!
عبدالله : هو اصلا مافيه الا كم واحد بالرياض الباقي كلهم بباريس! . . بكرا بدون ضجة نجيه . . ندخل مكتبه ونحاصر رجاله دامهم قليليين ومحد بيوصله الخبر
عبدالرحمن : يعني بدون القوّات؟
عبدالله : إيه . . واحد منّا يروح ومعه إثنين ويتولون الموضوع! . .
سلطان : خلاص تم! أنا بكرا أروح وآخذ معي من القوّات إثنين يكفون . .
عبدالرحمن : تدخل مكتبه وتشوف ممكن توصل لشي ولا تحاول تتكلم مع الحرس لأن أصلا ماراح يعرفون شي!
،
ينظرُ بعينيْن متسعتيْن ليلفظ بخفوت : موجود! معاه وحدة
عُمر : يا حيوان خلك ولا تتحرك . . لحد يشوفك . . راقب البيت و شوف وين يدخل وحط الظرف عنده . .
: طيب بس شكلهم مطولين . . هذي زوجته يمكن بنت عبدالرحمن
عُمر : زوجته ولا اخته وش دخلني أنا! . . انت لا تسوي أيّ ربكة وتخليهم ينتبهون لك . . خلك هادي
: طيب اذا ما طلع برا البيت وش أسوي؟ آخذه هو واللي معه
عُمر : أقطع راسك لو تلمسه قبل لا أقولك . . أنت الحين سوّ اللي قلته لك بعدين نفكر .. الواحد يكون حذر مو غبي كل شي بسرعة
تنهّد : مو إذا صرنا حذريين قلتوا الناس تتذابح وأنتم تتفرجون وإذا صرنا متسرعين قلتوا بتشككونهم فينا . .
عُمر : إكل تراب ناقصك أنا . . وأغلقه بوجهه.
،
بعينيْن ناعِسة تضع رأسها على صدره، تسمعُ لموسيقى قلبه الخافتة وهي ترتفع بلحظاتٍ قليلة وتصمد للحظاتٍ كثيرة، لا يخرب اللحنُ بها، مازالت جُغرافيَةِ صدره وحدها الملاذ، أظن أنني بدأت أقع بتشعباتِك في قلبي، لستُ أظن على كل حال بل مُتأكدة تمامًا أنني لا أريد الخلاص منك : كلمتها اليوم وقلت لها عن القضية و عصبت عليّ
يُوسف بصوتٍ ينامُ على شعرها : عصبت! . . ليه؟ ماقالت لك شي ثاني
مُهرة : تقول أنك تدوّر الزلة عشان تطلقني ومن هالكلام
يُوسف عقد حاجبيْه : أمك غريبة
مُهرة : هي أعصابها توترت من عرفت بموضوع الإجهاض . . وصارت تحمّلني الذنب في كل شي أقوله لها
يوسف : مُهرة لا تزعلين مني بس ما تلاحظين انها تخبي شي!
مُهرة : لآ أنا اعرفها أمي هي يمكن منقهرة ومتضايقة من سالفة الإجهاض مو أكثر
يوسف : ممكن تعرف شي عن أخوك الله يرحمه؟ يعني ممكن قبل لا يتوفى قالها شي و
قاطعته مُهرة بحدّة وهي ترفع رأسها عن صدره : مستحيل!
يوسف : مو قصدي أنها تكذب! بس ممكن هي خايفة من شي . .
مُهرة : أنت ملاحظ أنه صار لك يومين تتهمني مرة ومرة فهد ومرة أمي
يوسف يجلس ليسند ظهره على رأس السرير : مو إتهام! أنا أقولك أشياء مستغرب منها وأمك تثبت لي هالشي بعصبيتها وبردة فعلها
مُهرة بغضب : تصبح على خير .. . وأعطته ظهرها لتُغطي وجهها بالفراش دُون أن تلفظ كلمةٍ اخرى، في داخلي شعُور بانه يحاول أن يبتعد بطريقةٍ لا تؤذي ضميره، يحاول أن يتهم ويفتعل المشاكل حتى أبتعد من نفسِي.
يُوسف يقترب منها ليضع ذراعه حول بطنها ويسحبها بإتجاهه : مو قصدي أجرحك بأخوك ولا أمك . . أنا آسف
مُهرة وعينيْها بعينيْه : هالموضوع يوترني كثير! خلاص خلهم يفصلون بالموضوع بدون لا نتناقش فيه .. سواءً كان الذنب علينا أو عليكم . . ما أبغى أعرف وش بيصير ولا وش راح يصير! . . أتركني أتقبل النتيجة بوقتها
يوسف بإبتسامة : وعد ماراح أتكلم بهالموضوع قدامك أبد . . أقترب ليُقبِّل جبينها . . تصبحين على خير
،
تستلقي على الأريكة وهي تضغطُ على بطنها للحظاتٍ كثيرة حتى ترفعها بهدُوء، يسيرُ دمعها بمجرى ضيِّق على خدها، تأملتُ كثيرًا بأن تأتِ اليوم يا عبدالرحمن، تأملتُ بأن تأتِ وتنتشلنا من وعثاءُ باريس، لم ولن أكره مدينة ككُرهي ومُقتي هذه اللحظة لباريس وفرنسَا بأكملها، متى نعُود كما كُنَّا؟ متى نجتمع جميعًا بفرحٍ مُحقق! متى يلتمُ شملنا ونسعَد؟ إلى متى والدمعُ لا يجفّ من محاجرنا؟ إلى متى والحُزن يغرقُ بنا؟ إلى متى وكفوفنا تتجمَّدُ دون دفءٍ من أحدهم، إلى متى يا عبدالرحمن ونحنُ بهذا البكاء وهذه الندبَات تُحاصرنا في كل مكان؟ إلى متى ونحنُ لا نثير دهشة السماء بفرحة؟ بضحكة؟ بإبتسامة؟ إلى متى ونحنُ نعدّ الأيام للحزن! إلى متى ونحنُ نعيش بهذا الكابوس؟ لا أطلب الكثير، لا أطلب الفرح بقدر ما أطلب الراحة، أطلبُ هذه الراحة التي سُلبنا منها طيلة الأيام الفائتة؟ حاليًا لا أشعرُ بشيء أكثرُ من شعوري ببلادِ الحروب، بأوطانٍ تربّت على طلقات النار والدبابات! كيف يعيشون؟ كيف ينامون بهدوء؟ كيف يأكلون؟ كيف يراقبون متى يحين الموت؟ كيف يحملون كل هذه القوة للإستسلام بمجدِ الشهداء؟ أشعرُ وكأنني أنتظر فجيعةٍ بأحد، متى أراك يا عبدالرحمن حتى تخمدُ في عيني الحروب؟
نظرت للباب الذي يُفتح لتدخل منه رتيل وملامحها تُثير الفزع بقلبِ ضي، وقفت لتتقدّم إليها : رتيل؟
أرتمت بحضنها وهي تعانقها بشدّة لتبكي على كتفِها، ضي بخوف : صاير شي؟ . . تكلمي طيحتي قلبي
رتيل : عبدالعزيز
ضي بحزن تربت على ظهرها المبتِّل بالمطر وعلى معطفِ عبدالعزيز الذي ترتديه،و يضجُّ صخب رائحته فيها لتُردف : تعوّذي من الشيطان . . قطعتي نفسك بالبكي
رتيل : أحس روحي بتطلع! .. ما قد شفت في حياتي كلها كيف شخص يموت من داخله! كيف يبقى كِذا جسد وبس! . . ما قد شفت هالشي أبد . . يوجعني حييل يا ضي .. أحس أني بموت من الوجَع
ضي التي تستنزفُ عاطفتها كثيرًا بكَت معها : بسم الله عليك . . لا تقولين كذا
رتيل : حسيته يودّعني . . ما كان يفضفض هو كان يعترف بأننا ما عاد فيه أمل . . كل شيء ممكن الواحد يتجاوزه الا أنه يموت بإيده الأمل . . ليه يعيش؟ إذا مافيه أمل ولا فيه سعادة تنتظره؟ . . . أحس بنار في صدري .. ما ودِّي يروح مكان! خايفة يصير له شي .. ما أبيه يموت يا ضيّ
ضي تسقطُ دموعها كسكاكين في صدرها : محد يموت قبل يومه! الله يطوّل بعمره . . وش صاير؟ ليه يقولك كذا
رتيل : ما أدري! . . بس عُمره ما كان صادق مثل هالمرّة . . . كان صادق كثير . . . كان ودِّي أسمع منه هالكلام بس ليتني ما سمعته . . سمعته واوجعني فيه . . . . ليه كذا؟ ليه يصير معنا كل هذا؟ . . يوم حسيت كل شي ممكن يتحسن رجعنا للبداية اللي عيّت تختفي
،
يجلسُ على الكرسِي بجانب السرير وعينيْه تراقب محاولاتها البائسة في النوم، يغرقُ بملامحها ليغرق بتفكيره بأعمالِ والده، ينظرُ لحركاتها الخافتة ليسترجع بعض المواقف مع رجال والده، تنتحي عينيْه لكفوفها التي تشدُّ على الفراش ويستعيدُ بعض الكلمات التي سمعها من والده، أقترب منها ليهمس : عبير
فتحت عينيْها بهدوء ليلفظ : الفندق ما يدخله أيّ أحد . . وفيه تفتيش آلي عند الباب .. ماراح أتأخر بس ساعة وراجع
عبير بخفُوت : طيب
فارس ينحني ليُقبِّل جبينها ويخرج دُون أن ينظر لردة فعلها، نزل للأسفل بالسلالم متجهًا لمواقف السيارات، ركب السيارة ليقودها بسرعة تتعدى السرعة القانونيَة، ينظرُ للساعة التي تقترب من الثانية فجرًا بتوقيت باريس، فتح درج السيارة ليضع الأوراق بجيبِه وهو يقود بتهوّر، رفع عينه للطريق ببرود ليُكمل سرعتِه، تمرُّ الدقائق السريعة بتفكيرٍ يجعلُ عقله يُصيبه الأرق من المصائب المتداخلة ببعضها البعض، ركن السيارة اسفل الشقة التي يسكنها والده ليقترب من إحدى الحرس : هذي سيارة مين؟
لم يُجيبه وهو يلفظ : أبوك معصِّب خليتنا نضطر نطلق النار
فارس يلكمه بقوة على عينه : هذي سيارة مين؟
: ما أعرف
فارس : طيب . . حسابكم معي ما خلص . . .وصعد للأعلى وهو يُعدِّي الدرجتيْن بخطوة، فتح مكتبِ والده الذي كان يقرأ بإحدى الأوراق بتمعنٍ شديد، رفع عينه بغضب عندما أنتبه له : شرّفت! . . وقف . . مين سمح لك تطلع ولا مآخذها معك بعد!
فارس : أترك هذا على جمب . . كيف مخلي هالحمير عندِك؟ يشتغلون من وراك وينسبون لك أشياء مالها علاقة فيك!
رائد ببرود : طيب؟
فارس : وش طيب! . . أسامة جالس يخوّن فيك
رائد : أدري! . . مع سليمان
فارس عقد حاجبيه : تعرف ومخليه
رائد بإبتسامة : أحيانًا من الذكاء أنك تتغيبى شوي! . . بعد كم يوم راح يجي سليمان بحجة عقد وراح أورطه فيه!
فارس تنهد براحة : الشرهة والله عليّ اللي جايّ وراسي كان بينفجر من خوفي عليك يا يبه بس واضح أنك مضبط كل أمورك
رائد : ليه طلعت؟
فارس بحدة : من الحمير اللي عندِك! . . الحين مين يطلع سليمان؟
رائد : إذا عرف سليمان بأني قابلت آسلي واتفقت معه على كذب بيروح ويتفق معه واورطه بقيمة لو يقضي عمره كلها ما جاب نصّها . . وينتهي بالسجن زي الكلاب اللي قبله . .
فارس : يعني بتكذب وتسوي نفسك شاري من هاللي إسمه آسلي عشان يندفع سليمان ويشتري لأنه ضامنك وساعتها بتطلع ببرود و تتركه يواجه خسارته
رائد : عليك نور! كما تدين تدان! هو تصرّف بموضوع سلطان العيد مثل ما يبي وحرّك المواضيع ببرود وخلاني اتورط فيها! . . أنا هالمرّة بورطة ورطة مايطلع منها لو يحب السما
فارس : بس توريطته لك ما كلفتك ذاك الشي الكبير! وأنت تبي تفلسه على الآخر وترميه بالسجن
رائد بنرجسية : لأنه تحداني! . . وأنا ماأحب أحد يتحداني
فارس : ماراح ننتهي من هالمشاكل؟
رائد : لين يصير اللي في بالي! بكفّ شري عن ديرتك يا حبيبي
فارس: وديرتك
رائد : بهاجر هجرة بلا عودة! بنسى الرياض واللي جابوا الرياض! بعيش حياتي مثل ماأبي ومثل ما خططت
فارس : مو كذا الأمور تنحّل! أنت متورط بجرايم كثيرة!
رائد : وين الدليل؟ لو عبدالرحمن واللي معه يقدرون كان ما شفتني الحين! هُم ببساطة يعرفون أنه ماهو من صالحهم يتحدوني! . . عشان كذا خل سليمان يتعشى فيهم وينسفهم وبعدها أنسف سليمان وانتهي من هالعفن!
،
يطلق آهٌ مؤلمة : لا تحرّك كثير
: يخي دبلت كبدي . . تقول حرّك رجلي ومرة تقول لا تحرّك
حمد : يا حمار حرّك رجلي الثانية أحسها تحللت
: من الدرج اللي في راسك قلت لك أبعد عن فارس بس ما طعتني
حمد : وتحسبني ببعد! والله ثم والله لأخلي هالكلبة تحترق لما تشوفه!
: وش تبي تسوي؟
حمد : كل ماضيه الوصخ بجيبي! بالوقت المناسب راح أنشر غسيله وساعتها بشوف كيف بترضى فيه بنت عبدالرحمن ؟
: بتودينا بداهية! من الحين أقولك أنا مالي دخل لأن لو عرف رائد أني معك قسم بالله لا يشرب من دمِّي
،
بخطواتٍ هادئة يُغلق الباب لينفتح النور، ألتفت بفزع لينظر لوالدته : مانمتي؟
والدته بوجهٍ شاحب : أنتظرك
فيصل عقد حاجبيْه وهو يقترب منها : خير فيه شي؟
صفعتهُ على خدّه بكل ما أوتيت من قوّة، هذه المرة الأولى التي تمدُّ بها يدِها عليه، بعينيْها الغارقة بالدمع : قلت مافيه شي وكذبت!
فيصل وقف متجمدًا من صدمته بالصفعة التي لم يعتاد عليها أبدًا ولم يراها في حياته، نظر لوالدته بنظراتٍ من شأنها أن تزيدُ من غضبها : ليه كذبت عليّ؟
فيصل : يمه وش صاير! والله مو فاهم وش تقصدين؟
والدته وعينيْها تختنق بالدموع : مين عُمر؟
فيصل : عُمر!
والدته بغضب تصرخ عليه : إيه عُمر! . . متصل ويهدد ويتكلم بأشياء ظنيت أني أعرفها بس طلع ولدي يخبي عليّ
فيصل يشعرُ بأن براكين تثور في صدره : طيب أهدي .. لا ترفعين ضغطك
والدته : فيصل لا تهديني ماني أصغر عيالك! قولي مين عمر؟ وش علاقته بمقرن وبهالناس!
فيصل يبلعُ ريقه : كان موظف و . . يعني حصلت مشكلة وهو شكله يبي يخوفك بس عشان يقهرني لأني متهاوش معه
والدته : تضحك عليّ؟ . . فيصل أنا أعرفك لما تكذب! . . قولي مين هذولي؟ . . ياربي حرام عليك اللي تسويه فينا! عرسك بكرا وأنت تتهاوش مع فلان وعلان! . . واليوم الشغالة تآخذ من السواق أوراق من مكتبك! . . وش صاير؟ ليه ما صرت تداوم! وين تجلس كل اليوم؟
فيصل بضيق يُمسك يديْها حتى يُخفف من توترها : طيب أجلسي يا بعد عُمري مافيه شي يخوّف لاتشغلين بالك! . . بيتم العرس على خير وبتفرحين وأنسي كل هذا . . صدقيني كله كذب
والدته : يا يمه اللي تسويه غلط! .. صدقني غلط!
فيصل يقبِّل جبينها : حقك عليّ .. ماراح يتكرر أيّ شي من هذا . . روحي نامي الشمس قربت تشرق وأنتِ سهرانة
والدته بضيق : الله يصلحك هذا كل اللي أقوله . . وصعدت للأعلى.
فيصل تنهّد بغضب ليُخرج هاتفه ويكتب رسالة " راح أوصِّل لسليمان خرابيطك لو حاولت لمجرد المحاولة أن تتصل على أمي! وحط هالشي في بالك والله لا أحرقك أنت واللي معك " . . . . أتصل على من هذَّب غضبه وأعاد له توازنه في هذه الحياة بعد الله، أنتظر كثيرًا حتى أتى صوتُه المُسكِن لكل الأوجاع بنظره : هلا بالغالي
: هلابك . . وش أخبارك يبه؟
فيصل : تمام . . رحت اليوم لبوسعود وكلمته . . قلت له كل شي قلته ليْ
: كفو! . .
فيصل بتنهيدة الوجع : بس ماني مرتاح يا عمي! . . راح يحوسون حولي!
: فيصل لا تهتم! كل الأمور من الله بتتسهَّل . . .
فيصل : اخاف يضرُّون عبدالعزيز! . . ويضرُّون ناصر وزوجته؟
: ناصر وزوجته بالحفظ والصون! . .
فيصل : وعبدالعزيز؟
: الله يحفظه . . لا تفكر بأحد . . فكّر بنفسك وشوف مشاكلك بالشركة! . .
فيصل يزفرُ بإختناق: والله خوفي يكشفونك ويضيع شغلك وشغل سلطان العيد الله يرحمه وراك
: تدري يمكن محد يعرف هالشعور كثير! بس شعور الفخر والفرح بعد تعب أستمر سنين يا زينه من شعور! . . قريب جدًا راح ينتهي كل هذا . . وراح نحتفل كلنا بسجدة لله وتذكر كلامي يا فيصل
فيصل بإبتسامة ضيِّقة : ليت مقرن كان موجود
: دمه ماراح يروح هباء . .
،
دخل بإرهاق دُون أن ينظر لأي شيء بالغرفة، توجه نحو الدولاب ليرتدي بيجامته، نظر للسرير المرتب على حاله منذُ الصباح، عقد حاجبيْه ليخرج وينظر للطابق الثالث، صعد بخُطى خفيفة ليقترب من الباب الذي يتيقّن بأنها خلفه، فتحه بخفُوت لينظر لعينيْها النائمة، اقترب وهو يُغلق الباب بقدمِه، يتسللُ إلى السرير الضيِّق حتى أستلقى بجانبها، شعر بأنفاسها التي توحي بأنها مستيقظة، بحركةٍ تعرفها جيدًا، سحبها من خصرها بلطفٍ سلطانِي حتى ألصق ظهرها به، فتحت عينيْها دُون أن تتحرك شفتيْها بكلمة، همس : ليه نايمة هنا؟
الجوهرة : مانمت! كنت راح انزل تحت
سلطان ويدِه اليمنى تستلقي على بطنها، أرتعشت من لمسته، لا تعرف كيف تسلل إليها شعُور بأنه وكأنه عرف بالأمر، حاولت أن تتخلص من قبضته وتنظرُ إليه لتترجم عينيْه ولكن زاد بضغطه ليُقيِّدها.
الجوهرة بسخرية : أكيد فيه شي مفرحك! هو لازم الجوهرة تبقى تحت سيادة مزاجك
سلطان : بالعكس! ما صار شي مفرح لي اليوم! . . بس حبيت أكسر كلمة مزاج اللي ما تفارق لسانك
الجوهرة : وكسرتها؟
سلطان يُقبِّل عنقها وهو يهمس: أكسرها لك مرتين لو تبين
شعرت بأن حرارة جسدها ترتفع والحُمرة تغزو أطرافها، أنت تعلم يا وجَع الكلمات في قلبي، يا ضيقُ التسويف في صدري، تعلم جيدًا أنك تُشعل فتيل الدماء المُستنزفة بحُبك، تعلم أكثر كيف للحياة أن ترتفع عند عينيْك وكيف تسقُط؟ يا وجعي يا سلطان مِنك في كل لحظةٍ تجمِّد بها الكون أمامي، أحيانًا أشعرُ بأنك تُضيِّع عليّ يقيني، بحقِ الله كيف تخلخل خاصرة اليقين بأصابعك دُون أن تدرك ماذا أرتكبت! أحيانًا أقف مصليَة متعبدة بأملي وأحيانًا تقطع عليّ صلاةُ الأمل التي يركع بها قلبي، تُذهب عقلي إليْك في سجُودِ أفكاره المتسبحة، كُنَّا نقول في صغرنا إذا صعدنا كبّرنا وإذا هبطنا سبّحنا، وأنا كُلما أرتفعُ لعينيْك أقول في نفسي " الله أكبر على وجعك " وحين أسقطُ بِك لا أعرفُ كلمة أبلغُ من " عيناك وجَع و إني إليها تائبة "، حتى حُزني يتُوب بصوتِي، يخمدُ لينام على عتبة لساني ولكن صوتُك يا سلطان يُزعزع نومه ويُفزعه، صوتُك كيف يجرح؟ كيف يخدش روحي و على ضفافِه ينبتُ الفردوس؟ قُل كيف لا أبكيك؟ وأنا أشعرُ بأنني مأذنة لا تجِدُ صوتًا تردُّ صداه، أتشعرُ بهذا الخلو/الوحدة ؟ أتشعرُ كيف يعيشُ الإنسان دُون أن يرتّد عليه صوته؟
بلعت ريقها لتُردف بربكة من أفكارها المتخبطة : قاعد تمحيني!
سلطان ببرود يستفزها : أنا؟
الجوهرة بإختناق : ما يوجعك شي على فكرة! أنت تتلذذ بكل كلمة تجرحني فيها!
سلطان : ما اتلذذ! بس متعوّد لما استجوب أحد أعيد كلامه عشان يصرخ ويقول كل اللي في قلبه
الجوهرة بحدة: وقلت لك أفصل ما بيني وبين شغلك! . .
سلطان : وأنا أصلي الفجر بالمسجد سمعت قصة عُمر بن الخطاب رضي الله عنه وزوجته
الجوهرة : رضي الله عنه
سلطان : لما علت صوتها عليه . . وجاني إحساس بأني أتقبل أنك تشتميني اليوم
الجوهرة رُغمًا عنها أفلتت ضحكة من بين شفتيها : وتقول مافيه شي مروقني! المسجد لوحده يروّق الواحد ويهدِّي أعصابه
سلطان بإبتسامة : قلت في نفسي! معليش يا سلطان خل الجوهرة تصرخ وتعصب وتسوي اللي تبيه . . بالنهاية هي من حقها تصرخ وتنهبل بعد إذا تبي
الجوهرة وتظهرُ أسنانها من إتساع إبتسامتها لتُردف بخفوت : ضيف لصفاتك أنك ملكّع
سلطان بضحكة يحبسها ليُكمل بتمثيل مُقنع : جلست بالسيارة شوي وأنا أفكر كيف أخليك تطلعين كل اللي في قلبك! لأن بكذا راح تتخلصين من حواجزك قدامي
الجوهرة : وأيش وصلت له ؟
سلطان بجديّة : ولا شي
الجوهرة ضحكت دُون أن تحاول أن تحبس ضحكاتها أمامه : ما يستفاد من كل هذا ؟
سلطان : بالضبط! أنا ابغاك تسأليني ليه قلت لك هالسالفة؟
الجوهرة : ليه؟
سلطان يقترب من إذنه ليُردف بخفُوت : وصلت لقناعة أننا مفروض نؤمن باللي كتبه الله لنا
الجوهرة : قناعة! مررة بدري
سلطان أفلت ضحكة خافتة ليُردف : هنا المشكلة الثانية
الجوهرة : ليه أحس أنك تتمصخر!
سلطان : واضح؟
الجوهرة بغضب : أبعد عني . .
سلطان بضحكة خافتة يشدُّها أكثر : المشكلة الثانية حلها أني أخليك تتثقفين شويْ فيني
الجوهرة بحدة : اتثقف فيك!
سلطان : لأن نظراتي لك عمرها ماكانت انتقاص مير أنتِ تشوفينها كذا هذا دليل أنه ثقافتك فيني ماهي كافية
الجوهرة : وش تبي توصله سلطان؟
سلطان : نحدد مشاكلنا ونعالجها بعدها نقرر
الجوهرة : وش مشاكلك معي؟
سلطان : أولاً فيه شي بخاطري من زمان ودِّي أقوله بس دايم أتراجع
الجوهرة ابتسمت : وش الشي؟ أكيد لي حق فيه
سلطان : يعني هو لك حق بس مو كثير
الجوهرة تشعرُ بلذة الإنتصار : إيه وشو؟
سلطان : ليه دايم أحسك تتعمدين تطلعين قدامي مبهذلة؟
الجوهرة صخبت بضحكتها وبضحكاتٍ نادرة تخرج منها جعلت سلطان يبتسم لضحكتها : واضح أنه دورك عشان تتمصخرين؟
الجوهرة : أولا عمري ما طلعت بشكل مبهذل بس أنا فعلا ما أحب المكياج ولا أحب أترك شعري مفتوح!
سلطان : بس تحبينه يكون مفتوح قدام غيري
الجوهرة : أقولك شي! مرة عمتك قالت لي الرجال إذا تبين تقهرينه صح! خليه هو والجدار واحد
سلطان : شوفي عمتي لها سلسلة فاشلة من الزواجات! يعني نصايحها لو تفيد كان فادتها
الجوهرة : أنا ما طبقت نصيحتها بس كما تدين تدان
سلطان : واضح الغل في قلبك والله لو أني يهودي
الجوهرة : أنت سويت فيني اللي ما يسوونه اليهود!
سلطان : تبالغين كثيير
الجوهرة : وش صار اليوم؟ أحس فيه شي وصلك
سلطان : ذكية الله لايضرك! . . تبين الصراحة ماصار ولا شي من اللي قلته لك بالبداية بس مريت المسجد جلست فيه شوي وجاني واحد شايب قمت أسولف شوي معه وقالي دايم قبل لا تقدِم على عمل منت واثق فيه كفاية تذكّر الرسول صلى الله عليه وسلم .. قول في نفسك لو كان الرسول مكاني راح يسوي هالشي أو لا؟ إذا حسيت أنه بيسوي هالشي سوّه وإذا حسيت أنه مستحيل الرسول يتصرف كذا أبعد عنه .. خل أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام هي القاعدة في حياتك والمفصل بكل قراراتك
الجوهرة بخفُوت : وراجعت أفعالك!
سلطان بجديّة : جلست لين طلعت الشمس وأنا أفكر واستخير الله . . وش ممكن يسوي الرسول صلى الله عليه وسلم بحالتي؟
الجوهرة بربكةِ شفتيْها وقلبها يضطرب : وش ممكن يسوي؟
،
ريم : أفنان واللي يرحم لي والدِيك
أفنان تنهدت : طيب خلاص بسوي كل اللي تبينه . .
سمعت صوتُه القريب، ركضت بخطواتٍ سريعة نحو الفراش، لتندَّس وتُغمض عينيْها، فتح الباب ليرفع حاجبه وهو يعلم تمامًا بأنها مستيقظة، أقترب بخطواته وجلس على طرف السرير عند أقدامها : بالله؟
ريم تحاول أن تكتم أنفاسها التي بدأت تُخيط لها ضحكة قد تُنهي كل خططها بحقِ ريَّان، ألتفت عليها : أدري أنك صاحية! . . بالله وش خليتي للبزارين؟
ريم فتحت عينيْها : ممكن تطفي النور لأني أبغى أنام
ريَّان : وش تحاولين تسوين؟ تبين تورطيني مع أهلي وتوقفينهم ضدِّي
ريم بإندهاش: أنا!! طبعًا لا . . واللي يوقف ضد زوجي يوقف ضدي
ريّان بسخرية : إيه واضح
ريم بإبتسامة تستعدل بجلستها : شفتني سويت شي غلط؟ . . بقولك شي ريّان . . أنا من يومي صغيرة أعاني من شي نفسي وياليت تراعيه شوي
ريّان : وشو؟
ستسلب الإتزان من عقل ريَّان بنبرتها الصادقة : ممكن أتوهم أنك قلت لي شي أنا ماقلته . . عشان كذا أنا ماأركز كثير . . ماكنت أدري أنك ماقلت لي عن الغدا لو كنت أدري طبيعي ماراح أتكلم بشي أنت ما قلته
ريّان عقد حاجبيْه : وش هالخرابيط؟ كيف تتوهمين؟ أنتِ بوعيْك ولا . .
ريم تُقاطعه : يعني هي حالة تجيني مرّات وهالمرة صدفت عليك . . على فكرة هو شي طبيعي يعني فيه ناس كثير يعانون منه
ريّان : ريم لا يكون تكذبين
ريم بضيق وهي تُكمل التمثيل ببراعة : أكذب؟ يعني عقب كل هالحكي تحسبني أكذب . . أوكي شكرًا يجي منك أكثر
ريّان : طيب وهالحالة كيف علاجها؟
ريم : مالها علاج! هو شي نفسي إذا كنت سعيدة مايجيني بس إذا كنت *شدّت على كلماتها* تعيسة تجيني كثير وممكن تحطني في مصايب كثير . . يعني تخيّل أتوهم أحد قالي أطلعي برا وأطلع . . استغفر الله استغفر الله إن شاء الله مايصير . . نفثت على نفسها بكلمتها الأخيرة.
ريّان ينظرُ إليها بصدمة : ماني مستوعب!
ريم بلعت ريقها : وش اللي منت مستوعبه! . . أتصل على أخواني إذا تبي وأسألهم بس أنا خفت أقولك في بداية الزواج وتحسبني مجنونة ولا شي
ريّان : طيب نتصل على أخوانك
ريم توترت لترتفع الحمرة لجسدِها : كلم يوسف
ريّان : لا منصور احسن
ريم : مقدر أتصل على منصور يعني يوسف أكيد صاحي الحين!
ريّان : بهالوقت؟
ريم : إيه عادي أخوي أتصل عليه بأيّ وقت بس أنت أكيد مو عادي
ريّان يعض شفتِه السفلية بحدّة : طيب أتصلي عليه قدامي
ريم بدأت أصابعها ترتجف وهي تضغط على إسمه، ثواني قليلة حتى أتى صوتُه الناعس : ألو
ريم : هلا يوسف
فزّ من سريره : ريم! . . فيك شي؟
ريم بربكة : لا لا . . ولا شي بس كنت أبغى أسألك وكذا
يوسف : الله يآخذك قولي آمين
ريم بإبتسامة لريّان : بخير الحمدلله
يوسف : الله يآخذك مرتين إن شاء الله! الواحد حتى وأنتِ منقلعة عنه ما ينام براحة
ريم : كيف أمي وأبوي؟
يوسف بعصبية : وش قاعدة تخربطين؟
ريم : أيوا الحمدلله . . طيب أسمعني يوسف أنا قلت لريّان أنه فيني حالة نفسية تذكر اللي جتني وأنا صغيرة وأحيانا تجيني . . المهم ريان تصوّر أنه مو مصدقني فقلت خلني أتأكد من يوسف بديت أشك حتى في نفسي
يوسف صمت قليلاً حتى أردف : هذا يدخل من باب إيش؟
ريم بضحكة : يدخل من باب وفاق الزوجين
يوسف : هو قدامك؟
ريم : إيه
يوسف : طيب وش تبيني أقول
ريم : إيه . . أقصد يعني صح أنا احيانا أتوهم أشياء ماهي موجودة . . تذكر يوم في المزرعة أحسب أبوي ناداني وطلع ما ناداني وبغيت آ
يقاطعها يوسف : طيب يا كذابة وصلت المعلومة لا تكثرين منها عشان مايطلع شكلك بايخ قدامه . . حطي سبيكر خلني أتكلم
ريم : طيب . . . ضغطت على زر السماعة الخارجية لتلفظ : إيه يوسف عيد اللي قلته
يوسف : جتك ضربة على راسك يوم كان عمرك 7 سنوات أتوقع أو ممكن 8 والله ناسي .. مفروض علمنا ريان عشان يكون على بينة .. المهم هو عندِك؟ *ألفظ كلمته الأخيرة بإستغباء*
ريم : آآآ . . لا يعني أنا بس أبي أقوله لا جاء أنك أتصلت وكلمتني وكذا
يوسف في داخله يشتم ريم بأشد الشتائم ليلفظ : طيب أنا أكلمه أجل
ريم : لآلآ وش تكلمه تبي تفضحني عنده! يقول هذي مجنونة ولا شي
يوسف : طيب وش تبيني أقول! يعني مفتخرة بأنك تتوهمين أشياء مهي موجودة؟ ترى هالشي يفشل ولا عاد تقولينه لريان بكرا يحسبك مجنونة صدق
ريم بنبرة حزن تنظرُ لعينيْه : هو أصلا حسبني مجنونة وخلص! ما صدقني أبد
يوسف : يا حبيبتي والله! ولا يهمك أهم شي لا تنسين أذكارك . . هي تخف شوي هالحالة مع الأذكار وقراية القرآن
ريم : طيب حبيبي كمل نومتك . . . . وضعته على أذنها لتأتِ كلمات يوسف الحادة . . فعلا فعلا أنا مصدوم فيك!
ريم : لا ولا تهتم كل أموري تمام
يوسف : إيه أكذبي أكذبي على ظهري . . حسبي الله كان الزواج خرّبك!
ريم : يوصل سلامك . . تآمر على شي
يوسف : الله يآخذك أنقلعي . . وأغلقه.
ريم : بحفظ الرحمن حبيبي . . وأغلقته لتنظر إليه . . سمعت بإذنك؟
ريّان : طيب ليه مانروح دكتور يمكن . .
ريم : لآلآ وش دكتور! . . خلاص إذا أنت متضايق ماعاد بتكلم بشي الا لما أتأكد سمعته منك أو لا أصلا هالحالة ناسيتها من كثر ماجلست فترة طويلة ماجتني الا يوم تزوجتك . . ياليت تراعي هالشي شوي ريّان
،
يقذف بالهاتف على الجدار لتبتعد عدة خطوات للخلف من أعصابه التي بدأت تفلتُ منه، يُكمل يومه الثاني دُون نوم! تشعرُ بأنه ليس بوعيْه وهو لا ينام ولا يُريح جسدِه، بلعت ريقها لتُردف : آآ .. ناصر
ناصر بعصبية : عبدالعزيز جواله مغلق! . . أكيد صاير شي
غادة : طيب أهدى . . اجلس
ناصر : وين أجلس! هم قاعدين يكذبون من وراي! أنا أعرفهم
غادة عقدت حاجبيْها بضيق على حاله : مين اللي يكذب؟
ناصر بعينيْه المحمّرة من السهر وهالات السواد التي تنتشر حولها : بيقولون اني كذبت عليه . . مفروض أروح الحين الرياض وأكلمه
غادة : كيف تروح؟ أنت لو تطلع يمسكونك
ناصر بحدّة : مين يمسكني؟ . . أنا ماذبحت أحد مفهوم!
غادة برجفةِ شفتيْها : ناصر الله يخليك أجلس . . أعطيك بندول يريّح أعصابك
ناصر يجلس بهدُوء لينظر إليها : غادة
رفعت عينيها نحوه ليلفظ بإبتسامة موجعة : بس كنت بتأكد أنك هنا
تصادم فكيّها برجفةٍ أقشعر منها جسدِها، شعرت بأن هُناك دمعة ستفلتُ من عينيْها : نام وارتاح
ناصر ينظرُ إليها بنظراتٍ حانية : قبل مدة قالي عبدالعزيز أنه شافك بس قلت له أنت تتوهّم . . أنا بعد أتوّهم يمكن عشاني مانمت؟ . . هو كان يتوهم بعد لأنه ما نام . . إحنا أصلاً ما . .
غادة تُلاحظ تقاطع الكلمات في صوتِه المتعب وهي تقترب نحوه : أششش .. أنا هنااا . . جلست على ركبتيْها أمامه . . . نام شويّ .. بس شوي عشان نفسك وصحتك!
ناصر يضع يدِه على شعرها ليُردف بخفُوت : عبدالعزيز ماراح يصدقني! محد بيصدقني . . أنتِ بتصدقيني؟
غادة تجهلُ ماهية حديثه لتُردف : مصدقتك
ناصر : بكل شيء راح أسويه راح تثقين فيني؟
غادة تنزلُ دمعتها الرقيقة : راح أثق فيك
ناصر يشعرُ بأنه يتخدَّر وعينيْه تذبلُ أكثر : راح ترجعين معي! ماراح تسمعين لهم؟ صح؟
غادة والغصات تتجمعُ في حنجرتها : صح
ناصر : تحبيني؟
غادة تُخفض رأسها لتتبلل ملامحها بمطرٍ مالح يُثير البثور و الندبات الضيِّقة، رفعت عينيْها الناعمة وهي تنظرُ للوجَع بعينيْه، إبتسم بضيق : من زمان ما سألتك ؟ لأني كنت أحسك دايم تقولينها لي بتصرفاتك . . بس ودِّي أسمعها منك
غادة ببكاءٍ عميق وصوتُها يبُّح بهذه الكلمة : إيه
ناصر يستلقي وعيناه تنام تدريجيًا، بصوتٍ خافت: قوليها! أبي أسمعها
غادة بمرارة الحزن في صدرها : وأحبك
،
يخرجُ بخُطى هادِئة ليأخذ هاتف نايف، رفع حاجبه : مين أتصل؟
نايف : ما أعرف! .. عبدالعزيز إحنا لازم نطلع من هالمكان بأسرع وقت! . . .
عبدالعزيز تنهَّد : لازم يجي بوسعود عشان يروحون الرياض!
نايف : راح أتصل عليه اليوم وأكلمه بهالموضوع لكن أنت بعد مفروض ما تطلع مكان . .
عبدالعزيز : بجلس لا تشغل بالك . . . نظر للظرف الذي تحت – مسَّاحاتِ السيارة - . . وش هذا ؟ مين حطه هنا؟
نايف : آآ مدري والله . . يقترب ليلفظ عبدالعزيز . . أتركه أنا أشوفه . . . تقدم نحوه ليُقلِّبه بين كفيّه . . . فتحه لتتساقط الأوراق المختلطة بالصور على الأرض المبتلة، أنحنى ليرفعها و أصطدمت طبلةُ إذنه بصوتِ الرصاص . .
.
.
الساعة العاشرة صباحًا – الرياض.
[ يقترب منه أمام الموظفين بأكملهم، لتتجه الأعين صوبِه، أكثرُ شخصين مؤثرين في هذه المؤسسة الأمنية يقفان بمُقابل بعضهما ويبدُو الغضب على ملامحهم ، أقترب حتى لكمه على عينِه بشدَّة لترتفع الشفاهُ المراقبة بصدمة ليس بعدها صدمة، وقف متعب وقدميْه ترتجفان أمام المنظر وهو يهمسُ للذي بجانبه : .. ]
.
أنتهى