الجزء (70)
أنحنى ليرفعها و أصطدمت طبلةُ إذنه الرقيقة بصوتِ الرصاص، رفع عينه لينظر لنايف الذي وقف أمامه حتى يحميه من أيّ رصاصة تخطفُ روحه، وضع الصور المختلطة بالاوراق في جيب جاكيته دُون ان يُدقق بها أو يلتفت حتى بنظرةٍ، هي إشارات القدر التي تستطيل بالجدار الفاصل عن الحقيقة/ النهاية، لكننا دائِمًا يالله نفهمُ متأخرًا، ونصِل بقلوبٍ تلهث تتسامى وتتبخَّر كأن شيء لم يكُن، كأن هذا الوجع لا يهم أحد ولا يعني هذا العالم، لِمَ ارواحنا أصبحت بهذا الرخص؟ إني حزين ويجب على هذا العالم أن يتفهم كيف لرجلٍ أن يحزن ويصِل لمرحلة متقدمة من بحَّةٍ تُزعزع أمن قلبه، يجب أن يفهم هذا العالم أن حنجرتي مُصفّرة كالخريف لا تزرع الكلمات ولا ينمُو على ضفافها زهرة واحدة.
نايف : أنت خلك هنا أنا بشوف بالجهة الثانية
عبدالعزيز بتعقيدة حاجبيْه وضع كفيّه بجيبِه : لا طبعا رايح معك
نايف : عبدالعزيز! أرجوك
عبدالعزيز يسيرُ بإتجاه الأشجار المتكاثرة على جنباتِ المكان ليلتفت نحو نايف : خلك هنا عشان محد يقرّب من البيت
نايف يتقدّم إليه بضيق : عبدالعزيز كِذا بتحطني في مشاكل! . . خلك هنا وأنا أشوف الوضع
عبدالعزيز رفع حاجبه الأيسر : وش المشاكل؟ بوسعود لما حطِك هنا قالك عن أهله ولا قالك عن عبدالعزيز؟
نايف بإستغراب : أكيد عنكم كلكم
عبدالعزيز بنبرةٍ خافتة موجعة : منت مسؤول عني يا نايف! مسؤول عن اللي في البيت هذا اللي قاله لك بوسعود ولا أنا غلطان؟
نايف شتت نظراته ملتزمًا الصمت ليُكمل عبدالعزيز وهو يسير نحو الجهة الأمامية : هو أصلاً بقى شي عشان أخسره؟ . . . يسيرُ والغيم يلاحِقه ببداياتٍ دافئـة. رفع عينِه للسماء الداكنة بالبلل.
تموت في حنجرتي الكلمات، تتصاعد لتحجب عن صوتي وضوحه، لا أعرف تماما بمن يجب أن أسخَر حتى أفرغ هذا الغضب، لِمَن أوجه هذا القهر الذي يتجعَّدُ في قلبي، إثنان وثلاثون عامًا يا أمي لم يجيء الضياعُ مختالاً جريئًا هكذا، لمْ أضعف بهذه الصورة قط، لم يتمكّن مني البلل حتى الغرق، كانت حنجرتي ينمو على ضفافها من البلل مدائن يا أمي، ولكن الآن! لاشيء من هذا! أفقدُ صوتي تدريجيًا كما أفقدُ إحساسي بالأشياء من حولي، وهذا ما يُزعجني، أنني لا أشعر بالأيام، بالأحداث التي تصير أمامي، أنا أموت يا – يمـه – كنت أمنِّي النفس من دونكم بأنني قادر ولكن لم أستطع أن أواصل، حاولت ولكن الآن أقف بلا حولٍ ولا قوة، أنا العدد الزائد في هذه الحياة وأنا الذي يعيشُ الموت بتضاداتِه، بالأمس لم أتمكن من النوم ليس لأن الأرق يسيطر عليّ، على العكس تماما أنا من باعدتُ بمسافات كثيرة بيني وبين النعاس، أنا أحارب كل ما تقوم عليه هذه الحياة، حتى النوم تخيلي! تذكرتُ أوصافك عندما بلغت عقدي الثالث، كان أبي بجانبِك يقول في القرآن ذُكِر لفظ السنة للأيام الصعبة والحزينة وذُكر لفظ عام للأيام الطيبة الجميلة، قُلتِ بفمِك الناعم " لا سنوات في أعوامِ ولدي " وكُنت أتخيّل دائِمًا بأنه ليس هُناك سنة ستقطعُ أعوامي الخالدة في عُقدة قلبك، إلى أن جاءت هذه السنة، أتت السنة السيئة التي ظننتها لن تجيء أبدًا، هذه السنة لم أبتسم بها من فرط السعادة ولا للحظة، أبتسمت فيها كثيرًا ولكن لستُ سعيدًا، كنت سيئًا لم أفعل شيئًا حَسنًا، حتى المرأة التي ظننت أن من حقي أن تكون ليْ تزوجتها برُخص، لِمَ أنا بهذه الصورة؟ أوّد أن أشرح لنفسي يا " يمه " كيف لإبنك خلال سنة أن تختل به موازين هذه الدنيـا، أنا فقدتُ في الحياة حياتي، لأنني ببساطة لم أعرف كيف أتعامل مع الصدمات ولم أعرف كيف أتجاوز أعيُنكم النائمة بعُمق الموت، تصوَّري أن اليوم عرفـَة، و غدًا العيد، تصوَّري حجم فُقدِي الذي يجعلني أتلاشى بين هذه الأيام، لم أصوم لأولِ مرة منذُ أعوام طويلة، لم أجلس أمام التلفاز أراقب الحجيج، لم أستقبل رسائل التهنئة من أيّ أحد، لم يكُن الموت عاديًا يمرُ بسلام عليّ! هذا الموت لو تعلمين ماذا يفعل بيْ؟ أنه يُفقدني الشعور بالحياة، هذا الشعور الذي يتفاقمُ في داخلي لا يترك لي فرصَة بأن أُعيد إتزان الأشياء المتناثرة. كل ما أوّد قوله وكل ماأريده أن يصِل أنني والله العظيم أشتقت حتى الوجعُ مات فيّ.
ألتفت كثيرًا وهو يغرقُ بتفكيره، نظر بدقَة لِمَ حوله حتى عاد بخُطى مبعثرة للبيت، تقدّم إليه نايف : شفت شي؟
عبدالعزيز : لا . . مافيه شي!
دخل للغرفـَة الجانبية التي يفصلها عن المنزل ممرٌ ضيِّق، رمى نفسه على السرير الوثير لينظر للسقف بعينيْن ناعِسة تطلبُ النوم، أغمض عينيـه طويلاً وهو يسحبُ الهواء ببطء لداخل صدره الخاوي، الخاوي من كل شيء إلا الحزن، هُناك مسافة شاهقة كانت تنمو بيْ وتحمَّر كضحكة أمي الخجلى، لكن هذه المسافة تلاشت، ذابت كالسكر في الشاي، إني أنسى حلاوة الأشياء كما أنني أنسى تدريجيًا الحياة، لله يالنسيان! لله أطلبك.
فتح عينيْه ليراها بدلاً من السقف الجامد، لم يتفوه بكلمة تقطع هذا السكون، تأملاها بملامحها القاسية مرّات والناعمة مراتٍ كثيرة، لتقاطعاتِ وجهها الخافتة، للشمس التي لم أرى إنعكاسها ببشرة أحدٍ سواها، للمعة عينيْها الداكِنة و لشعرها الذي لو لم يكُن ينتمي إليْها لَمَا أحببته، لكل الأشياء التي تطوف حولها كلؤلؤٍ أبيض، ولكل الأشياء التي أحبّها من أجلِ عينيْها.
رمشت عيناه لينظر للسقف مرةً أخرى دون أثرٍ لرتيل، ألتفت بإتجاه الباب " صرت أتوّهمك وأنتِ واقع." تمتم بخفُوت وهو يمسح على وجهه بكفيّه : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . .
،
قبل ساعاتٍ قليلة، بجديّة : جلست لين طلعت الشمس وأنا أفكر واستخير الله . . وش ممكن يسوي الرسول صلى الله عليه وسلم بحالتي؟
الجوهرة بربكةِ شفتيْها وقلبها يضطرب : وش ممكن يسوي؟
سلطان : أنتِ وش تتوقعين؟
الجوهرة تضع أصابعها على كفِّه الخشن بإتجاه بطنها لتُبعدها بهدوء دُون أن يعارض، بقيْت للحظات بمثلِ وضعيْتها حتى أستلقت على ظهرها لتنظر للسقف أمام نظراته المثبتة بإتجاهه.
بنبرةٍ متزنة : ممكن يترك لي الخيار . .
سلطان : وش خيارك؟
الجوهرة أرتجفتا شفتيْها لتقع عيناها بعينيْه، حاولت أن تُشتت نظراتها ولكن!
هُناك شيء يشدُّني نحوك، شيء يسحبني إلى النظر بعينيْك، أحاول أن لا ألتفت ولكن تفلتُ مني زمام الأمور، أحاول أن أن أجمِّد كل الأشياء بيننا ولكن لا شيء يستجيب لرغبتي، كل الأشياء تتغلغل فيني وتتحرك بلا توقف، أحاول أن أستقِّل بحياتي عنك ولكن لا قُدرة لي على ذلك، إنك قضائِي والقدر الذي كُتب على الجبين، كيف أنساك؟ كيف أتجاهل وجودك؟ كيف لا أتسامى بعينيْك والشمس ترقد بها؟ كيف لا أتبخَر وأنت تنظرُ إلي بهذه الطريقة يا سلطان؟ هل تنظر إلى نفسك بذاتِ النظرة؟ هل تشعر كيف نظراتُك الحادّة والناعمة بذات الوقت تُشعل قلبي البكر الذي لم يحب قبلك ولن يُحب بعد، يا مشيئتي بهذه الحياة بعد الله، عيناك قاتلة.
إبتسم من نظراتها، بانت أسنانه المصطفّة في إبتسامة ودّت لو تحفظها بصورة، الإبتسامة التي تصنَّف من النوادر السلطانيَة، كل الأشياء يا سلطان أصبحت تنتمي إليْك وتتوزعُ بك.
شتت نظراتها بحُمرة ملامحها ليُردف والإبتسامة لا تتلاشى : عيونك كانت تحكي! . .
الجُوهرة بتوتر يعتلي صدرها بشهيقٍ ويهبطُ ببطء : ما كملت ليْ! وش تسوي؟
سلطان بنظراتٍ تغرق و تغرق و تغرق ولا تنجُو : فيني فضول أعرف وش كنتِ تفكرين فيه
الجُوهرة دُون أن تنظر إليه : ما كنت أفكر بشي محدد . .
سلطان تنهَّد لتتبدد بجُزءٍ من الثانية إبتسامة سرقت قلبها : ما وصلت لنتيجة واضحة!
الجوهرة تستعدل بجلستها لتُقابله بمسافةٍ تتضاءل وكأن الهواء يتخدَّر من المضي بينهما : وصلت! . . صرت أفهمك وأفهم كلامك اللي تخفي وراه أشياء كثيرة!
سلطان يرفعُ ظهره عن السرير ليجلس هو الآخر : وش فهمتي من كلامي؟
الجوهرة : وش لازم مفروض أسمع الحين؟
سلطان : لا تجاوبين على سؤالي بسؤال
الجوهرة : لا تسألني وأنت تعرف الجواب
سلطان : بقولك شي الجوهرة . . لو أنا شاك واحد بالمية بعفتِك ما تركتك كل هالمدة هنا! كان بسهولة راح أرمي عليك الطلاق بدون لا يهزّ رمشي ندم!
الجوهرة بلعت ريقها، تخشى كلماته الواضحة الصريحة، شتت نظراتها ليرتجف قلبها ببعثرةٍ.
سلطان : الرسول صلى الله عليه وسلم في فتح مكة قال لقريش أذهبوا انتم الطلقاء . . ما حاسبهم ولا حاول يعاقبهم . .
رفعت عينيْها المتلألأة بالدمع إليه وهي تفهم ماذا يُريد أن يصِل، ليُكمل : أحيانًا أفكر من هالزاويَة، من زاوية تسامح الرسول عليه الصلاة والسلام . . . لكن في داخلي ماني مقتنع! مو ماني مقتنع بهالمبدأ لكن ماني مقتنع بأني أستعمله معك
الجوهرة تسقطُ دمعة حانيَـة تربتُ على خدها : تستعبدني يا سلطان!
سلطان بضيق يُبعد أنظاره عنها دُون أن ينطق كلمة تنحر الإتهام الموجّه إليْه، لا يعنيه أمرُ قلبي ولن يعنيه أبدًا ما دامت الكلمات التي أرتجي منها إجابة لا تحرِّك به شيئًا والإتهامات المصوَّبة نحوه لا يُبطلها صوتها.
الجُوهرة بدمعٍ مالح : تآخذك العزة بظلمي، أنت ببساطة تلغيني وتمحي كياني! أنا أستحي من نفسي لمَّا أتخيَّل كيف ممكن أقبل إعتذارك! لأنك من الأساس ماراح تعتذر ولا حتى تجبر خاطر قلبي وتعترف! الماضي اللي تشوفه أسوأ شيء ممكن يحصل في حياتي! يهووون كثير لما أشوف نفسي منذلّة بهالصورة! . . على الأقل كنت أحس أنه لي حق القبول والرفض لأيّ إعتذار ممكن يجيني! لكن معك أنا ما مقدر أختار! مقدر أرفض ولا أقدر أقبل . . أنا معك على الهامش.
تتقابل عينيْه بعينيْها المُشتعلتيْن بالبكاء، بنبرة موجعة تُكمل : أسألك بالله ما يوجعك قلبِك؟
سلطان بعُقدة حاجبيْه : أنتِ وش تشوفين؟
الجُوهرة : تبيني أجاوب بس مُجرد جواب يشبع غرورك وبعدها أنت اللي تقرر! . . تبي تهيني وبس! سواءً بقصد أو بدون قصد.
سلطان بخفُوت يقف مبتعدًا بخُطاه نحو الخلف : لعلمك! . . دايم تحبطين أيّ خطوة نتقدم فيها بعلاقتنا سواءً بقصد أو بدون قصد.
الجوهرة بحزن عميق يتحشرج به صوتها : لأنك ما تراعيني! ما تحاول تنتبه لكلامك معي! كافي والله كافي! وش بقى يا سلطان ما قلته؟
سلطان يُدخل كفِّه اليمنى بجيبه ليُردف وهو ينظرُ لسماء الرياض التي تشرق تدريجيًا : أبي أعرف رايك!
الجوهرة : رايي! كأن مالي علاقة بالموضوع! لكن أنت لك الحق بالقرار بس أنا لا! مجرد أني أقول رايي وأنت بعدها ممكن تآخذ بهالراي وممكن لا . . وتقول ليه ما نتقدم خطوة!!
سلطان بحدّة : لا تنتظرين مني أني أعتذر! ولا تنتظرين مني أقول إني غلطت! . . يُشير إليها بالسبابة . . ماني في مجتمع ملائكي ولا أنا مخلوق من نور! إذا بتوقفين على كل غلط وتنتظرين مني أعتذر فأنتِ تضيعين وقتك! ماعندي شي اعتذر عشانه
الجوهرة وتشعرُ بالدماء تجري على لسانها : يعني ما غلطت؟ ما ضربتني؟ ما احرقت إيدي؟ ما أتهمتني؟ ما قلت لي ولا شي يستحق أنك تعتذر؟؟؟؟
سلطان : أغلاطي ما جت كِذا بدون سبب! لكل فعل ردة فعل . . إذا كانت ردَّات فعلي أغلاط بالنسبة لك فأفعالك سبب هالأغلاط!
الجُوهرة بضيق : صحِّح أغلاطك معي! . .
سلطان : أبشري يا بنت عبدالمحسن!
الجوهرة عقدت حاجبيْها وهي تشدُّ شفتِها السفليَة حتى لا تسقط ببكاءها : من الحين أقولك لا تلومني لو خبيت عليك شي! ولا ما صارحتك بشي! . . إذا أنت ماتعرف كيف تقرر في حياتك! هذي مشكلتك مو مشكلتي!!!
سلطان : متى ماتبين قلتي حياتنا ومتى ما ودِّك تفصلين حياتي عنك قلتِي حياتك ومشكلتك!
الجوهرة بملوحة محجرها الذي لا ينضبّ : أنت ما عطيتني سبب واحد يخليني أقول حياتنا! ما شاركتني في أيّ قرار! ما جيت مرّة وقلت أنا متضايق أنا محتاجك! ما حسستني بأيّ شيء يقول أني مهمة في حياتك! . . على أيّ أساس أقول حياتنا وأنت ملغي دوري؟
نظر إليْها بحُرقة القهر في عينيْه، أقترب حتى أبتعدت بخطواتها وأصطدم ظهرها بالدولاب، ألتصق بها بلسانٍ يزفرُ غضبًا : يالله قرري! أعطيتك الصلاحيات الكاملة بأنك تقررين! . . قولي لي وش قرارك؟ وراح يتنفذ . .
أرتجفت شفتيْها الناعمة بإنقباض قلبها الذي ينكمش بلا تردد، تلعثمت خُطى الكلمات على لسانها لتتكوَّر حول الصمت، حاصرها بأقدامه وبطنه يُلامس بطنها، بنبرةٍ حادة : وش قرارك؟
الجوهرة أخفضت رأسها لتنساب ببكاءها، بغضبٍ رفع صوته : شايفة أنك إنسانة ما تعرف تتخذ قرار واحد! وتلوميني على أيش؟ . . . أنا لما ما أشاركِك في قرار أكون عارف بقرارة نفسي أنك مستحيل تختارين!
الجوهرة بصوتٍ يختلط بالدمع رفعت رأسها، قريب جدًا منها، من ملامحها الباكية. : أنت كِذا! تشدِّني بنظراتِك! تخليني ساذجة أصدق كل كلمة وكل شيء تنطقه عيونك قبل لسانِك، تخليني أظن أنه الأمل قريب لكن بمجرد ما تدير وجهك عنِّي أذبل! . . . أنا أكره نفسي اللي مقدرَت تكرهك.
سلطان بحدّة : مين يقسى على الثاني؟
الجوهرة بنظراتٍ ضائعة : صرت أشبهك! عشان لما أقولك أنك ألغيت الجوهرة القديمة فأنت فعلا ألغيتها ومحيتها
سلطان بنبرةٍ خافتة تصِل إلى شفتيْها قبل أذنها بهواءٍ يتجادلُ بينهما : ما تقدرين تقسين!
الجوهرة بقسوة بترَت النصف المضيء من قلب سلطان : ماني مُثيرة للشفقة عشان أتعلق بحياة احد
أشتعل صدره من جُملة قصيرة، قلبه الذي لا ينقبض من الأفعال ألتزم قهره بسبب جُملة ضيِّقة لا يتلاشى صداها، باقٍ في سمعه وقلبه الذي توتَّـرت حباله.
بحدّة : أحد؟
الجوهرة بوجَع :تصبح على خير . . . وخرجت من أسفل ذراعه التي تحاصرها، نزلت للأسفل بخطواتٍ مرتجفة، وضعت يدها على أنفها الذي غرق بالدماء، سحبت منديلاً وهي تحاول إيقاف النزيف، لا شيء يمرُّ بسلام، لا سلام بيننا يا سلطان ولا حتى هُدنـة.
،
بتجمدِ أطرافها على الأرضيَة التي تُغطيها قطعة قماشٍ رقيقة، وضعت يدها على جبينِه المحترق بحرارته، لم تستطع الوقوف من تشبثِه بها، أستجابت لنومه على حجرها دُون أن تتحرك وتُزعجه، عينيْها ترتفع للنافذة، للثلج الذي يملأ لندن، تُراقب سقوطِه وأصطدامه بالزجاج، تُخفض نظرها لتتنهَّد ويُشاركها الهواء البارد الأبيض من بين شفتيْها الحزن.
ببحَّـة تستعيدُ ذاكرتها الطريَّة صوتُه : المحبّة أرض والفرقـَآ أرآضي والزمن كله ترى لآ غبت مـَآضي . . والله إني ما أشوف الا عيونكـ إن رحلت اليوم أو طول مرآضي . .
هرولت دمعةٌ سريعة من عينيْها لتسقط على جبينه، مسحتها بأصابعها الناعمة لتتجمَّد كل الأشياء التي أمامها، غابت في ذاكرتها للحظةٍ تضخُّ بها أصواتٍ متداخلة لا تدلُّ صاحبها.
في زمانٍ ومكان لا تعرفُه، أمام عينيْه الشاهقة و الضحكات تتورَّدُ بين شفتيْها. ألتفتت نحوه : قَآلوآ العذآل والعذآل مرضـى وش بلآ حآلك من الأشوآق قـَآضي . . قلت يهجرني حبيبي لين يرضى علموآ الظآلم ترى المظلوم رآضي . . .
رمشت عينيْها لتنظر إليْه، شعرت بالصداع يُهاجمها ويُعيق كل فكرة تحاول التعمق بها، كل نبرة تحاول أن تتكىء عليها وتكتشفُ صاحبُها، عقدت حاجبيْها لتنساب ببكاءٍ عميق دُون أن تتأوه بأنينها، تُراقب نومه المطمئن وتغرقُ بأفكارٍ لا تنتهي، كيف يحيَا المرء دُون ماضي؟ أوَّد أن أسمع بلا توقف عن لقاءاتنا الأولى، عن المحادثات الطويلة التي تنتهي على وسائدنا، عن الصور التي جمدَّت لحظاتُنا وعجزت عن تجميد النبضَة التي ترتجفُ في كل مرَّة نلتقي بها، أوَّد أن تحكي لي عن الحياة التي مضت من عُمرِي معك، أوَّد أن أعرف كيف كُنت أحبك؟ وكيف كُنَّا نلتقي بأغنيَة! كيف كُنَّا نخطفُ حنجرة شاعر و نسقطُ في البيت الأول؟ علِّمني كيف كانت القصائد تتكاثف بجانب نوافذنا وكيف كانت عيناكِ تطلّ على حلمٍ لا ينتهي! أنا ذابلة يا ناصر! لا أفهم تصرفات قلبي، ولا أعرف إلى أين سيذهب بيْ، أشعرُ بك والله، أشعرُ بالنبضة المرتجفة في جيب قلبي، أشعرُ بالحيويَة التي تتسلل إلى جسدِي أمامك، أشعرُ بالتصلَّب في اللحظة التي تُدير وجهك عنِّي، أنا أفهمُ كل هذا ولكن شيءٌ واحد لا أستطيع تحديده، شيء واحد ينتهي بـ " أحبك ".
،
يُشير إليْها بإتجاه إحدى الزوايـا : هنا القبلة . .
وقفت لترفع عينيْها للسقف، بمحاولة جادة أن تصرف كل الأفكار عنها، بمحاولةٍ جادة أن تستجلب الهدوء/ الخشوع إليْها، كبَّرت لتتبعها نظراته، أستلقى على السرير بإرهاق وعيناه مازالت تُبسط النظر إليْها، تطُوف حولها كـ ناسكٍ متعبِّد، يجمِّد اللحظات بين أهدابه التي لا تقطعُ صلاة عينيْه برمشَة ولا رجفة، ركعتيْن تنتهي وترمش عينيْه، جلست على الأرض للحظاتٍ طويلة دُون أن تقِف.
أشعرُ بغربة قلبك في هذه اللحظات، أن غدًا العيد ولا شيء حولك يدلُّ على ذلك، بعد شهور قليلة سأُكمل الثلاثون عامًا ولم يرمق لي العيد مرَّةٍ بنظرة ناعمة، ولم أسمع تهنئة ورديَـة تُسعدني سوى من أمي وأبي، ما عدا ذلك تهنئاتٍ تمرُّ كالعدَم، من نساء لا أعرف عنهن إلا أسماءهن الأولى، من نساءٍ كنت أكتب ما أقوله لهن في مسوَّدة خشية النسيان، من نساء لم يحركن بيْ شيء، ولم أرسمهن مرَّة ولم أكتب لهن الشِعر ولا للحظة ولم أرسل لهن هديـةٍ واحدة. كُنت أشبع الفراغات حولي بهن لأني آمنتُ بأن لا حُب ولا خرافاتِ السعادة عبر الهاتف، نحنُ الشباب نطيش لأننا نعلم بأن هُناك مجتمع خلفنا سيُبرر لنا هذا التمرُّد، لا أحد يتزوَّج من فتاة رآها بسوق تجاري ولا أحدٍ يتزوَّج من فتاةٍ تعرّف عليها بموقعٍ في الإنترنت، كل هذا أنا أؤمن به لأنني أؤمن بطبيعة العلاقات في مجتمعي، لا نهايات طيبة تبدأ من رقمٍ ورسالة. ولكنني سيء! مضى حُبكِ يتفاقمُ بصدرِي، بدت نظرات الإعجاب تتحوَّل لتفكيرٍ مزمن لا ينتهي الا بِك، كنت أنام لأستيقظ بفكرةٍ واحدة وهي أنتِ، وكُنت أحاول النوم ولكنكِ في ليالٍ كثيرة كانت الوسائد أرق، أُدرك جيدًا بأن بدايتنا هشَّـة لأنها مُشبعة بغضب الله، بالتعدي على حدوده، أُدرك ذلك جيدًا ولكن الآن! الخيارات بأيدينا.
ألتفتت عليه عندما حسَّت بسكُونِه، ألتقت عينيْها بعينيْه، بحركةٍ بائسة بدأت تُقطِّع أظافرها بأسنانها، لتُردف وهي تقف : ابي اكلم أبويْ
فارس يُخرج هاتفه الذي أتى به من الشقة، مدَّه إليْه أمام نظراتها المندهشـة.
بلهفة أخذته من يدِه لتضغط رقمه الذي تحفظه عن ظهر غيب/حُب،بدأت بالسير بلا توقف في الغرفـة الضيِّقة، تشعرُ بأن الثواني التي تستطيلُ بلحظاتها تعبرها كساعاتٍ لا تنقضي بسهولة.
عبدالرحمن : ألو . .
توقفت أقدامها بنبرته التي اشتاقت إليْها، توقَّف هذا العالم بأكمله واصطَّف بعيني بصوتِه الطري في ذاكرتِي والخالدُ في يساري، مالِي أنا والناس؟ إن لم تلفني يدِك الحانيَـة، إن لم تأخذنِي عينيْك لعلييِّن، مالي أنا والحياة؟ إن لَمْ أعِش في كنف صوتك. يا وجَعُ الكلمات المتراميَة على أطرافي يا " يبـه " و يا شدَّةُ وجعها إذا ضاقت بها حنجرتي، يا إتصالي بهذه الحياة عبر وريدُك، إن باعدت المسافات وارتفعت لن يفصلني عن قلبك شيء، وكيف يفصلني؟ و جسدِي يبتهِّلُ بـ " اشتقت ".
تصعد الحُمرة إلى عينيْها المتلألأة، بإختناق : يبــه
عبدالرحمن فزّ من كرسيْه ليُردف بصوتٍ مُبلل باللهفة : يا عيون أبوك! . .
عبير جفَّت حنجرتها ببحَّـةٍ موجعة : اشتقت لك
عبدالرحمن بأنفاسٍ تتصاعد حدُ الإضطراب : وينك؟ . . تكلميني من أيّ جوال!
عبير : جوال فارس .. يبه . . أخفضت رأسها بصوتٍ يئن . . أشتقت لك كثييير
عبدالرحمن بنظراتٍ حائرة تثبتُ على المكتب الخشبي : اشتقت لك أكثثر! . . قولي لي كيفك الحين؟ تنامين كويِّس؟ وين تنامين؟ فيه أحد يضايقك؟
عبير : أنا بخير .. دام سمعت صوتك بخييير الحمدلله
عبدالرحمن : يبه عبير طمنيني ولا تخبين عليّ شي! . .
عبير بخفُوت : والله بخير . . محد يضايقني! أصلا طلعنا من عندهم أنا مع فارس في مكان بعيد . . بعّدنا من وسط باريس!
عبدالرحمن بدهشة : طلعتوا!!!!
عبير : إيه بس رفض يرجعني للفندق
عبدالرحمن : عبير . . كيف تعامل فارس معك؟ يضايقك بشي؟
عبير تنظرُ لعينيْه التي تراقبها لتُشتتها بعيدًا، بصوتٍ ضيِّق : مو مثل أبوه
عبدالرحمن تنهَّد براحةٍ لم يشعر بها منذُ فترة طويلة : الحمدلله . . الحمدلله . .
عبير : شلون رتيل وضي؟
عبدالرحمن : كلهم بخير . . يجلس على الكرسي ليُكمل بصوتٍ يختنق تدريجيًا . . . تثقين فيني يا يبه؟ وعد أنه كل هذا راح ينتهي
عبير ببكاء تنهار كل أوتارها : إن شاء الله
عبدالرحمن بهمس : أشششش! لا تبكين
عبير تزيدُ نبرتها حزنًا وبكاءً، لم تستطع أن تصمد أكثر أمام نبرته التي تشكَّلت بعنفٍ أمام قلبها المتلهَّف إليْه : الأيام تمّر كأنها سنين! تمّر وتقطعّني يا يبه! . . أبيك . .
عبدالرحمن بدأت أعصابه تضعف وصمُوده يتضاءل، هُناك ثقبٌ فيّ يتسع مع كل نبضةٍ تعبرُ لسانها، مع كل كلمةٍ مُبللة، هذه النبرة المترسبة بالملح تقتلني.
بضيق تُكمل : كل يوم أندم على الأيام اللي كنت ازعلك فيها! . . كل يوم أتذكر أشياء ألوم نفسي كيف سويتها! . . يبه مشتاقة لك كثييير! أخاف ما أشوفك! أخاف من هالفكرة وأتعب منها! . . . أموت لو صار فيكم شي!!!
عبدالرحمن بإتزان يحاول أن يُمسك زمامه بكفٍّ بدأ الإتزان يذوب بها : بسم الله عليك من الموت، جعلي ما أبكيك! . . عبير لا تفكرين بهالأشياء، حافظي على صلواتك طيِّب و . . . بُتِر صوته، أبعدت الهاتف لتنظر للشاشة التي غُلِّفت بالسواد، جلست لتضع جبينها على ركبتيْها، شعرَت بالدمع المحترق بمرارة حزنها يتدفقُ من محجرها الذي اشتعل بالبكاء.
بخُطى هادئة إتجه نحوها، جلس على الأرض بجانبها، يتأمل رجفتها من أجلِ صوت والدها، إنقبض قلبه بأنينها التي تحاول أن تحبسه في فمِها الناعم، صمَت! أُدرك جيدًا أن الكلمات ذابلة لن تقدر على الإنتصاب من أجلِ مواساتِك، لا شيء يُخفف الحزن بغيابِ والدك، لا شيء ولا حتى أنا!
رفعت وجهها الذائِبة به الدموع، نظرت إليْه بنظراتٍ تجهل ماهيتُها، كل الأشياء تفقدُ إتزانها وتضطرب بين يديّ، حتى عيني بدأت تتصرفُ من تلقاءِ نفسها، بدأت لا تخضعُ إليّ.
فارس : بالرياض؟
هزت رأسها بالإيجاب وهي تشدُّ على شفتيْها خشيَة الغرق أكثر، خشيَة الإنهيار.
فارس : طيب قومي! الأرض باردة . . وقف ليمِّد يدِه إليْها، بقت بالهواء لحظاتٍ كثيرة أمام نظراتهما المتبادلة، رفعت كفَّها لتتلامس بكفِّه، هدأ كل شيء عدَا اصوات الرياح التي أشتدَّت من خلف زجاج النافذة، ولا شيء يعبرُ مسامعهم، لا الرياح ولا رفرفة الأشجار، للحظةِ الاولى أشعرُ بأن للمساتِ نبضاتٍ ترتجف وتعبرُ طبلة الإذن بربكة، للحظةِ الأولى أشعرُ بأن عروق كفِّي تتحرَّك بمساراتٍ متخبطة، هُناك شيء غريب! هُناك قلب يتوزَّع بكامل جسدِي ويرتجفُ بكل جزءٍ به.
شدَّها بلطف لتقف، سحبت كفَّها لتحضنها بكفِّها الأخرى، شتت نظراتها بعيدًا عنه لتتجه نحو الأريكَة.
فارس من خلفها : راح أنام ساعتين بالكثير! . . إذا أحتجتِي شي صحيني . . . نزع جاكيته ليبقى على بلوزتـِه القطنيَة، أستلقى على السرير ليغمض عينيْه بمحاولة جلب النوم إليْه رُغم نعاسه.
نظرت لعينيْه النائمتيْن بسكُون، بقيْت لدقائِقٍ كثيرة تتأملُ ملامحه، أبعدت عينيْها ولكن سُرعان ما تعود لمصَّبِ فتنتها، يُذكرني بعبدالعزيز في ملابسه، في ذوقِه الداكن، في حُبه الواضح " للـسكارفات "، تستغرقُ الكثير من الوقت في نظراتها إليْه.
فتح عينه المتجهة نحوها بلا سابق إنذار، شتت نظراتها وهي تضع يدها على رقبتها التي اشتعلت بالربكَة.
فارس : ماراح تخليني أنام؟
عبير بتوتر بدأت تنظرُ لكل الأشياء عداه، لم تشعرُ بأنه يراقبها حتى وهو مُغمض العينيْن، من بين دموعها الناعمة ابتسمت بمحاولةٍ جادة أن تُبعد هذه الإبتسامة التي لا مُبرر لها، عضَّت شفتِها السفليَة حتى لا تبتسم.
فارس بنبرةٍ تسرقها في كل مرَّة منذُ المكالمة الأولى : على فكرة عيُونِك أرق.
،
طرقت عليْها كثيرًا بنبرة تتصاعدُ بخوفها : ضيّ!! أفتحي الباب . . لم يأتِ سوى سعالها المتكرر وتقيؤها الحاد، استغرقت وقتها حتى فتحت الباب وهي تضغط على بطنها بكفِّها.
رتيل عقدت حاجبيْها بشحُوبِ ملامحها التي اصفرَّت بالتعب، استندت عليْها لتسيرُ بخُطى متعبة نحو الأريكة، جلست بتأوه من بطنها الذي يهيجُ بالوجَع : أخاف صاير شي!
رتيل بإندفاع : لا إن شاء الله . . جلست على ركبتيْها أمامها . . يوجعك كثير؟
اختنقت محاجرها بالدَمع لتلفظ : مو مرة . . أقدر أتحمله
رتيل بضيق : أكلم عبدالعزيز؟ . . يعني ممكن فيه مستشفى قريب!
ضي : لا . . خلاص بنام وممكن يخف الألم
رتيل : طيب أنسدحي يمكن داخلك برد
ضي بإبتسامة : لو داخلني برد ما رجّعت
رتيل بإبتسامة شاحبة: تحمّلي دلاختي بهالأمور . . بروح أجيب لك فراش يدفيك . . . إتجهت نحو الغرفة المنزويـة لتجلبْ لها فراش يدثِّرها، غطت جسدها : إرتاحي . . . بخطواتٍ خافتة نظرت للنافذة، لا ترى شيء سوى ظهره على الكرسي المتمرجح بفعلِ الهواء، سحبت جاكيتها لترتديه، أخذت وشاحها الصُوفي لتلفّه حول رقبتها، إتجهت نحو الباب وانحنت لتأخذ معطفه التي نامت به، شدَّت على مقبض الباب دُون أن تصدر صوتًا، إلتفت عليها لتسير برجفة من البرد الذي يصيِّر أنفاسها لبياضٍ متبخر، جلست بجانبه لتمد إليْه معطفه، ارتداه فوق جاكيته ليلفظ : كيفك اليوم؟
رتيل دُون أن تنظر إليْه، أعينهما كليْهما متجهة نحو المسطحات الخضراء التي أمامهما : بخير
عبدالعزيز : و ضيْ؟
رتيل : تمام . . إلتفتت عليه . . ما نمت؟
عبدالعزيز : متقطِّع نومي
رتيل تنهدَّت لتعود إلى صمتها مرة أخرى ويُشاركها الصمت، نظراتهما جدل لا يهدأ.
سمع صوت طرق، إلتفتت رتيل للخلف بتوجس، عبدالعزيز وقف : هذا نايف . . . إتجه إليْه ليقترب منه : أبو سعود يبي يكلمك . .
عبدالعزيز يأخذ الهاتف ليُجيب : ألو
عبدالرحمن : هلا . . شلونك يبه؟
عبدالعزيز : تمام . . أنت شلونك؟
عبدالرحمن : بخير الحمدلله . . أموركم تمام؟
عبدالعزيز : إيه بس نايف يقول لازم نغيّر المكان لأنه شاك بأنهم عرفوه!
عبدالرحمن تنهَّد : بخلي نايف يدوِّر على مكان ثاني إن شاء الله
عبدالعزيز : وش قررتوا؟
عبدالرحمن : بأقرب وقت راح أجي عشان نرجع الرياض كلنا وهناك بفهمك كل شي
عبدالعزيز : متى؟
عبدالرحمن : بس أضبِّط كم شغلة هنا وأسلمها لسلطان يكملها عني وأجيكم
عبدالعزيز : طيب
عبدالرحمن : رتيل عندِك؟
عبدالعزيز : إيه . . لحظة . . . إتجه للخلف بخطواته الهادئة ليمدّ إليها الهاتف . . أبوك
بلهفة أخذته لتُجيب : هلا
عبدالرحمن : هلابِك
رتيل : شلونك يبه؟
عبدالرحمن : بخير الحمدلله و . . كلمتني عبير اليوم
رتيل وقفت بدهشة : جد!! وينها فيه؟ يعني بيتركونها؟
عبدالرحمن بإبتسامة لم يشعرُ بأنه تلذذ بها منذُ مدَّة : أمورها تمام إن شاء الله كلها كم يوم وينتهي كل هذا
رتيل : قالت لك شي؟ تعبانة؟
عبدالرحمن : لآ بس مشتاقة لنا كثيير
رتيل برجفةِ شفتيْها تلألأت عينيْها بالدمع : واحنا مشتاقين لها . . طيب يبه متى بتجي؟
عبدالرحمن : بس انتظر كم شغلة أنهيها وأجيكم . . أنتبهي لنفسك ولا تنسين صلواتِك وكل أمورنا إن شاء الله بتتسهَّل
رتيل : إن شاء الله
عبدالرحمن : عطيني ضي!
رتيل بتوتر : طيب . . دخلت إلى البيت الدافىء . . . شكلها نايمة
عبدالرحمن عقد حاجبيْه : نايمة الحين؟ . . فيها شي؟
رتيل : آآ .. لا . . يعني شوي تعبانة بس . . يعني عادي تمام
عبدالرحمن بضيق : تعبانة!! رتيل وش صاير؟ فيه شي مخبينه عنِّي؟
رتيل بربكة : لآ . . يعني وش بيكون؟ . . هذا هي صحَت
ضي التي كانت تحاول النوم ولم تستطع من الألم، رفعت عينيْها إليْها
رتيل : أبوي ..
ضي بحركة متهورة من لهفتها إليْه ضربت بطنها بطرفِ الطاولة التي أمامها لتخرج " آآه " موجعة من بين شفتيْها الشاحبتيْن.
عبدالرحمن بخوف : ألو!! ..
رتيل تضع الهاتف على الطاولة : لا تتحركين . .
ضي أخذت الهاتف بعدمِ رضوخ لطلبات رتيل : ألو
عبدالرحمن : وش فيك؟
ضي تتحامل على وجَعها: ولا شي بس صدمت بالطاولة . . المهم ماعلينا . . بشرني عنك؟
عبدالرحمن بعدمِ إقتناع : صاير شي؟
ضيْ : وش فيك عبدالرحمن؟ مافيه شي . .الحمدلله كل أمورنا تمام . . . أبي أسمع أخبارك؟ ليه ماجيت قبل أمس؟
عبدالرحمن : مقدرت! بس إن شاء الله هاليومين بجي
ضي : إن شاء الله
عبدالرحمن : يبه ضي فيك شي؟
ضي بضيق : صار فيني شي من قلت يبه
عبدالرحمن ضحك ليُردف : لا تدققين مرة! طلعت عفوية
ضي بإبتسامة : الله يديم هالضحكة! من زمان ما سمعتها
رتيل بضحكة تجلس على الطاولة ليصِل صوتها إلى والدها : من قده أبوي!
ضي بدأت الحُمرة ترتفع لوجهها لتُردف : كنت متأملة تجي قبل العيد!
عبدالرحمن تنهَّد : والله ماهو بإيدي . .
ضي : أهم شي سمعنا صوتك، لا تطوّل
عبدالرحمن : أبشري . . . تآمرين على شي؟
ضي : ما أبي إلا سلامتِك و ضحكتِك
عبدالرحمن : الله يسلمك من كل شر . . أنتبهي لنفسك طيب يبـ . . طيب ضي
ضيْ تنهدت : طيب يبه
عبدالرحمن بضحكة عميقة أردف : بحفظ الرحمن يا رُوحي
ضي : مع السلامة . . أغلقته لتمدِّه إليْها.
وقفت رتيل بخبث : راح التعب؟
ضي بضحكة مجنونة : هههههههههههههههههههههههه مبسوطة . . مبسووووطة ودي أطييير
رتيل : هههههههههههههههههههههه عساه دوم . . خرجت لتمدّ إليْه الهاتف.
إبتسم لإبتسامتها لتُردف رتيل بفرَح : أتصلت عبير على أبوي!
عبدالعزيز : كويس الحمدلله
رتيل : الحمدلله . .
عبدالعزيز : دقيقة بوديه لنايف وأجيك . . . ثواني قليلة حتى عاد وجلس بجانبها، إلتفت إليْها بكامل جسدِه : شوفي عيونك كيف تضحك؟ لو أدرِي كان قلت له يتصل عليكم كل دقيقة.
رتيل إلتفتت نحوه بمسافة قصيرة تفصلهما، نظرت لغياهيب عينيْه: محد يرِّد للحياة فرَحها إلا صوت أبويْ.
عبدالعزيز : الله يخليه ويطوِّل بعُمره
رتيل : آمين . . . كليت شي؟ وجهك تعبان!
عبدالعزيز : مو مشتهي
رتيل : عبدالعزيز ممكن أسألك سؤال؟
عبدالعزيز تنهَّد بعينيْن تقبلُ الإجابة.
رتيل : كيف عرفت عن هالجرح؟ . . أشارت إلى بين حاجبيْها.
عبدالعزيز بإبتسامة ضيِّقة : كنت أصلي الفجر بالمسجد وشفت سيارتكم مارَّة، قمت أخمِّن وش ممكن يخليكم تطلعون بهالوقت وما جاء الصبح الا وسألت الشغالة وقالت ليْ وعرفت.
رتيل : كنت أحسب في وقتها كنت تدري أني إسمعك عشان صدق أحقد عليك!
عبدالعزيز : ما عرفت إلا منك، بس أحب هالمكان
رتيل بإبتسامة : تحبه عشان . .
لم تُكمل من قبلته العميقة بين حاجبيْها ليهمس بضحكة مبحوحة : هنا موضع العشق . . أرتفع قليلاً ليُقبِّل جبينها . . وهُنا الإحترام . . إلتفت جانبًا نحو عينيْها ليقبِّلها . . وهِنا الودّ . . . مال قليلاً ليُقبِّل خدها . . وهنا الحنان . .
ضحك عند إذنها ليُردف : أعلمِّك فن القُبل؟ تراني خبرة من بعدِك
رتيل تدفعه بقوة ليضجُ كل ما حوله بصوتِ ضحكاته، والحُمرة ترتفع لأعلى رأسها، كل الأشياء في جسدها تغلي بالدماء.
إلتفت عليها بإبتسامة ونبرةٍ فصيحة : جفنه علم الغزل ومن العلم ما قتل، فحرقنا نفوسنا في جحيــم من القبل
رتيل تُقلد صوته : أنا ماأحفظ شعر غزلي كثير!
عبدالعزيز : هههههههههههههههههههههههه
رتيل تقف بغضب ليسحبها بيدِه : له الجنة أبوك . . كان بيروح يومي بالكآبة.
رتيل تحك جبينها بتوتر عميق لتُردف دون أن تنظر إليْه : لمين هالقصيدة؟
عبدالعزيز بخبث: عجبتك؟
رتيل : لا! بس كِذا أسأل فضول
عبدالعزيز : لبشارة الخوري . . اللي قال يـاعاقد الـحاجبين على الجبين اللجين . . إن كنت تقصد قتلي قـتلتني مرتيْن
رتيل : ما أعرفه
عبدالعزيز بإستغراب : اللي قال قـَتل الوردُ نفسهُ حسـداً منك وألقــى دِمَاهُ فــِيْ وجنتيـــكِ.
رتيل بإصرار :ما أعرفه
عبدالعزيز يبتعد بأنظاره للسماء : ما عندِك ثقافة أدبية!
رتيل : لأني ما أحب الشعر! أحب المواويل
عبدالعزيز بضحكة إلتفت عليها : طقطقي عليّ! مسموحة
رتيل بإبتسامة تنظرُ إلى السماء و بصوتٍ ناعم لم يعتاد أن يسمع فصاحته : أضنيتـنـي بالهـجـر مــا أظلـمـك . . . فارحم عسى الرحمن أن يرحمك
إلتفت عليها بدهشَة جعلتها تضحك ليُردف : هذي اللي ماتعرفه!
رتيل بضحكة محمَّرة بالخجل : أقولك شي! . . الأيام اللي كنَّا جالسين فيها في شقتك كنت أحب أشوف أغراضك وأكتشفها وأقرآها! وعلق في مخي إسم الشاعر لما رجعنا الرياض ما قريت الا قصيدة وحدة وصرت أرددها دايم لين حفظتها . . بس ما تذكرتها يوم قلت البيت الأوَّل لكن يوم قلت قتل الورد نفسه تذكرت اللي قريته بشقتك!
عبدالعزيز بإبتسامة يراقب حركات شفتيْها الرقيقة.
رتيل : مـولاي .. حكمتـك فـي مهجـتـي . . فارفـق بهـا يفديـك مــن حكـمـك! . . آآ . . ما كان
يُكمل عنها بنبرةٍ لا تقلُ صحة مخارج الحروف عنها : ما كان أحلى قبلات الهوى إن كنت لا تذكر . . فأسأل فمِك، تمرُ بي كأنني لم أكن قلبك أو صدرك أو معصمك.
رتيل بنظراتِ متلألأة نحو السماء : لو مرّ سيفٌ بيننا لم نكن نعلم . . هل جرى دمي أم دمُك ؟
عبدالعزيز بإبتسامة واسعة : الله الله!
رتيل : سـل الدجـى كـم راقنـي نجـمـه لمّـا حكـى .. مبسـمـه مبسـمـك
عبدالعزيز إلتفت عليها : يا بدر إذا واصلتني بالجفا . . ومتُ في شرخ الصبا مغرمك . . قُل للدجى مات شهيد الوفا فأنثر على أكفانه أنجمك.
رتيل غرقت بضحكة مبحوحة وهي تُدفىء كفيّها بين فخذيها : هذي القصيدة خلتني أحب الشعر على فكرة!
عبدالعزيز : شكرًا.
رتيل إلتفتت إليْه بإبتسامة : عشاني حبيت الشعر؟
عبدالعزيز : عشانِك جميلة.
ضاعت النظرات بينهما، هذه النظرات لا تصنَّف تحت الحُب الناعم، هذه النظرات عشق موضعها: علييِّن. حرَّكت الريحُ شعرها الملتوِي بإلتواءاتِ ناعمة تُشبه تلعثم قلبها في هذه اللحظات، تاهت بحيرة هدبيْه، رُغم الدنيـا، الحزن ومراسيل عينيْك الحادَّة، رُغم الناس والعالم الذي يُباعد بمسافاته عنَّا، رُغم الكلمات المودِّعة و الأشياء المخبئة في تلويحة، رُغم إيماءات الغياب نحنُ نلتقي بقصيدة شفافَـة، بمُباركة طيِّبة من حناجرنا المبحوحة.
،
في ساحة العمل المكتظَّة بحُرقة الشمس، يتدرَّب على ثلاث ساعات متواصلة. أتى إليه ليُناديه بصوتٍ عالي : سلطاااان
سلطان الذي كان يتشبثُ بالحبل المتين الذي يربطُ المبنى بمبنى آخر، إلتفت عليه ليُشير إليه بالإنتظار للحظات، رمى نفسِه وخاصرته تلتفُ بحبلٍ آخر، نزل ليقترب منه.
عبدالرحمن : بيته من داخل فيه شخصين عند الباب، وعند الباب 4 بس . . بتروح الحين؟
سلطان يفتح الحزام الغليظ ليرتفع الحبل المصنوع من المطاط إلى الأعلى : إيه . . بس خلني أغسِّل وأجيك
عبدالرحمن : طيب موضوع زياد وصلهم؟
سلطان : ماراح أطلع من بيته إلا وأنا عارف مين الكلاب اللي عندنا!
عبدالرحمن : المهم نفسك لا تجهدها ولا تدخل بخناقات معهم! توّك طالع من العملية
سلطان : بتجلس سنة كاملة وأنت تقول توّك طالع من العملية!
عبدالرحمن : الشرهة على اللي خايف عليك!
سلطان بإبتسامة : أبشر من عيوني . . طيب أسمعني فكرت وأنا أتدرب بهالشي وحسيته بيساعدنا كثير . . إذا دخلت أبيك تجي وتضربني! خلنا نوصِّل لهم أننا على إختلاف وبعدها بروح بيت رائد وبيتأكد رائد أننا على خلاف وبيوصل للحمار الثاني سليمان . . . وبعدها نطبخهم إثنينتهم على نار هادية
عبدالرحمن إتسعت إبتسامته : طيب أستعجل وأنا بنتظرك فوق
سلطان يشعرُ بالنوافذ التي تكشفُ هذه الساحة كثيرًا : طيب حاول تبيِّن إنك معصب
عبدالرحمن بجمُودِ ملامحه : كلمني وبتركك الحين وحاول تحذف أيّ شي عشان تضبط السالفة
سلطان أعطى النوافذ ظهره ليتسع بضحكته : واثق أنهم أغبياء لو يشوفنا نضحك بعد يشكون
عبدالرحمن بعُقدة حاجبيْه : طيب يالله لا تطوِّل . . بنتظرك فوق وبنتظر 5 دقايق وبطلع من مكتبي
سلطان : تمام . . أخذ نفس عميق ليعقد حاجبيْه . . .
عبدالرحمن تركه بخُطى سريعة إلى الداخل، سلطان بحركة غاضبة رمى المنشفة على الأرض وإتجه نحو دورات المياه.
أستمر دقائِق حتى أغتسل وأرتدى لبسه العسكري، مسح وجهه ليتنهَّد ويعُود بخطواته نحو المبنى، وضع السلاح على خاصرتِه والقبعة بجانبها، صعد للطابق الثاني لينظر لعبدالرحمن المتجه إليه بغضبٍ يتضح بملامحه، شعر لوهلة بأنه صادق في غضبه، كل الأنظار بدأت تتبع خُطاه الحادة.
لكمه بشدَّة جعلت أنفه ينزف دماءً، بتعابيرٍ من سلطان صادقة بسبب الألم الذي بدأ يشعرُ به بأنفه، تخدَّر تمامًا كما تخدَّرت عيناه، أشار إليه بالسبابة وهو يقترب منه بخفُوت، همس وأشعَر كل من حوله بأنه يهدد، بخبث يعرفه سلطان جيدًا : سلامات
سلطان بمثل همسه وهو ينحني بظهره بمحاولة أن يوقف النزيف الذي أندفع في أنفه : الله يسلمك ما سويت شي بس طيّرت لي خشمي! . . إبتعد عبدالرحمن عائِدًا لمكتبه تارِكًا سلطان واقف أمام أنظار الجميع المندهشة/المصدومة.
وقف بربكة أقدامه : وش صاير؟
أحمد بإستغرابٍ شديد : شكلهم مختلفين في شي!
سلطان بخطواتٍ غاضبة عاد للدرَج لينزل للأسفل، ركب سيارته ومن خلفه تتبعه السيارة الأخرى بإتجاه قصر رائد الجوهي.
سحب المنديل وهو يقود بكفٍّ واحدة، يمسح الدماء التي بدأت تسقط على قميصه، تنهَّـد وهو يراقب السيارة من خلفه، أستغرق دقائق كثيرة حتى وصل للمنطقة. ركن السيارة بعيدًا، إلتفت إليهما : واحد منكم يجلس هنا وواحد معايْ
: إن شاء الله
سلطان و مُعاذ إتجها نحو الباب الخلفي، نظر لكاميرات المراقبة ليثبت ظهره بالجدار : انتظر . . تسلق الجدار ليضع أمامها حجرة صغيرة تحجب الرؤيـا.
قفز ليُردف : خلنا ندخل من هنا . . دخلا ليثبِّت السماعة في إذنه المتصلة بعبدالرحمن.
عبدالرحمن الذي يراقب الوضع بنفسه بعد أن فقد الثقة بموظفيه : فيه شخصين عند الباب الأمامي
سلطان : معاذ خلك هنا . . دخل من باب المطبخ ليرى الخادمة، أشار إليْها بالصمت وهو يضع يدِه على السلاح. الخادمة برهبة إبتعدت ليصعد للأعلى بخطواتٍ سريعة، عبدالرحمن : مكتبه على يمينك
سلطان تراجع عندما سمع خُطى أحدهم، مدّ قدمِه لتتلعثم خُطى الآتي ويسقط على وجهه، جلس عليه وهو يضع كفِّه على فمِه حتى لا يصدر صوتًا، ضغط بقوَّة خلف رقبته حتى أُغمى عليه، تركه وإتجه نحو المكتب، حاول فتحه ولكنه مقفل، بقوَّة دفع نفسه بإتجاه الباب حتى أنفتح، دخل وأغلقه عليه.
أخذ نفسٌ عميق ليتجه نحو مكتبه، فتح الدروج لينظر إلى الأوراق، يقرأها بعجالة ليرميها بفوضوية على المكتب، إتجه نحو الملفات المصطفة بترتيب في رفوف مكتبته، إبتدأ من الملفات التي على الجانب الأيمن، قرأ بعض المعاملات والعقود التي تربطه مع شخصياتٍ معروفة، تركها وهو يقف على ركبتيْه لينظر للرفِّ الأول، بدأت الأوراق تتوزَّع على الأرض، ليُردف : كلها أشياء نعرفها!
عبدالرحمن : شوف أبحث! يمكن يحفظها بمكان ثاني
سلطان يقف ليأخذ نظرةٍ شمولية لمكتبه الواسع : مافيه شي يُذكر! . . إتجه نحو الجهة الأخرى من الغرفة لينظر إلى الباب الذي يتوسطها، حاول فتحه ولم يستطع، دفع نفسه بقوة بإتجاهه ولم ينكسر، حمل الكُرسي ليدفعه بقوة نحو الباب حتى إنكسر وفُتح.
نظر للمكان الشبه خاوي سوى جهةٍ واحدة مكتظة بالأوراق والملفات الورقيـة.
سلطان بنظرةٍ مندهشة : هنا أسماء الموظفين . . . وضع الأورق بجيبه دُون أن يقرأها، أستغرق وقتٌ كبير وهو يفتش بكل جهة تسقط عينه عليها، تراجع ليُغلق الباب بهدُوء ويضع الكرسي جانبًا، اخذ منديلا ليمسح كل المواضع التي لمسها، مسح بصماته ورتَّب المكان، نظر نظرةً أخيرة ليطل من النافذة على الرجال الذين يقفُون عند الباب.
فتح الباب بهدُوء ليُغلقه بذات الهدوء، نظر للرجال الساقط أمامه وبكُرهٍ أبعدهُ بقدمه لينزل للأسفل، شعر بفوهة السلاح على رأسه من الخلف، تجمدت قدماه ليأتِ صوت عبدالرحمن : سلطان؟
: سلطان بن بدر بجلالة قدره مشرِّف عندنا!
سلطان : أبيك تبشِّر اللي فوقك
بضحكة مُستفزة : لازم نبشّره! بيجيك من باريس طاير!! . . دفعه حتى يسيرُ للأسفل، سحب سلاحه من خاصرته ليرميه بعيدًا : وش خذيت؟
سلطان : قرِّب أقولك
: قديمة الحركة
سلطان بخداع قدَّم قدمِه اليمنى بخطوة وترك قدمه اليسرى ليشِّد بها ساق من خلفه حتى سقط من أعلى الدرج، هرول إليْه سريعًا ليسحب السلاح منه، أخذ سلاحه المرمي جانبًا ووضعه في حزامه، رفعه من شَعرِه بحدة الغضب : بلغه يا روح ماما . . . وخرج بخطواتٍ سريعة بجانب معاذ.
،
تنقضي ساعات الظهيرة، تجيء ساعات الليل الطويلة، تنقضي هي الأخرى بتفاصيلٍ مرتبكة، يحلُّ ليلٌ آخر و عيدٌ يفتقدُ نفسه تحت أسقف مالِحة و يتغنجُ فرحًا بين جُدرانِ ناعمة في بيوتٍ أخرى.الساعة التاسعة مساءً.
وقفت أمام المرآة التي تعكسُ البياض الذي يلفَّها كقطعةٍ سماويـة، كنجمةٍ سقطت من كنف القمر، وشعرُها مرفُوع بأناقة مخمليَة، و بشرتها التي تعُود لبياضها المعهُود يغرزها السواد بعينيْها التي تطلُّ على أحلامٍ زهريـة، أخذت نفس عميق ولسانها بحركة مستمرة على شفتيْها حتى تلاشى الروج.
نجلاء : هيوف مو من جدِك! . . بطلي تلحسين الروج! تقل بزر
هيفاء تأخذ المنديل لتمسح شفتيْها : ما أحس على نفسي! . . تعالي حطيه ليْ أحس قلبي وقَّف
نجلاء تضع لها الرُوج وهي تمسح الأطراف الخارِجة : كِذا شكلك تمام . . . ماشاء الله تبارك الرحمن ربي يهنيكم ويسعدكم ويرزقكم الذرية الصالحة
هيفاء بإبتسامة : آمين
نجلاء : أستحي شوي مو على طول آمين
هيفاء تنهدت : نستحي مايعجبكم! ما نستحي بعد ما يعجبكم! . .
نجلاء بضحكة : وجهِّك لا يحمّر بس!
دخلت ريم بتأفأف : إنكسر كعبي! هذي حوبة ريَّان والله ...
نجلاء إلتفتت عليها : أشوف!
ريم جلست على طرفِ الأريكة وهي تنزع حذاءها : يالله . .
نجلاء : جيبيه أنا أعرف كيف ألصقه بس لا رقصتي أنزعيه عشان ما تطيحين على وجهك
ريم : وش بتسوين فيه؟
نجلاء : جايبة معي صمغ!
ريم بإبتسامة : منتِ هيّنة كل شي عندِك اليوم!
نجلاء : جايبته عشان أختك الهبلة! ماتعرف تمشي بالكعب وخفت ينكسر
ريم بضحكة : هيفاء أمشي خلني أشوف
هيفاء : جايين عشان تمصخروني؟
ريم : لا والله بس بشوف! . .
هيفاء تسيرُ نصف خطوة لتغرق ريم بضحكاتها : لا تدخلين القاعة!
هيفاء بضيق : الفستان أبو كلب مو الكعب!
نجلاء : يا حمارة يا كلبة شكلك حلو وفستانك حلو! مفهوم؟
هيفاء ببلاهة : مفهوم
ريم : جايبة الكعب الثاني صح؟
هيفاء : إيه مستحيل أمشي فيه هذا مسافة طويلة، لا طلعت من القاعة بلبس الثاني . . . بشغف أردفت . . كيف الناس تحت؟ صديقاتي جوّ؟
ريم : القاعة ممتلية كل صديقاتك وبنات ما أعرفهم بعد جايين! . . وأهل فيصل أنصدمت منهم! طبعا ماعرفت الا أمه بس شكل أهله من بعيد أو مدري
نجلاء تمدُّ لها حذاءها : يالله ألبسيه . .
ريم ترتديِه لتقف : تمام .
نجلاء بخبث : وش حوبة ريَّان؟
ريم بحماس جلست : ما قلت لكم! سويت نفسي المريضة المسكينة عنده
نجلاء بدهشة : من جدِك؟ . . وش تبليتي فيه على نفسك؟
ريم : قلت له أنه فيني مرض نفسي وأني أتوهم أشياء ماهي موجودة
نجلاء : مجنونة! بكرا ربي يعاقبك وتمرضين جد! . . لا تتمارضوا فتمرضوا
ريم : أستغفر الله يعني أنا قصدي حسَن مو سالفة أتبلى على نفسي! . . وش أسوي ريَّان عقله واقف عند عصر ما أنولدت فيه! لازم شوي أكسب رحمته عشان يرحمني
هيفاء : أنا لو أتميرض الليلة وش يقول عنِّي؟
نجلاء إلتفتت عليها : وش بتقولين له بعد؟ خففي ربكة وش فيها الأدوار أنقلبت!
هيفاء تجلس بتنهيدة : هذا إذا طلع صوتي! . . طيب وش أسوي؟ يعني وش أقوله أول ما اشوفه . . ريم أنتِ وش قلتي له؟
ريم : أصلاً ليلتي كانت زفت! نمت وما سأل عني . .
هيفاء : وأنتِ نجول؟
نجلاء بإبتسامة شاسعة : سولفنا عادي!
هيفاء بربكة : يعني وش أقوله؟ أجلس ولا وين أروح أول ما أشوفه؟
ريم ضحكت لتُردف : أمشي على حظك وشوفي وش يصير! لا تفكرين وش بتقولين ولا وش بتسويين . . خليك عفوية
هيفاء تضع يدها على عنقها لتبلع ريقها بصعوبة، أردفت : طيب سوِّي لي تجربة . . يعني أنتِ فيصل
نجلاء بإبتسامة : مبرووك يا قلبي
ريم : كذابة ماراح يقول يا قلبي على طول! وش هالميانة الوصخة
نجلاء : ههههههههههههههههههههههههههههههه طيب مبرووك
هيفاء بإتزان تجاهد أن تصِل إليه : الله يبارك فيك
نجلاء : آآ . . آممم . . شلونك؟
ريم أسندت ظهرها على الأريكة بضحكاتٍ عميقة لا تنتهي.
نجلاء : والله كِذا يسألون وش فيك!
هيفاء عقدت حاجبيْها : يخي جد أتكلم! . . لا تضحكون
نجلاء : ما عليك منها! . . إيه شلونك؟
هيفاء : تمام . .
نجلاء : قولي وأنت شلونك
هيفاء صمتت قليلاً لتُردف : لا وش ذا الجو المخيس! مستحيل يكلمني كذا
ريم : إيه خليها تنفعك! . . أنا أقولك وش بيصير . . . مبروك هيفاء
نجلاء : أقص إيدي لو قال إسمها
ريم بسخرية : بيقول يا قلبي ياعيوني يا روحي! . . أنتِ إكرمينا بتضيعينها بكلامك
هيفاء تنهدت : الله يبارك فيك . .
ريم : خلاص أنتهى دورك أسكتي لين هو يتكلم! إذا تكلم جاوبيه ما تكلم لا تحاولين أنتِ اللي تتكلمين . . وإكلي هنا لين تقولين بس عشان تتغلين هناك
نجلاء : الحمدلله والشكر! خلها تآكل معه . . هذي ليلة للذكرى تبينها تموت جوع فيها
ريم : مستحيل راح تآكل براحتها . . صدقيني
هيفاء : طيب شكلي حلو؟
ريم : يجنن والله العظيم يجنن
هيفاء : يارب تمر هالليلة على خير . . تخيلوا نقضيها سوالف ونضحك؟
ريم : إيه وش فيها؟ عادي .. أكيد بتسولفون بس عاد لا تفلينها مررة
هيفاء : لا مستحيل! وش بنسولف فيه؟ مافيه سوالف
نجلاء : أهم شي كلمة براحتك . . على كيفك شيليها من قاموسك! إثبتي شخصيتك قدامه من البداية عشان بكرا ما يمسح فيك البلاط
ريم : لا تسمعين لها! لو فيها خير سوّت هالأشياء عند منصور
نجلاء : أنا و منصور طبيعة زواجنا غير! جلست دهر ملكة لين جاء العرس!
،
الإبتسامـة تُزيِّن محياه بسكسوكـة تشتدُّ سوادًا تُشابه عينيْه المضيئة بالفرحَة، على كتفيْه يثبت البشت الأسود وبفلاشاتٍ تصوِّرُ كل شخصٍ يجيء إليْه للسلام، زفاف يخطفُ أنظار الصحافة بحضُورٍ يحتوي على شخصياتٍ هامة، جلَس و بمُجرد ما لمَح دخُول عبدالرحمن حتى جاء إليْه، قبَّل رأسه بإحترام كبير.
عبدالرحمن : مبرووك منك المال ومنها العيال
فيصل : الله يبارك فيك . . . عاد ليُوسف ليهمس له بضحكة يقصدُه بها . . شكلي تمام؟
يوسف الذي يتلاعبُ بين أصابعه سبحته السوداء : خل أمك تبخرك
فيصل: عيّت الساعات تمّر
يوسف : مستعجل! .. هدّ اللعب
إلتفت عليه بدهشة ليضحك يُوسف : جوكينق! . . وش فيها حرارتك ارتفعت؟
فيصل : لولا البرستيج كان هفيتك ذاك الكف اللي يعلمك الحرارة صح!
يوسف : ههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه أحمد ربك وجه وقفا أني موجود في حياتك لولا الله ثم يوسف ولد عبدالله كان الحين أنت ضايع!
فيصل بإبتسامة : ما أبغى أدعي عليك! انت عارف دعواتي
يوسف يمسح وجهه : أستغفر الله العظيم وأتوب إليه . . طيب طالعني بصوّرك
فيصل : لا تنزلها بالإنستقرام!
يوسف : خف علينا! . . ترى الأكاونت برايفت إذا خايف على جمالك
فيصل : صوّرني ولا يكثر . .
يوسف يصوِّره ويرسلها بالواتس آب إلى " هيفاء ".
فيصل : ورني أشوفها
يوسف يمدُّ له الهاتف : حلوة الصورة حطها بدل المخيسة اللي من أيام الثانوي وأنت عليها
فيصل : لا هذيك الصورة أحبها
يوسف : حبتك القرادة وين الزين فيها!! كنك توّك بالغ على هالشنب! . .
فيصل : ههههههههههههههههههههه عمري فيها 22
يوسف : قسم بالله كل ماأشوفها ودِّي أتفل بوجهك! معليش فيصل ودي أجاملك أحاول أجامل بس يخي الصورة معفنة! . . معفــــــنة . . معفنننننة
فيصل :الله يآخذك قل آمين . . أدخل يوزري وغيّرها . . وقف عندما أتى أحدهم للسلام.
،
تذكَّر الأوراق التي تركها في جيبه، بخُطى متمللة إتجه نحو الغرفة ليأخذها من جاكيته، سحبها لتنتثر مرةً أخرى بعض الصور، إنحنى لتتعلق عينيْه بصورة غادة، تخدَّرت أقدامه بهيئتها الجديدة عليه، رفعها لينظرُ إليْه بعينيْن متخدرة تمامًا، نزلت عينيْه نحو الأوراق، قرأ الورقـةِ الأولى التي تنقشُ إسم " رؤى بنت مقرن بن ثامر " عقد حاجبيْه ليرى سجلٌ طبي لا يفهم ولا كلمة منه، قرأ الورقة المنفردة لوحدها مع الصور " غادة صارت رؤى؟ و سلطان بن عيد صار مقرن بن ثامر؟ . . هوَّا الميِّت إزايْ بيصحى؟ العلم بعد الله عند أبو سعود "
،
في ساعاتِ الليل المتأخرة بعد عملٍ دام لساعاتٍ طويلة بعد خروجه من زفافِ فيصل، عاد لينظر للضوء المستيقظ بالصالة، إتجه لتلتقي عيناه بهما : صاحيين!
حصة بإبتسامة : جيـ . . تغيَّرت ملامحها عندما رأت الجرح الذي بجانب أنفه . . وش فيك مجروح؟
إلتفتت الجوهرة بنظراتٍ ترتجي الإطمئنان.
سلطان : بالتدريب . . ليه ما نمتوا؟
حصَة : خذتنا السوالف . .
سلطان ينظرُ إليْهما بنظراتٍ فضولية تُخمِّن الكثير، يعرف جيدًا أن خلفهما أمرٌ ما.
حصَة وقفت : يالله تصبح على خير
سلطان يقف أمامها : بالله؟
حصَة : وشو؟
سلطان : فيه شي تطبخونه من ورايْ؟
حصَة : وش فيك سلطان! يعني وش بيكون؟ . . سوالف عادية تبي تعرفها؟
سلطان : لا . . بس عيونك تقول شي ثاني
حصة بإبتسامة : لا تطمَّن مافيه شي . . يالله تصبح على خير . . وأختفت من أمامه لتتجه عينيْه نحو الجوهرة الهادئة، إقترب بخطواته إليْها، بدأ الغضب يعتليه عندما أنتبه لتجاهلها وهي تنظرُ للتلفاز، وقف أمامها وبحدَّة دفع ساقها اليمنى التي تضعها على اليسرى . . .
.
.
أنتهى