الجزء (71)
بدأ الغضب يعتليه عندما أنتبه لتجاهلها وهي تنظرُ للتلفاز.
اشتدَّت الدماءُ في رأسي حتى شعرت بأن عروقي ستتفكك لا مُحالة، أكره أن أكون بهذه النرجسيَة معكِ بالذات، أكره كوني مجرَّد من تراكمات السنوات الفائتة، أكره كوني أنسى من أنا في عينيْك، أكره كل أمرٍ يجعلني خارج سيطرة عقلي، هذه الأمور البسيطة التي تتفاقم بصدرِي إن انجرفت نحو قلبي تقع كارثة، الكارثة التي تجيء في اللحظة التي ينبضُ بها رأسي بقلبٍ لا يحكم سيطرته، أكره عيناكِ التي تتلعثم بعفويـة تُحبِط كل رجسٍ من عمل عقلي، أكره عيناكِ التي تُجادلني كثيرًا.
وقف أمامها وبحدَّة دفع ساقها اليمنى التي تضعها على اليسرى، رفعت عينيْها بجمُودِ ملامحها التي لا تُعبِّر عن شيء، هي لا تتجاهلني فقط، هي تتجاهل حتى شعُورها وردَّاتِ فعلها.
أنحنى عليْها ليضع ذراعيْه على جانبيْن الأريكة ويحاصرها، أبتعدت بظهرها حتى ألتصق بظهرِ الأريكَة، قاتلت كل رهبة وخوف في قلبها لتنظر إلى عينيْه بتحدِي عميق، كل شيء يهرب حتى الهواء من أمامي تخدَّر وتلاشى، لا شيء يعمل بصورة طبيعية بقُربه، يشتعلُ صدرِي ويرتفع بأنفاسٍ مضطربَـة ويهبط بزفيرٍ جبَان.
سلطان يقرأ عيناها الجريئة المتحديَة التي تُثبتها بلا تردد في عينيْه، هُناك شيء تُريده أن يصِل إليّ بنظراتها، أنا أفهم جيدًا عيناكِ الغاويَـة.
الجُوهرة بصوتها التي جاهدت بأن يتزن : هالمرَّة وش غلطتي اللي بتعاقبني عليها يا بابا ؟
لا يتحرَك، كلماتها تعبره ببرودٍ تام، مندهش/مصدوم.
الجُوهرة تشعرُ بأنها تغصّ بالهواء : ممكن تبعد؟
سلطان بنبرةٍ تُخفي تجوفًا بركانيًا : مين بابا ؟
الجُوهرة بدأت أصابعها تنغرز في الأريكَة بتوترٍ عميق لتُردف بإصرار : ممكن تبعد؟
سلطان بحدَّةٍ كبيرة : منتِ قد الكلام؟
الجُوهرة بإستفزاز تنظرُ إليْه بعينيْن تتشكَّل من البرود : ممكن تبعد؟
سلطان إبتعَد بخطوتيْن إلى الخلف لتقف وهي تُعدِّل بلوزتها الناعمة، نظرت إليْه بنظراتٍ متهمَة تُشعل به نارُ الضمير، لوت فمِها جانِبًا بضيق، لتقترب منه حتى ألتصق بطنها ببطنِه، رفعت عينيْها إليْه بتحدي : تعرف وش مشكلتي معك؟ أني يوم دعيت الله يهديني! كنت الضلالة في عيني . . . حاولت أن تتجاوزه وتخرج ولكن يدِه إمتدت لتمنعها، سحبها حتى أرغمها على الوقوف بأطرافِ أصابعها، وضع ذراعه خلف ظهرها ليشدَّها نحوه، وبإجابة أرجفتها : أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ
هرولت حُمرة الخجل في جسدِها بأكمله حتى وصلت لعينيْها التي ضاقت بالملح، بلعت غصَّتها من جوابٍ أفحمها، أسقط حصُونِ قوَّتها، جواب أسكتَها حدُ اللاحديث بعده، شدَّها أكثر حتى شعر بنبضات قلبها الملتصقة به، تألمت من الوقوفِ على أصابعها حتى تجارِي طُوله، تألمت من قلبها الذي بدأ ينبض في كل جزءٍ بجسدِها الغضّ.
يُكمل بإبتسامة تهزم كل محاولاتها في إستردادِ قوّتها المندثرة بحضرته : اللي ودَّه الضلالة ما يدعي بالهدايَة!
لوهلة شعرت بأن جسدِها عبارة عن دماء/ماء لا شيء آخر، ترتخِي بقبضة يدِه كقطعة صلصال يُشكِّلها كيفما يُريد، تلألأت عينيْها بتجمع الدموع في غيمِ محاجرها.
أرتفعت أنفاسها وكأنها للتو خرجت من معركةٍ حاميَة، في لحظةٍ كان هو يشعرُ بزلزالٌ يضربُ بصدره الذي يعلُو بشهيقٍ وينزلق بزفيرٍ مضطرب.
كنت أظن أنني أنتصرت عليك بجملةٍ خافتة من حقَّها أن تُزلزل ثقتِك بحُبي، كُنت أظن ذلك حتى سلبت منِّي حق الإنتصار وهزمتني بآية عظيمة من كتابٍ عظيم، أنا حزينة! من الأشياء التي صيَّرتها ضدِي، من صوتي المتخشِّب بإستجداءاتِ الهوى، من البياض الفاترُ في عينيّ، من طعم الدماء المترسبـة في فمِي، من صوتُك الذي ينزلقُ ويسلب سَلام قلبي، من عينيْك ونظراتها التي لا سلطة تعلوها! ماذا بقيْ يا سلطان لم تهزمني به؟ هذا وأنا لم أرفع الرايات البيضاء!
ضاق صوتُها بكلماتٍ جافّـة خدَشت حوَّاف حنجرتها : لعلمك هذي الآية نزلت في المنافقين.
سلطان : وش الشي مشترك بينك وبينهم؟
ارتجفت شفتيْها برجفةِ فكيّها، طلَّت على عينيْها دمعة حجبت عنها عينيْه : وش قصدِك؟
سلطان بإستخفاف : يُظهرون خلافِ ما يبطنون . .
تجعَّد جبينها بتعرجاتِ عروقها الغاضِبـة، عضّت على شفتها السفليَة حتى تُخفي ربكتها، أبعدَت أنظارها عنه لتسقط برمشتها دمعة فاضت بإنهزاميـتها.
سلطان يجهل ماذا يُريد من إستهزاءه : لِك حق الإنكار!!
رفعت عينيْها مرةً أخرى إليْه، أشتعلت بغضبٍ صيَّر ملامحها الناعمة لحدَّةٍ تُشبهه، بين أنفاسها التي تعتلي بإضطراب : لا بارك الله في ليلٍ جابك بطريقي . . . نفذَت من يديْه لتتجه نحو الباب، تبعها ليسحبها بشدةٍ حتى ثبَّت كتفيْها، تألمت من ظهرها الذي ضربه بالجدار، لهثت ليسحب كل الهواء من رئتيْها بقُبلة عنَّفت شفتيْها الناعمتيْن، أغمضتْ عينيْها أمام عينيْه التي أطبق جفنه عليها، إلتفت يدها الرقيقة حول رقبته وهي تغرقُ به، كالفضاء أتأملُك وأرغبُ بِك. صعِدت ملامحها لأعلى سقفٍ من اللاشعُور، لولا دمعتُها التي نزلت في قُعرِ إلتحامهما، لا تتراجع الحياة عن إذلالي، مازلت يا سلطان تُمارس سطوتك عليّ وساديـتُك التي لا تنتهي، أحاط ذراعه خلف ظهرها ليشدَّها نحوه أكثر، أفرغ غضبِه منها بحدَّةِ قُبلتِه، تستطيل اللحظات بمرورها حولهما بعد أن تلاقت أجسادهما بجسرٍ (شفتيهما)، بجسرٍ يحملُ هواءٌ خالِص من رئتيَّ على ضفتِها نهرٌ من الهوى/الجوى، وضع يدِه اليمنى خلف رأسها وأصابعه تُخلخل شعرَها في وقتٍ كانت ذراعه اليسرَى تُحاصر جسدها بحصارٍ متين، إبتعد قليلاً دون أن ترتخي قبضة يديْه، لم يفتح عينيْه للحظاتٍ طويلة أستمر به صدره في علوٍ وهبوط مُتذبذب، أرتخت يديْه ليبتعد بخطواته ويُعطيها ظهره، مسح وجهه بكلتَا يديْه دُون أن ينطق كلمة.
لم تحتمل قدماها ذبذباتِ الثباتِ من تحتها، سقطت على ركبتيْها على رخامٍ بارد، أخفضت رأسها لتسقط بفخِ بكاءها الذي لا يتركها تُكمل السير وتُكابد من أجل الحياة، وصله أنينها كغزوِ قبائلٍ على صدرٍ خوَى، لم يلتفت بقيَ ينظرُ لإنعكاس الجدران لظلاله، عقد حاجبيْه ليرَى ظلها الذي يُرتب نفسه ليقف، بغضبِ الناعمات وحسرة بكاءهن، بشدَّةِ أسنانها التي ترتطم ببعضها البعض : أكرههك! أكره هالحياة اللي مخليتني أنتظر حظي معك! أنا ماني جارية عندِك! مالك حق تستعبدني بهالطريقة! . .
بعلوِ نبرتها صرخت، كثقبٍ في نهرٍ أخطأ الوِجهة وصبّ في عينيْها : لما أكون معصبة ومتضايقة لازم أروق لأنك تبيني أروِّق! ولما تكون معصب فلازم أعصب معك! . . ولا مرّة حاولت تراعي شعوري! تضرب وتمّد إيدك كأني . . مافيه شي يوصف تصرفاتك معي! مافيه شي يوصفك يا سلطان! . . . أناني ما يهمك الا نفسك! ما يهمك الا مزاجك! . . . . اليوم بس تأكدت أني مهما حاولت هذا قضائي وهذا قدري! . .
ألتفت عليها بعُقدة حاجبيْه، و صدرُه يلتهِب بنارٍ شاهِقة، نظر لعينيْها المتلألأتيْن كخرزتيْن مُضيئتان في نهرٍ جارٍ.
الجوهرة : ذليتني وأوجعتني كثيير! سكت مرة ومرتين وثلاث بس إلى متى؟ حتى لما أكون بحالي بعيدة عنِك تجي وتكرِّهني في عيشتي . . قراري ماراح أرجع فيه! أنت ما تقبل على عمتِك أنه زوجها ما يحترمها! بس تقبل أنك تهيني!!! . . ماراح أجلس عندك عشان تستخف فيني كِذا!
سلطان بلل شفتيْه بلسانِه ليُردف بحنق شعر به أن لسانِه ينثني عن الحركَة بإعوجاج : و لِك اللي تبين . .
الجوهرة بلعت ريقها بصعُوبة لتُردف برجفةِ اهدابها : يعني ؟
سلطان : تبين ننفصل أبشري . . أنا بنفسي أتصل على أبوك وأبلغه، عشان تكسبين إحترام نفسك اللي على قولتك فاقدته عندي!
الجوهرة تيبست قدماها لتشدّ على شفتِها السفليَة ودموعها تتساقط بلا توقف، أنهار كل جزءٍ بجسدها بمحاولاتٍ بائسة أن تقف أمامه بثبات.
نظرتْ إليْه بعينيْن مُضيئتيْن تجرُّ القناديل حتى احترقتْ، اكتظّ زُحام الدمع حتى انتزع وسقَط، جرَى النهرُ يا سلطان وصبَّ فوق خدِي ولم تستطع أن ينجح حدسُك بأن يفهم ما تَشِي به عينايْ، كتمت أنفاسها لتحبس نحيبها، في لحظةٍ كانت عيناها تُكابد من أجلِ الصمُود، خذلتها قوتها الصغيرة في الثبات/الإتزان، بلع غصتـُه لتتجمَّد عيناه بإتجاهها، لا شيء مفهُوم هنا.
عقَد حاجبيْه بعُقدةٍ أسقطت اللوعة في قلبه، وماذا يعني أن نفترق؟ أن تخطُو قدماكِ دُون أن أظللها، أن تُراقبي هفواتِ الزمن دُون أن أصحِّح مسارها بإتجاهك، أن تنشطِر المسافات بيننا لتُطوى بحواجزٍ شاهقة، أن لا نتشارك الطاولة نفسُها، أن لا ننام على الوسادة نفسها، أن ترفع الشمسُ خمارها قبل عينيْك، أن تندلعُ في جوفي الكلمات ولا تصِل لصوتي، أن يبهت العالم في عيني و نفترق.
هرولت الرجفة بأطرافها لترفع عينيْها الباكيَة إليْه، إلتقت به بنظرةٍ ذابلة، مازال طعمُ قبلته في فمِي، مازالت أوردتِي منتشيَة به. آمنتُ والله أننا كاذبات مُغفلات لا نلتفت ولا لمرَّة لأنفسنا، نحنُ النساء اللاتي لا يعرفن إختيار مصيرهن، اللاتي يخجلن من قول الحُب وفعل الحُب و نسيمُ الصبح إن أتى كبرقيَةِ حُب، نحنُ الصامداتِ من أجل عزة النفس والجبانات/الذليلات من أجلِ الحُب، لِمَ على كُل حال ننادي بالسعادة؟ لِمَ نطلبها ونحنُ في أول إنحناء لها تركناها! تركتها يا سلطان للحياة التي تقتصُ مني كل يوم، وكل ساعة ولحظة، الحياة التي تغرز أظافرها في حنجرتي وتقتلع صوتي من محجره، تركتني حُرَّة حين طلبت الإنفصال! خذلتني كل الأشياء بما فيها صدرُك الفسيح، ولكن في البُعد لم يخذلني أحَد، حتى صوتي أتى أكثرُ إتزانًا.
أتسمعُ رعشة قلبي؟ أتصِل إليك حسرة حواسي؟ ببساطةٍ أكثر أقول لذاتي " أنا أستاهل لأني ولا مرَّة عشت لنفسي، ولا مرَّة حاولت أكسب نفسي، أنا أستاهل لأني دايم أحاول أدافع عن نفسي اللي أصلاً يئست منِّي، أنا ضايعة! لأني تخليت عنك، يعني خلاص؟ خذني لآخر مدَى وقُول أنه كذب! كل هذا كذبْ، أعتذر عشان أعيش! عشان ما أحس بالإذلال! اعتذر وراضيَة، راضيَة بِك "يا سلطاني"
سلطان بإنكسار واضح في صوتِه الضيِّق، اغدقت في تفكيرها وصمتها ليقطعه : لا تقولين ما حاولتْ! أنا حاولت لكن . . ماعاد ينفع! المُشكلة ماهي فيك! المشكلة اننا جلسنا سنة وأكثر مو قادرين نتجاوز هالشي! كيف نتجاوزه؟ كيف نبدأ صفحة جديدة؟ . . ما نقدر! لا أنا أقدر ولا أنتِ تقدرين!!! بس . . أنا
شتت نظراته بعيدًا عنها عندما رأى دمعتها كيف تصمدُ في هدبها قبل أن تسقط بإنصياع للحزن، ثبتَّ أنظاره للطاولة التي امامه ليُكمل بتنهيدة تهزم البدايات والنهايات وما بينهما : للحياة تركتك.
الجُوهرة بنبرةٍ مالِحة: لله يا سلطان.
دارت عينيْه إليْها، اعتدتُ الوجَع وَ إيماءاتِ الوداع، اعتدت أن أكون الخاسر في الحياة ولا أسفٌ عليّ، وعلى الرُغم من هذا أنا لا أتقبَل خسارتي معك، لا أتقبَّل الخدش أسفل جلدِي إثر الدماء النافِرة من جسدِي، كل ما يُحطّ ويصب ينفرُ مني في اللحظة التي أريد ان أفصل ما بيننا، آمنت والله أننا وُجدنا للنصف وأن الوَجع قدرٌ كُتِب علينـا، آمنت يالجوهرة أن لا نهايـة سنصِل إليها ولا بدايـة يُمكننا الرجُوع إليْها، آمنت أننا معلقيْن لا نهزم أحدًا ولا ننتصر أيضًا، تعالِي! أسكني فيّ، لم تجيئي وحدِك، أتيتِ كقبائلٍ نصبَت خيامها في صدرِي، سحبت من أرضي ماءي ولم يبقى لي ماء! لم يُصلي أحد الإستسقاء من أجل قلبي، أنتظرتُ كالمساجد الشاهقـة الخاويـة سجدةُ مصلِّين، أتيتِ سماءً واسعة حجبت الغيم والمطر، أتيتِ جفافٌ صبَّ في عُمرٍ يابس نحيل، أتيتِ راكِضة في زمن توقّف عند عتبة الحياة، أتيتِ جذعٌ فقير هزتـهُ الريح وأنغرز في صدرِي كوَسمٍ باقٍ لن ينتهي، أتيتِ يالجوهرة وعيناكِ ليل طويل، وأنا لم أبرأُ بعد من ذنب النهار.
لم تحتمل عيناه المتحدثة بإنحناء الحزن في إنكسارٍ كُلِّي، يالله! أنا التي لم أدعُو الله طوال السبع سنوات من أجل السعادة والفرح والحياة، أنا التي ضللت أردد أغفر لي يا رحمَن، أنا التي خجلت أن أطلب منك يالله الفرح وأنت سترتني بعظيم لُطفك، أنا التي قضيْت أيامًا لا يجيء على لساني سوى " رحمتك لقلبٍ أمتلأ بك يالله " ، إني أسألك يالله في هذه اللحظة، إني أسألك يارب الكلمات و الوجَع، يارب الرحمَة والعطف، يارب حُزننا وفرحنَا، يارب قلبِه أعطف عليْ، ردني إليّ، للصبيـَة الناعمة التي أودَعت في صدرها حُبك، التي كتبت مذكراتها بنشوة الصِبـا، رُدني لقلبي قبل 7 سنوَات، قبل أن أموت في متاهات الدنيا المُذلة، قبل أن يعصفُ النسيم الرطب ويصبح ريحًا شديدة، قبل أن تصبح يقظتي كابوسًا ومنامي سوادًا، رُدني يالله لنفسي إني أخافُ يومًا يبكِي البُكاء من نفسي. يا لوعة الحُب الشديدة أسكني فيّ إني أرغب بحملك في شراييني للحياة التي تركتني من أجلها، إني أمرض بك ولا أسألُ من الله الشفاء، أريدك طريًا في دماءي، في ذاكرتي، في حياتي يا كُل حياتي.
لاحت لوعتُها في أنينٍ مرتجف، بكَت بعُمق الحزن في صدرها، بكَت بعُمق الجرح في صوتها، بكَت من الماضي الذي كان له سلطته في حاضرها، بكَت لأن الموت ثابتٌ في قلبها.
سلطان أغمض عينيْه للحظاتٍ طويلة حتى يسحبُ هواءً نقيًا لرئتيه التي ازدادت ضيقًا، لا مفَّر منكِ يا شديدة الطفُولـة والبياض، يا أنثى هزّت تاريخ الإناث برنةِ خلخالها، ليت ما كان لم يكُن وليتني استطع قول ما كان.
نظر إليْها بنظرةٍ خدَّرت الهواء من حولها حتى إمتلأ جوفها بالعدَم/بالفراغ.
بقسوة لسانه يُصادق على قولها : لله يالجوهرة . . . خرَج بخُطى مبعثرة ليفتح أوّل أزارير قميصه العسكري بإختناق، دخل لمكتبه المنزوي في عُتمة لا يخدشها سوى ضوء بسيط نافذ، رمى سلاحه على الطاولـة ليجلس بغضبٍ يتضح في ملامحه السمراء، شدّ على قبضة يدِه ليضربها في حافة الطاولة، مسك رأسه بوَجع من صُداع لا يدع فرصة شماتته تذهب، أنحنى بظهره قليلاً ليثبت جبينه على المكتب وعيناه تنظرُ للرخام، عوِّضنا يا كريم، أنا وقلبي.
غطّت ملامحها بكفيّها، أشعرُ بأني احتضر، أغيبُ تمامًا عن وعي الحياة، لِمَ طلبتُ منه؟ لِمَ اعيش في هذا التناقض! لم يبقى بيْ عقل يتجاوز كل هذه التناقضات التي تُعشعش فيّ!! لا أحتمل يومًا يأتِ لا يجيءُ بِه، لا أحتمل! يالله فحُبه تمكَّن مني حتى آخرُ خلية في جسدي، انسني حُبه يا رب قلبي وقلبه، انسني عيناه الساهرة في ظلالِ منامي، انسني كلماته التي عقدها فيّ، انسني من حياتي حياتـه.
،
وقف بضياعٍ تام، عقله لا يفهم إلا جملة واحدة " غادة لم تمت بالحادث " ، جُملة تسحب كل ذرة أكسجين من الهواء المُحيط به، سقطت كل ألوان الحياة من أمامه حتى أصبحت سوادًا ولا غيرُ ذلك، ما يحدُث أيضًا مدعاة للسخريَة! لأن الحياة لم تكُن يومًا منتصبَة في باقة ألوان، دائِمًا ماكانت تُعطيني ظهرها الشاهق، أنا لا ألوم أحَد، ألوم نفسي التي واصلت تصديقها لأشخاص لم أكن يومًا على محمل الأهمية بالنسبة لهم، ألوم نفسي التي صبَرت بفُرصة أن يكُن نهاية صبرها إنشراح وفوز! ألوم نفسي للرجس الذي أعمل به، ألوم نفسي وساخطٌ عليها لأنني مازلت بقربهم، مازلت معهم! غُفرانك يالله على ما فعلته وسأفعله، لم أكن يومًا صالحًا بما يكفي حتى أتعلم التجاوز والعفُو، لم أكُن شيئًا طيبًا بما يكفي حتى ابتسم بوجه المصائب، حاقد! ولن أُخفي حقدي من أجل الأخلاق والشيَم، لن أخفي لوَعتي بالحياة من أجل أحد. هذه المرَّة و رحمةُ الله لن أرحم نفسًا أوجعتني، لن أرحم نفسًا أضعفتني! لن أرحمهم!! سأقتّص منهم واحدًا واحدًا ولو كان ذلك على سبيل خسارة قلبي/حياتي، كان لزامًا عليّ أن أفهم هذا مُبكرًا أنني لا أستقيمُ مع هذه الحياة مهما بذلت من جُهد، ولن أحاول ولا للحظة أن أستقيم.
عاد بخُطى تائهة حائرة للخلف ليصطدم بحافة السرير، دارَ بهِ رأسه كما تدُور الحياة بعينيْه، اسنَد ذراعه على التسريحة بمحاولةٍ جادة أن يتزن، ارتفع الضبابُ لعينيْه حتى أختفت الرؤية تمامًا، شعر بحُرقة تسيلُ بأوردته، وضع يدِه تحت أنفه لينظر لظاهر كفِّه المُبلل بالدماء، عقد حاجبيْه بجهلٍ لمصدر الدماء، لم يحاول التفكير بشيء غير الكلمات التي قرأها، كما السكين تُزهق الروح أيضًا الكلمات، من يستوعب هذا الحديث؟ لم يتبقى بيْ عقل لأستوعب، هل هذا إبتلاء يالله أم عقاب؟ أين هي الآن؟ من المستحيل أن يفعلها بي ناصر! أم ماتت بعد فترة من الحادث؟ . . شعَر بغصة تقف في مجرى تفكيره، جفَّت عيناه وترسَّبت بالملح، لا دمعةٌ تسقط تنقذ الموقف المُزرِي ولا دمعةٌ تربت على خدِه، ولا دمعةٌ تشفق على إنهزامه، لا دمعٌ يسيل! لكن القلب كيف يسكُت؟ كيف يصمد ولايبكِي؟ ، ينظرُ بتجاهل شديد للدماء التي تتدفق من أنفه، لم تحتمله قدماه حتى سقَط على ركبتيْه، نظر للصور المتناثرة على الأرض، لعينيْها التي تُشبهه، لملامحها الباهتة، تفتقدني أيضًا؟ تشعرُ بيْ؟ كُنت تجيئين في منامي بصفةٍ وحشيَة حتى ظننتُك تتوجعِّين من التراب، ولكن كُنتِ تتوجعِّين من هذا العالم، تتوجعين منهم يا "رُوحي"، وضع يدِه على جبينه يحاول أن يثبِط هذا الدوار الذي يُصيبه، أدرك بأن ضغطي ينخفض الآن، أعرفُ جيدًا ما يُصيبني، هذه الأعراض تشمتُ بي في كل مرة أتنفسُ أملاً، أنا رجلٌ لا أصلح للهدنـات، للأماني والأحلام الصغيرة، أنا رجل لا أصلح للحُب والأيام الجميلة، أنا رجلٌ كسرته الحياة مرَّة وكسَر معها حياته و محتواها، البرودة تحتبسُ أسفَل جلدي وبقايَا الماء في جسدِي يتسامى حتى حجَب الوضوح عن عيني، هل هذه أعراضُ صدمَة؟ مُعاذ الله أن أكون مصدوم كل ما في الأمر أنني لم أتوقع أن تأتِ مُزحة الحياة بهذه الجديّـة القاسية.
تحامل على ألمه ليسحب نفسه قليلاً حتى يأخذ الصورة بيديْن تفقد قدرتها على الإمساك بثبات، كل طرفٍ به يرتجف، نظر لغادة بشوق عظيم رُغم رؤيتـه الشبه معدومة في هذه الثانية المرتبكة، سعَل بذبُول كُلِّي.
" اشتقت! يا عذابي في الصور وضحكات الصور! يا عذابي وش بعد باقي ؟ وش بعد يا غادة؟ ماطِبتْ! كيف أطِيب وأنا من عشمني في الوفَا غدَر! كيف أطِيب وأوفى من بقى لي خان! ما عاد ليْ حق أسأل – ليه ؟ - ما بعَد ناصِر سؤال. "
سقطت الصورة بين أصابعه التي ارتخت، أشتعل صدره بحقد،بغضب،بشحناتٍ هائجة، بشتاتٍ تكدَّس بصوتِه، سمع ضربات المطر على الأرض، ليقف وهو يسندُ نفسه على الجدار، إتجه نحو الحمام ليغسل وجهه بشحُوب، أغرق ملامحه لينظر لنفسه بالمرآة، لم أكن بهذه الصورة أبدًا! في حياتكم لم ينزف أنفي ولا مرَّة، لم تتحرك مساراتُ حنجرتي لتسَّد مجرى تنفسي، لم أضيع ولم أتُوه قبلكم، هذه الحياة بعدكم خراب! ولا تصلحُ ليْ على كل حال.
أخفض نظره قليلاً ليرفع عينيْه بإبتسامة مكسورة، جُننت! غادة مازالت الأرضُ تحمل أقدامها؟ أم أنا بدأت أتوهّم كلماتٌ مقتولة؟
عقد حاجبيـْه بشدّة، لا يفعلونها! لو أنني ألدُ أعدائهم لا يفعلونها بيْ! . . لا يفعلونها بإبن صديقهم.
بدأ صوتُه الداخلي يظهر، يُدرك بأنه واقع في صدمة شديدة ولكن مازال يُنكر، مازال يحاول أن يقِّر بوعيْه التام في هذه الأثناء، رُغم أن وعيْه غائب تمامًا في لحظةٍ انسلخ اللون من جلدِه وطغى الشحُوب، إنخفاضُ الضغط الذي يُداهمه ماهو إلا نتاج الصدمَة.
خرج من الحمام ليأخذ قارورة المياه ويفرغها بفوضوية في فمِه، حاول أن يسترجع بعض الطاقة المهدرة، لدقائق كثيرة بقيَ جالِسًا لا يُفكر بشيء ولا شيءٌ يأتِ إليه، وقف متجهًا للخارج، اقترب من نايف ليلفظ : ممكن جوالك شوي
نظر إليْه نايف بنظراتٍ مستغربـة : فيك شي؟ تشكِي من شي؟
عبدالعزيز : لا . . ممكن؟
نايف: إيه أكيد . . تفضَّل
عبدالعزيز أخذه ليعُود بخُطى متأرجحة مضطربة للداخل و المطرُ يُلامس جسدِه بلا شعُور يّذكر، فقد حاسيـَة الإدراك تمامًا. جلس على السرير، وضغط بأصابعه الباردة على رقمِ ناصر السعودي الذي يحفظه، ثوانِي حتى اتاه " مغلق " ، حاول أن يتذكر رقمه الفرنسي، بدأ يُخمن بعقله عدة أرقام يحفظ بعضها وبعضها يُجرب حدسه بها، جرَّب للمرة الأولى ولكن أتى " خارج نطاق التغطية " ، إختار التخمين الآخر ليضغط عليه، قرَّب الهاتف من إذنه لينتظر إجابته، تمرُ دقيقة تلو دقيقة ولا مُجيب.
: ألو
شعَر بأن روحه تخرج، تقتربُ من النفاذ للسماء، لا سياج يفصلها عن التسامي، عن العلوِ وتركِ جسده، اتسعت محاجره حتى اجتاحتها الحُمرة الكثيفة، ارتجف فكِّه بصريرٍ مؤذي، لا شيء طبيعي! وربُّ الكعبة لا شيء!!!!، كل الخلايا تندفع بإتجاه صدره الذي يعلو بإرتفاعٍ مضطرب.
كررتها مرةً اخرى بنبرتها العذبـة : ألو . . مين معايْ ؟
لا يُسعفه الصوت، يُريد أن ينادي! يُريد أن يبتهِّل صوته بإسمها ولكن حتى نبرته تُخذله، فوق وعثاء الحياة وحظِّها السيء معي! فوق كل هذا يُدير صوتي نفسه عنِّي، يارب لا تجعلني أتخيَّل صوتُها بهذه الصورة المؤذيـة، يارب أرجوك.
بخفُوت : ناصر نايم . . مين أقوله؟
هذا مالاطاقة ليْ به! كُنت أقول أن الحياة إن شاءت و وقفت ضدِي فناصر معي، ما يخُون؟ " خلِّي ما يخُون " ، هذه أنتِ يا غادة، كيف؟ رُبما أحلم! طبيعي أن أحلم.
بضجر لا تعلم لِمَ لمْ توَّد أن تغلقه، الأنفاس المضطربة التي تصِل إليها تُشغل عقلها : مين؟
لستِ حلم! أنتِ يقظة، بعد سنـةٍ كاملة و نصف السنـة أسمعُ صوتك يا غادة، أسمعُه يا " روح عزيز " ، ناديني من أجل الله، " اصرخي بعالِي صوتك، اصرخي لقلبٍ مات نصفه ونصفه ينتظر إحتضاره، اصرخي عشان أصحى لو كنتِ منام البائسين اللي أتعبهم حرث أرضٍ فاسدة، نادِيني!"
غادة بتوتر مستغربة هذا الصمت : آ آ
صوتي لا يلُوح لأحدٍ ولا لكِ يا غادة، تحبسُ الأشياء نفسها فيّ دُون أن تترك لي حق الرفض والقبول، أنا أسمعك! أقرأ صوتُك بخشوع، لكن لا أقدر على لمسِك على مُناداتِك، رُبما هُناك شيء يربطني بك ويُمكِّنك من سماع قلبي، رُبما. أثق بذلك ما دُمتِ لم تغلقي الهاتف إلى الآن، أنتِ تشعرين ولكن صوتي جبان، ما أمرُ به " جاثوم " الذكريـات، يهزمني صوتك يا غادة! أرجوك، أرجُوك، أرجوك لا تفعلي بيْ هذا! لا مجال بأن يخدعني أحدٌ آخر في حياتِك، لا مجَال أبدًا. " أنتِ حيّـة ؟ " أنتِ هنا، أسمعك.
: مع السلامة.
لحظة! . . صوتُك يا غادة لا يُغادرني، من يدلني عليك؟
. . . أغلقته دُون أن تسمع صوتـُه.
وقف بلا تركيز، تمرُ الدقائق بكثافةٍ عاليـة دُون أن يشعر بثانيةٍ واحدة، يترددُ بعقله صدى صوتُها و " ألو " التي خرجت من بين شفتيْها كحياةٍ جديدة، هيَ! والله العظيم هيَ. أذني لا تُخطىء! أذني تحفظ صوتُها كـ رقيةٍ على قلبي كل ليلة. و حسرةُ السنـة والنصف من يُشفيها؟ من يردّ ليْ أيامًا من عُمري تلحفها النحيب، هُم لا يدركون! لا يعرفون قيمة أن أخسر عائلتي! كيف قضُوا كل هذه الأيام ينظرون إلى عيني دُون أيّ خجل؟ كيف تجرأُوا أن يفعلوا بيْ أسوأ فعلٍ على مرِّ حياتي، لا أفهمهم! ولا أفهم دناءتهم! لا أفهم أبدًا كيف لهؤلاء البشر أن يبقوا على قيد الحياة وهُم أقل من أن يقال لهم أحياء، ضمائرهم ميتة وقلوبهم ميتة! وأنا أيضًا؟ من أجل هذه الحياة سأكُون أشدُ دناءةً منهم، والله لن يردني شيئًا، لن يردني خُلق تربيتُ عليه ولا شيء، هذه المرَّة أنا أريد ان أخسر نفسي وأخسر مبادئي، أريد ان أخسَر " عبدالعزيز سلطان العيد ".
أما أنت يا من ناديتُك " يبـه " وأنا استشعرُ طعم لذة الكلمة في لساني، ناديتُك بأبي وأنا أشعرُ أنِي إبنك، ولكنـك استغليْتَ حُزني على فقدي بمصالحك، نظرت إليّ كأنك تُشاركني المواساة في وقتٍ كنت تدرك بأن هُناك قطعةٌ مني تسير على ذاتِ الأرض ولا ألتقيها، كُنت تدرك بأن جزءً مني ينظرُ إلى ذاتِ السحابة ولا تُمطر عليّ ولا عليه، كُنت تدرك كل هذا وتركتني أحارب الحياة بمخالبٍ ملتويـة، كُنت تدرك يا " بو سعود "، أنا لن أشفق على أحد بقدر شفقتي على نفسي التي صدقتك، حسبي الله عليك وعلى الذين حسبُوا أن الحياة تُدار بتخطيطهم، لن يبرأ قهري منكم، لآخرِ لحظة في حياتي سأدعُو عليكم قولاً وفعلاً.
،
وضعت الهاتف على الطاولـة، بقلبٍ يُطلق علاماتِ الإستفهام، أثـارت أنفاسه الثائرة فضولها، وضعت يدها الدافئة على نَحرها، شعرَت بلوعةٍ تغصُ بها، جلست بمُقابل جسده الذي يغطُّ في سباتٍ عميق، بدأ عقلها بالهذيان.
رُبما عرفني! أو ارتبك من الصوت الغريب. رُبما كان مثل ناصِر يحسبُني غائبـة تحت التراب وتفاجىء بصوتي! لكن كيف ورقمه غير مسجل؟ هذا يعني أنه ليس من معارفِ ناصر. تنهدَّت بيأس لتنجذب لحركته الخفيفة، لميل رأسِه ناحيـة اليمين قليلاً، وقفت لتقترب منه، جلست بجانبِ بطنه، وفي داخلها سؤال واحد " من صاحب الأنفاس المضطربـة؟ "، كُنَّا شتاتًا وما زلنا! لا أحد سيشعُر بحجم حُزني لأن لا أحد سيفهم معنى أن تستيقظ عيناك ولا أحدٌ بجانبك، لا عائلتك ولا أصدقائك، لا أحد سيفهم معنى أن تنظر للسقف دُون أن يطِّل أحدٌ عليك، لا أحد سيفهم معنى أن تجلس على الطاولة وحدُك دُون أن تُذكرك أمك بالتسميَة، دُون أن يُصحح أبيك بعثرة خُطاك، لا أحد سيفهم معنى أن أشتاق لعائلتي بهذه الصورة المؤذيَة! هُم اللذين لا أعرفهم ولا يعرفوني، اللذين يحسبون أنني راضيَة بحالتي، أنني سعيدة بفقداني لذاكرتي/لحياتي، هُم لا يعرفون كيف أنني أنام على أملٍ ان أتذكر أيامُ أمي الأخيرة، وضحكات أبي المودِّعـة، هُم لا يعرفون كيف أن 5 سنواتٍ من عُمري تغيب عنِّي فجأة! أستيقظ وأراها تبخَّرت!!! لا أحد سيفهم معنى ان تكُون وحيدًا إلى هذا الحد؟ لا عزيز و لا هديل بجانبي، لا أحد. ردَّ ليْ يالله ذاكرتي وحياتي.
تبللت ملامحها بالدمع، " موحشـة الدنيَا بدونكم! " مسحت على جبينـه وهي تشعرُ بوجعه، بألمه، بحافةِ دمعه.
تحرَّك بإختناق دُون أن يفتح عينيْه النائمة، همست بالقُرب منه: ناصر
حرَّك رأسه للأعلى ليغرق بحلمه، أعلى معدلات اليأس/الذبول التي يصل بها الإنسان أن يشعُر بأن منامه واقع.
سقطت دمعةٌ احترقت بمحجرها، ادركت بإحساسه بها، وضعت كفَّها على كفِّه لتُردف : ناصِر
مازال مُغمضًا نائِمًا بسلامْ، يمرُ صوتها لحنَّا شجيًا، لانت ملامحه بإسمه الذي يعبر لسانها، أوجعها بتعابيره المبتسمة، أوجعها بأنه يعيشها " حلم ".
انحنت عليه وشعرُها يتجه نحو كتفها اليمين لينتثر بجهةِ واحدة كستارِ ليلٍ مظلم، بحزن: لا تسوي كِذا! . .
سالت دمعةٌ يتيمـة من عينِه اليسرى التي مازالت مُغمضة، مسحتها بكفِّها الناعمة لتُقبِّل جفنـه النائم دُون أن ترفع رأسها، ضعِفت كل قوَّاها أمام دمعته، تأكدت أنه يحلم، أنه يحارب واقعه بالأحلام.
تنفست سُمرتـِه وهي تدسُ أنفها بملامحه اللينـة، أما أنت مازلت أكثرُ الرجال طغيانًا، في صخب رجولتـِك وإتساع وسامتُك، في صوتـِك الذي يُودع للكلمات ضياءها، مازلت يا ناصِر فارس أحلامِ الصبَا.
رفعت جسدِها قليلاً لتنظرُ إليْه بوضوح، ثبتت نظراتها بعينيْه حتى فتحها بهدُوء، نظر إليْها بغصَّات السنين التي مرَّت في سنـةٍ واحدة، نظر إليْها بحُزن الثكالى واليتامى، أمال رأسه بإتجاه شَعرِها المنسدِل، نظر بضياعٍ شديد.
غادة: إحكي ليْ! . . أبي أسمعني فيك.
ناصر ببحة: ضعنا يا غادة
غادة بهمس وعينيْها لا تتوقف عن البكاء:أششش! .. سولف ليْ خلّ آخر التعب لقَى
ناصِر: وين اللقَى؟
غادة تُغمض عينيْها وجسدِها يُلاصق جسدِه، تنتقل رعشاتها إليْه بخفَّـة: وش يعني لو ما قدرنَا نعيش؟ وش يعني لو ما بنينا من أحلامنا حياة؟ وش يعني لو شابت ملامحنَا ولا كبرنَا؟ وش يعني لو ذاب الورد في إيدينا؟ وش يعنِي لو أمطرت السمَا وعيَّـت لا تسقينَا؟ وش يعني لو نغيب؟ نغيب ونلتقي في مقطع قصيدة
ابتسم بوجَع ليرفع ظهره عن الأريكة ويجلسُ بجانبها، نظر إليها بشحُوبِ ملامحه، نظراتٌ تسطع على جدار قلبها: يعني اننا انكسرنا، نعيش على البركـة
غادة: على أساس أننا عايشين بتخطيط وما نسمح للعشوائية تخرِّب حياتنا!
ناصر: لمَّا قلبك يخطط بدون لا يرجع لك هذا يعني أننا محنا عايشين بعشوائية، لمّا تصحيني كل صبح بصوتِك وتنتظريني عند نهاية الشارع، لمّا أوصلك لين الجامعة وأرجع آخذك، لمَّا أسولف لك عن أتفه الأمور وأبسطها، لمّا نسهر وندوِّر الأعذار حتى نغطي فيها أخطاءنا، بس كانت أخطاءنا تسعدنا! كنّا نتجمل فيها، وكنت أرجع وأنام على صوتِك . . . كل هذا يا غادة تشوفينه عشوائية؟ هذا الروتين كان وجودك يرتِّب فوضويـته.
غادة تُخفض رأسها لتُردف بضيق يتحشرجُ به دمعها: أبي أتذكر كل هذا! . . بس مو بيدي . . والله مو بيدي
ناصِر : آسف
إلتفتت عليه بحُمرةٍ تتسلق عينيْها.
ناصر : لأني ما عرفت ألتقي فيك إلا بالحكي!
غادة : ناصر
ناصر : لبيه
غادة : سولف لي عنِّي . . خلّ اللي ماعرفت استرجعه ألتقي فيه بصوتِك
ناصر بعُقدة حاجبيْه نظر للنافذة والثلج يتساقط على لندن بوِفرة، مدّ ذراعه نحوها : تعالي
اقتربت منه لتضع رأسها في حضنه، استلقت على الأريكـة لتُغمض عينيْها الباكية: قولي عن اصغر التفاصيل.
،
وضعت يدها على صدرها الذي يرتفع كريحٍ مُحمّـلة بالبرودة، نظرت للمرآة التي أمامها ويدِها الأخرى تغرزُ أظافرها بـ/ مسكَةِ الورد المنتشي بين أصابعها، الممر الذي يفصلُ حياة عن حياةٍ أخرى ليس ممهدًا أبدًا، المرُور نحو الزواج ليس بالسهولة التي تخيّلتُها، أشياء كثيرة تحدث فيّ لا أعرفُ ماهيتُها، رعشـَةً أطرافي ماتزال ترنُّ في إذني، صوتُ قلبي يسعلُ بضوضاءِ نبرته، أشعُر بأنني أتلاشى وأذوب، كل شيء أمامي ينعدِم ويعطب، أشعُر بأنني متراجعة مترددة، يالله! أحسُّ أنني تسرعت، كان من الممكن أن لا أوافق بهذه البساطة، كان من الممكن أن نؤجل هذا الزواج لأجلٍ غير مسمى، أو رُبما مسمى بسكُون قلبي، بصوتٍ داخلي يشدُّ عزمها " يالله يا هيفا! أنبسطي . . أنبسطي " ، بدأت تقرأ في داخلها كل الآيات التي تحفظها بمحاولةٍ ناعمة لتهدئة الربكة التي تُرعش حواسَّها، اللهم حببني الى قلبه وجملني في عينه واستر عيوبي عنه واستر عيوبه عني وألف بين قلوبنا واجمعنا في الفردوس الأعلى من الجنة. . . اللهم يا كريم.
طلَّت ريم عليها لتُردف : جوّ! . . .
هيفاء بلعت ريقها : تكفين جيبي لي مويَا
ريم بإبتسامة مُطمئنة : سمِّي بالرحمن . . ولا تتوترين كثير . . مدّت لها كوب الماء لتشربه بدفعة واحدة.
هيفاء ويدها مازالت تربت على صدرها : أحس قلبي بيوقف
ريم كانت ستتكلم لولا دخول أم فيصل، إتسعت إبتسامتها لتُردف: جاهزة؟ عشان تنزلين؟
هيفاء بإبتسامة مرتبكة : آآ . . آيه
أم فيصل بصوتٍ عذب قرأت عليها للحظاتٍ طويلة حتى ضجَّت الهواتف بإتصالاتِهم، خرجت والدته لتتبعها ريف الصامتة المُحدقة بإستغراب لهيفاء ولهذه الأجواء، بتوتر: يالله
ريم ضحكت : مستعجلة!
هيفاء أشتعلت حُمرتها بخجلها: لا .. أقصد . . طيب ريم ممكن تآكلين تبن؟
ريم بإبتسامة : ممكن يا ستِّي . .
ثانيـة، ثانيتيْن، رعشـة و رعشتيْن، ركض الفرح إلى عينيْها الداكنتيْن لتتلألأ بالدمع المتغنج بعذوبـةِ محجرها، ابعدت أنظارها عن ريم التي التقطت بكاءها الصامت، ريم بضيق وهي تتجه نحوها: لا تبكين!
هيفاء رفعت عينيْها للأعلى حتى تُبدد الملح الذائب في عينيْها، فرحٌ شاهق يُصيبها بربكة، تأتِ الأفراح دائمًا بربكـة عكس الأحزان التي تجيء برتابـةٍ واضحة : طيب يا حمارة! أنتِ تبكيني
ريم بضحكـة عانقتها لتسقط دمعتها الناعمة على خدِها : ماسكة نفسي من اليوم وأقول ماراح أبكي! . . شدَّت على جسدِها بعُمق السعادة المتشكلة في صوتها : الله يوفقكم يارب ويهنيكم ويسعدِكم . .
هيفاء همست: آمين
ريم ابتعدت لتنظر إليْها بفرحٍ شديد : يالله ننزل . . .
هيفاء تمتمت وهي تضع يدها على بطنها لتأخذ نفسًا عميق : بسم الله الرحمن الرحيم ، نزلت من على الدرَج الشاسع بعِرضـه، الشاسعُ بمسافاتِ القلوب التي تُحبها و تنتظرها، رفعت عيناها لتنظرُ لملامحهم المبتسمـة الطيبـة.
للمرة الأولى أشعرُ بأنني شخصٌ آخر، بأنني عبارة عن أشخاصٌ كثر يعيشون داخلي، عندما نظرت لهم رأيتُ الفرح كغيمٍ مُبارك فوق رأسي، ولكن هُناك شيء يُجمِّد خطواتي ويُبطئها، أنا سعيدة! أنا لستُ اعرف ماهي السعادة تحديدًا. جديًا أنا أنسى مفاهيم الحياة و قوانينها الوضعيـة والفطرية أيضًا، لا أعرف إن كُنت سعيدة، ولا أعرف إن كنت حزينـة، فقط أشعُر بأنني خفيفـة كجناحِ طائر، و ناعمـة كملمسه، أشعُر بالإنتماء للحياة، لأصلِ الحياة، *إتسعت إبتسامتها حتى بانت أسنانها العلويـة في اللحظة التي رأت بها والدتها* فخورة بأنني أتنفسُ مثل الهواء الذي يدخلُ إلى رئتيْكِ يا أمي.
سالت دمعـة رقيقة لتثبت أقدامها على الرخام، اقتربت من والدتها لتُقبِّل جبينها ورأسها وتنحني لكفِّها،بكَت بعاطفة الأمومـة التي لا تقوى مهما كانت المسافات ضئيلة بوداعِ ابنتها : الله يهنيك يا يمـه و يحرسك بعينه اللي ماتنام
هيفاء : آمين . . .
إتجهوا نحو الصالـة المنزويـة في القاعة بقُرب الباب الرئيسي، سمعت أصواتهم الخشنـة التي تنبأ عن قُربهم . .
أغمضت عينيْها بنفسٍ عميق تستجمع قوتها، لتفتحها على ملامح يوسف، اقترب منها وقبَّل رأسها: مبرووك يالشينة
هيفاء تهمسُ بقرب إذنه: على الأقل أجبر خاطري بكلمة حلوة
يوسف بضحكة : مبروووووووك يا هلي أنتِ . . يا بعد طوايفي!
هيفاء إبتسمت بعناقها الحميمي معه: الله يبارك فيك
يُوسف بضحكات السعادة التي تشاركها معها، رفعها قليلاً عن مستوى الأرض ليُردف وهو يرفع عينيْه إليْها : الله يهنيكم يارب ويرزقكم الذرية الصالحة
هيفاء بدمعتيْن مرتعشتيْن همسَت : آمين
ابتعد يوسف ليُتيح المجال لمنصور الذي قبَّلها على جبينها بعُمق الحب والسعادة في قلبه: مبروك يا روح أخوك، الله يهنيكم ويوفقكم
هيفاء أضاء الدمع في محجرها : الله يبارك فيك . . وين أبوي؟
يوسف : بيجي الحين مع فيصل
منصور اقترب من والدته ليُقبِّل رأسها: ورينا إبتسامتك؟ مفروض الحين السعادة مو شايلتك
إلتفت يوسف عليهما ليُردف بخُطى مقتربـة : لا ما تسويها ريّانة وتبكي!!
ضربته بخفَّة على كتفِه ليبتسم حتى بانت أسنانه، قبَّل جبينها وهو يعانقها، بخفُوت : وش دعوى يالغالية تبكين؟ يكفيها دعواتِك وتجيها السعادة كاش! . . بس لا تضيقين صدرك
ابتعد قليلاً للخلف ليسمع أصوات الغنَاء تضجّ بين الجدران، بفرح غامر أخذ والدته ليُراقصها ويغنِّي لها، رفع " عقاله " ليُشاركه منصور ليرتفع سقف شاهق من الفرح والسعادة، دخلت ريم لتتسع إبتسامتها عندما رأتهم، هذه الفرحة مغريـة للتجسيد،للرسم،للكتابة،للتصوير، لكل الأشياء الجميلة، مغريـة جدًا بأن تكون كالوسم في صدورنا، لا شيء أعمق من عاطفـة العائلة إن اجتمعت، لا شيء أسعدُ من ضحكاتهم و جديلة الفرح المعقودة على رأسِ أمي، خفتت الأصوات لتجلس والدتهم بسعادة لا تُقدَّر بمقدار.
ريم بنشوة الفرح: ما بعد جوّ؟
يوسف: للحين تلقينهم بالزفّة انا ومنصور قلنا نجي قبلهم . . تعالي بس صورينا
ريم: لحظة . . أخذت الكاميرَا لتثبتها على الطاولة وهي تضع علبة المناديل تحتها، وضعت المؤقت لتهرول سريعًا نحو " الكوشـة " انزلقت ليمسكها يوسف وعلى صدى ضحكاته العاليَة إلتقطت الصورة.
والدتها : بسم الله عليك!
ريم بهيستريَة ضحك : رجلي ما عاد أحس فيها!
يوسف جلس بإستنزاف الضحك: عز الله أنه وجهك ينقص حظ الواحد!
ريم رفعت نفسَها لتقف بثبات: إيه طقطق عليّ هالمرّة مسموح!
يوسف رفع حاجبه بإبتزاز واضح: طبعا مسموح!
ريم شتت نظراتها بحرج لتُردف: طيب يالله بسرعة روح أنت أضغط على الزر اللي على اليمين عشان نصوّر قبل لا يجون
منصور مسح وجهه من الضحك الذي غرق به: قسم بالله عايلة محششة! . . أخلصوا يالله
يوسف ضغط الزر ليقف بجانب هيفاء و الإبتسامات الزهريـَة تُجمِّدها " لقطة ".
ريم تنظر لجمُود هيفاء لتلفظ : هيوف بلعت العافية!
يوسف يُشير بيدِه أمامها: بوعيْك؟
هيفاء بضياعٍ تام: إيه
يوسف بإبتسامة : ريلاكس . .
هيفاء تنهدَّت : أحس بيغمى عليّ
يوسف: أصبري بس دقيقتين وأغمي على صدره
والدته : يوسف!!! . . لا توترها
يوسف بإبتسامة: نمزح! . . هيفا طالعيني . . . نظرت إليْه ليُكمل . . الحين الواحد كم مرّة بيفرح مثل هالليلة؟ حرام تضيع بتوتر وضيق؟ أفرحي يا بنت عبدالله ولو تبين ارقصي! . .
هيفاء ابتسمت لتُردف وهي تتنهد لتهدئة رعشاتها: طيب . . طيب
منصُور : جوّ . .
ريم : لحظة بطلع . .
يوسف إبتسم لها إبتسامة ذات معنى حميمي عميق، إبتسامة تُسكِن رعشاتها وتُطمئنها، إبتسامـة أخويـة علوِّها شاهق.
دخل والدها وعينيْها تضيعُ بالأقدام والأرض، اقترب منها ليقبِّل رأسها: مبروووك . . الله يهنيك يا يبه ويحفظك بعينه
هيفاء رمشت لتسقط دمعة جاهدت أن تحبسها في محجرها، برجفة صوتها: الله يبارك فيك . . قبَّلت رأسه بوضعٍ لا تعرف كيف تصف مشاعرها.
سقطت عينها عليه لتُشتتها بعيدًا، مسك عبدالله يدِ فيصل بحنيـةِ الوالد الغائب: الله يهنيكم ويرزقكم الذرية الصالح
بإبتسامة صاخبة تُقيم أعراسًا في قلب هيفاء، أتى صوتُه المُسكِر : اللهم آمين . . إلتفت نحو أم منصور ليقبِّل رأسها.
أم منصور : مبروووك يا فيصل منك المال ومنها العيال
فيصل : الله يبارك فيك . .
ارتعش للحظة وهو يقترب من هيفَاء، تجمدَّت أطرافه ليُثبت أنظاره بإتجاهه، عيناه تخذله ولا تنظر إليْها، تشتت بملامح الجميع عداها، بإبتسامة جعلت أمر الكلمات صعبـَة، نطق بعُمق الربكـة: مبرووك
هيفاء بعد ثواني طويلة همست بخفُوت : الله يبارك فيـ . . فيك
لحظاتٍ طويلة كان الصخب في كل مكان عدا قلبيهمَـا، صُمَّت أسماعهما أمام تصاعد الفرح، صمتٌ ينام على شفاههم و كلمات المباركة تتهاتفُ عليهما، تمرُ الدقيقة تلو الضحكَة، وتمرُ الثانيـة تلو الرعشـة، تتكاثرُ الدقائِق وتزداد ربكتهُما.
توقعت أن لا ارتبك، أن لا تضيع الكلمات من حافـةِ شفاهي! ظننتُ أنني بمزاجيـة جيِّدة لحفل زفاف لا أكثر، ظننتُ هذا حتى وقفت أمامها، أُدرك أنه أسأت الظن بحجم دهشـتي والفرح المنصَّب في قلبي، أنا على يقينٍ تام أنني سعيد فوق كل الكلمات المختصرة والمنضبة على أمرها، سعيد جدًا بعينيْها.
خلَت الصالة المتوسطـة بحجمها مقارنـةً بصالة الفرح الرئيسية التي يقف عليها أحبابهم، دخلت ريف المهرولـة بعبث فستانها القصير، أنحنى إليها فيصَل ليرفعها ويغرق ملامحها البيضَاء بقُبلاته.
همست بشغب: مبروووك
ضحك بنبرةِ صوتها الناعمة التي تلفظ الكلمات بطريقة التسميع : الله يبارك في الشيخة ويخليها
إبتسمت لتنظر لطرفِ بشته الأسود بذهول عقلها الذي يكتشف رداءً جديدًا، من خلفها والدتها، اقتربت منه ليعانقها بقُبلة عميقة على رأسها.
: مبروووك يا يمه
فيصل: الله يبارك فيك
أبعدها حتى ينظرُ لعينيْها المكتظة بالدمع، بإبتسامة: وش قلنا؟
والدته بلعت غصتها لتُردف بإبتسامة فسيحة: الله يوفقكم يارب ويهنيكم . . اقتربت من هيفاء التي تنصهر بحرارة جسدها المرتفعة تدريجيًا، عانقتها لتمتص رجفة جسدها.
،
في ساعاتِ الليل الأولى بأقصى بقاع الأرض، مُستلقي على السرير بملامح الأموات الشاحبة الباردة، ينتظرُ بصيص أمل في الحياة ولكن لا إنتظار يكسبُ به.
جلس الدكتُور ذو الجنسيـةِ الكويتيـة بمُقابله: شلونك اليوم يا تركي؟
تركي : تمام
الدكتور: عارف أنه ماهو مسجّلة هالليلة في مواعيدنا! بس تدري يا تركي أنا أحس بمسؤولية إتجاهك خصوصًا! يمكن عشانك سعودي وقريب مني! وممكن لأني ماني راضي على حالك ولا راح أرضى . . . اشرح لي شلون تمام؟
تُركي بضيق الكرة الأرضيـة المتحشرجة في صدره : ماني تمام! . . أنا اشتقت لها ليه ماتفهموني!!! أنا ما أبي أضرّها . . والله ما أبي أسوي لها شي . . أبيها سعيدة دايم
الدكتور: و الضرر في داخلك وش تفسره؟
تركي: ما أبي أبكيها
الدكتور: بس أنت بجيتها؟ صح؟ *بكيتها*
تركي: هي تفهمني غلط
الدكتور: لأنك كسرتها . . تصوَّر معي لو رجعت لورى! ليوم الحادثة! . . بتسوي نفس اللي سويته؟
تركي: لا
الدكتور: يعني أنت معترف أنك غلطت! والإعتراف هو بداية التصحيح . . يا تركي أفهم شي واحد المسألة ماهي غلط في دينك وفي بيئتك بس؟ هالمسألة فطرية! غلط في كل حضارات هالعالم من أنخلقت البشرية! . . كيف تشوف واحد ينجذب لأمه؟ يشتهي أخته؟ . . غلط هالشي يا تركي ولا لأ؟ حتى أكثر المجتمعات تحرر ما تقبل بهالشي! فكيف بديننا؟ . .
تركي بحُرقة صدره الذي يشتعل: أنا أحبها! أبيها دايم قدامي! بس أسمع صوتها!! . . ارتاح لما أشوفها يا دكتور ياسر
ياسر: إبن تيمية رحمه الله قال كل من أحب شيئا لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه . . محد بيساعدك بعد الله الا نفسك . . حاور نفسِك وشوف أنت شنو اللي تبي توصله؟ .. حُبك ماهو لله وكل شي ماهو لله مخالف للفطرة الصحيحة . . أنت أنخلقت وفي داخلك إنتماء للي خلقك، وكل أعمالك هي نابعة من إنتماءك للخالق! أنت ليه تصلي؟ ليه تصوم؟ ليه تستغفر؟ ليه وليه أشياء كثيرة؟ كلها بسبب واحد اللي هو رضا الله . . رضا من خلقك . . تخيَّل معي أنك تعزم شخص لبيتك وتكرمه وتضيّفه لكن بعد فترة يجحدِك ويبدأ يسيء بأفعال كثيرة ممكن ما تنتقص منك شي بس تضايقك لأنك قدمت له أشياء كثيرة لكن هو ما قدَّرها! . .ولله المثل الأعلى! كيف ببساطة تجحد سنين من عُمرك رزقك فيها الله الأكل واللبس والأمان والإستقرار! . . كيف تجحدها يا تركي؟ انا أكلمك الحين بمبدأ فطرِي . . بعيدًا عن تصرفاتك اللي طافت!
تُركي بلا جواب ينظر للنافذة التي يتساقط عليها الثلجُ بكثرَة، ياسِر : أنا ماأقولك غيّر نفسك بيوم وليلة، ما اقولك خلاص لا تحب هالإنسانة! . . أنا أبيك توقف وقفة صادقة مع نفسك اللي بكرا راح تحاسب عليها! . . خلني أعطيك إياها على بلاطة على قولتكم في السعودية . . أنا ممكن ما قدّمت شي في حياتي صالح! لكن مستحيل مستحييل أحد يرضى يعيش بعكس فطرته . . طيب خلاص تبي تعيش على هواك! ماعندي مشكلة عِيش مثل ماتبي لكن هل أنت سعيد؟ . . مو سعيد يعني شنو اللي استفدته؟ . . قاعد تتعذَّب! لكن تصوّر لو كان هذا حُب عفيف من إنسانة ما تحرم عليك! . . يا تركي أبي أوصلك شي واحد . . أننا احنا كلنا نغلط . . أنا غلطت في حياتي وأنت غلطت وكلنا غلطنا! لكن خيرنا التوابين . . . . أنت دمرت نفسك! ودمرت علاقتك بأهلك كلهم! . . ونفسك توّ تقول لو يعيد الوقت نفسه مستحيل تكرر فعلتك . . يا تُركي أنت قادر! الله عطاك نعم ماعطاها لغيرك . . شدّ على نفسك شويّ وجدد وصلك بالله . . وكل أمورك بتتسهَّل وماراح تحتاج لا لدكتور ولا غيره . .
تسقط دمعة حارِقة من محجر عينِه اليسرى دُون أن يخرج صوتـِه بكلمة، يتعذبُ بحبها وبإشتياقه لها.
ياسر: خذيت لك إذن من المستشفى! . . بكرا راح آخذك لمكان تغيّر جو فيه ونفضفض شويّ . . تمام؟
تُركي بصوتٍ مخنوق : والله العظيم أني فرحت لما حفظت القرآن . . والله العظيم ما أبي أضرّها
ياسر وقف ليقترب إليْه : وأنا والله العظيم مصدقك . . وراح تفرح أنا متأكد لما تعرف أنك صححت نفسك!!
،
يُقطِّع البرتقالة بسكينٍ حاد ليرفع عينيْه : حمار! ماعليك شرهة
أنس: أنا وش يدريني! قلت ناصر واضح بالصور مايحتاج أكتب تلميح عنه . . يكفي بوسعود
عُمر: كِذا ولا كِذا الحين بتلقى عبدالعزيز أنهبل!!! بيشك في ناصِر وساعتها ..
يتصنع النبرة الطفولية بخبث ليُكمل : نتصل ونقول تعالوا يا جماعة! لقينا القاتل يدور في الشوارع
أنس بضحكة : عاد لو يجيب أحسن محامي ماراح يطلع من هالقضيَة! كل الأدلة تدينه . . بيخيس في السجن لين يقوده الشيب!
عُمر يُلحن الكلمات : و بيتفككون! . .
دخل أسامـة لينظر إليهما بتقزز: وين سليمان؟
عُمر: وش فيك تكلمنا من طرف خشمك؟
أسامة يجلس بمُقابله ليسحب جزء من البرتقال ويمضغه : احس رائد شاك فيني مع أنه ما تصرف بأيّ شي يخليني اشك بس كلامه معي يشككني
عمر : اللي على راسه بطحا يحسس عليها! . .
أسامة : مانيب ناقصك . . وين سليمان؟
أنس: فوق . . ما قلنا لك وش سوينا؟ . . أرسلنا صور يحبها قلبك لعبدالعزيز وكتبنا له بعد
عُمر : أنت اللي كتبت له لا تجمعني معك !
أنس تنهَّد : المهم خليناه يولِّع وراح يشبها قريب في بوسعود وسلطان . . عرف عن موضوع أخته
أسامة لاحت إبتسامته : وش هالأخبار الحلوة؟ . . وسليمان يدري؟
أنس : لا بنبلغه بس هو حاط عليّ أنا و عُمر فخلنا مؤدبين هالفترة قدامه
أسامة : وخله يدري والله ثم والله لا يجيب أجلك أنت وياه! . . مهبّل تتصرفون من كيفكم!
عُمر تأفأف ليستلقي على الأريكة: أكرمنا بسكوتك وخلني أستمتع بروقاني! . . أحمد ربِّك ماجبت معي بنته
أسامة رفع حاجبه : بنته!
أنس بحماس : بنت بوسعود الثانية كانت موجودة و زوجته بعد
أسامة : بنته اللي هي زوجة عبدالعزيز؟ أنهبلتوا!!!
عُمر : لمحتها بس مدري هي ولا زوجته . . بس زينهم والله من زين أبوهم! ولا اللي يشوف عبدالرحمن وش يقول؟ . . سبحان الله يخي فيه ناس مهما يكبرون تبقى أشكالهم ثابتة وشباب . .
أسامة: لمحتها! وفصلتها تفصيل ماشاء لله على عيونك
عُمر : أصلاً هم ما يطلعون من البيت . . بس يوم غيّرت مكاني ورحت ورى شفتها وهي داخلة! . .
أسامة : وشسمها ذي اللي جابها فارس! بنته الثانية بعد تشبه أبوها!
أنس: قضت السوالف صرتوا تسولفون بأشكال الحريم بعد!
عُمر: خلنا نتمتع يا حبك للنكد! . . كيف شكلها بنته اللي عند رائد؟
أسامة : شفتها مرة وحدة! ما ركزت بس تشبه أبوها . . نفس عيونه
عُمر : والله شكلها بنته اللي شفتها! . . تخصص عيون . . هي وين راحت مع فارس؟
أسامة بعصبية: مدري عنه هالكلب! . . أنا مستغل حالة حمد الحين أبيه يخرب بينه وبين الكلبة اللي معه بعد
عُمر بضحكة: وش فيك خربتها! توّك محترم صارت الحين كلبة!
أسامة : أنت ماتدري! يقولك أبو سعود معلِّم بناته على الرمي والفروسيـة بعد! ماتشوف مزرعته كنك داخل ساحة حرب!! . . أنا أحس بنته ذي اللي مع فارس وراها شي! . . مستحيل فارس كِذا يشك فيني! لأنه كان نايم وأنا متأكد أنه نايم
عُمر : والله عاد الحين يا ولد أبوك مستحيل تتعدل علاقتك مع فارس! شاك فيك شاك! ولا وصل شكه لرائد منت معيّن خير
أسامة : حمار أنت! مو المشكلة صارت قدام رائد بس ما شك ولا قال شي لأن دايم فارس يتبلى علينا يعني متعوّد
عُمر رفع حاجبيْه بإستغراب: رائد مو غبي! . . والله مدري يخي حتى بناته شقَا الله يآخذهم
أسامة : بس أنت ملاحظ معي! بناته كلهم الله معذبهم! . . إثنينتهم تزوجوا بدون رضاه!!!
عُمر : والله ياأني ذيك الليلة مانمت من الوناسة! أنا يوم عرفت منك أنه عبدالعزيز قال لرائد أنه زوجته وأنا قايل بتصير مصايب قومية بينهم! . .
أسامة: أصلاً هذا الموقف اللي تقربت فيه لفارس وعلمته قلت كود يحبني! بس جحدني الكلب عقبها!!
عُمر : لأن فارس داهية! والله داهية وقلت لك إذا أنت تفكر بعقل واحد هو يفكر بعقلين الله يآخذه أخذ عزيزٍ مقتدر!!! . . قسم بالله مب صاحي! تحسه يتعاون مع الجن! كل شي يعرفه . . كل شي يدري فيه قبل أبوه . . المشكلة أنا مايخوفني الا سكوته .... ذولي اللي يجونك هاديين وكلامهم قليل يرعبون يخي! . .
أسامة : أنا بس آمنت بشي واحد من عقبه! أنه الواحد مفروض ما يخاف من الناس الأذكياء واللي يبينون ذكاءهم مفروض يخاف من الناس اللي يبيّنون غباءهم! . . ماتوقعت أنه فارس بهالصورة الوحشية يا رجل!!
عُمر : والله أني قلت لك من سنة جدي! أنه فارس شيطان مثل أبوه وألعن!
أسامة: يالله هذانا استفدنا من هالدرس! عشان ثاني مرة نفتح عيوننا على اللي مسوين نفسهم مايدرون وين الله حاطهم!!
عُمر : تدري وش طينته؟ نفس عبدالعزيز لكن عبدالعزيز يآكلك بلسانه أما ذا هادي وهدوءه يخوّف! . .
أسامة ضحك وهو يسترجع موقف عبدالعزيز مع رائد : الله لا يحطك في لسان عبدالعزيز! ما شفته يوم هرب من رائد . . مسح فيه البلاط ..
عُمر بحسرة : آآآخ ليتني كنت موجود! لين يومك ذا وأنا متحسف ودي أشوف وش سوَّا فيكم!
أسامة: وذا اللي هامك! قلبي كان حاسّ أنهم ما اختاروا عبدالعزيز عبث! لعنبو إبليسه قدر يهرب مننا كلنا!
عُمر : لأنكم حمير مع كامل عدم إحترامي!! .. هو وفارس شياطين الله يآخذهم بحريقة تحلل جثثهم
،
الساعـة تُقارب للثالثة فجرًا بتوقيت الرياض الناعسـة، وقفت خلف الباب كثيرًا، ترددت بفتحه للحظات طويلة لتعود بخطواتها للخلف، نظرت لنفسها بالمرآة، بربكـة أخذت شعرها المنسدل على كتفيْها لجانبٍ واحد، اقتربت من باب الغرفـة وهي لا تعرف كيف تخرج بثبات، مرَّت ساعة كاملة على كلمته الأخيرة " بنتظرك هنا " ، لابُد أن إنتظاره طال ولا بُد أن العشاء قد تجمَّد بالبرودة أيضًا، يارب.
تنفست بعُمق لتفتحه، نظرت للجناح الذي يبدُو فارغـًا، إلتفتت لتبحث عنه بعينيْه ولم تراه، بخُطى خافتة اقتربت للجانب الآخر من الجناح لترآه يُصلي.
تراجعت للخلف لتعود للصالـة، جلست على الأريكة وهي تنتصب بظهرها متظاهرة بأنها لم تراه، جمعت كفيَّها في حُجرها لتثبت أنظارها على الطاولـة. شعَرت بأن اللحظات تنخفضُ حرارتها.
سلَّم فيصل من صلاته ليقرأ بعض الأذكار التي يحفظها عن ظهر غيب، غرق بتفكيره وهو جالس على السجادة، يشغلُ فضولـه كيف من الممكن أن المكياج يغيِّر لونها بهذه الصورة؟ قبل فترة كانت سمرَاء فاتـنة والآن بيضاء أشدُ فتنـة. قرَن كل تساؤلاته بأنَّ كل هذه أدوات المرأة الخارقة التي لا يفهم منها شيء، وقف ليطوِ السجادة ويضعها على الطاولة، تنهَّد بعُمق ليتجه بخُطاه وتسقط عينيْه عليها، وقف وهو يتأملها من الخلف، غاصت نظراته بشعرها المموَّج الذي تُحركه بأصابعه مرةً لليمين ومرةً لليسار، تبدُو الربكة واضحة من رعشة أصابعها التي تتلاعبُ بخصَلِ شعرها، دقيق جدًا لأبسطِ التفاصيل، للقرط الذهبي الناعم الذي يُزيِّن لحمةُ إذنها، للسلسال الذي يُقيِّد معصمها اليمين، لأنفاسها المضطربـة التي يصِلُ صداها نحوه، تنحنح ليتقدم بخُطاه المتوترة أكثر منها، أصطدم فكيّها بربكة دُون أن ترفع عينيْه نحوه.
فيصل لا يعلم ما سر الضحكة التي أقتربت من شفاه، حبسها في داخله خشية من أن يُقال عنه " قليل ذوق "، توتَّر ولا يعرف ماذا يقول : آ . . حكّ عوارضـه القصيرة المرتبـة . . آآ . . خلينا نتعشى!
هيفاء شدَّت على شفتها السفليَة حتى لا تفلتُ منها إبتسامة بمسماها " قليلة حياء "
فيصل وقف ليأخذ كوب الماء الذي أمامه ويشربه بدفعة واحِدة، إتجه نحو الطاولة التي تتوسط المكان ليعود للخلف فهو يُدرك تمامًا من الذوق أن تتقدم النساء أولاً، هيفاء تنحنحت هي الأخرى من التوتر الكبير الذي يُصيبها، جلست بمُقابله ولا صوت يصدر منهما ولا من الأطباق التي أمامهما.
فيصل تمتم: أستغفر الله . . مسح على وجهه ليرفع عينه إليْها . . تمنى لو لم يعتمد على نفسه بهذا الأمر، لم يتوقع ولا لـ 1% أنه سيحصل على كل هذه الربكـة والتوتر، في داخله أجزم بأنه كان يحتاج أن يستمع لنصائح يوسف حتى لو أتت " حقيرة " بمفهومه.
بعفويـة : معليش بس ماني متعوَّد
هيفاء حبست ضحكتها من الربكة ليخرج صوتٌ بسيط ينبؤ عن حبس هذه الضحكة.
فيصل إبتسم بلا حول ولا قوة ليُردف : أقصد . . تنحنح قليلاً . . يعني . . وش رايك نآكل ؟
هيفاء رُغمًا عنها أفلتت إبتسامة ناعمة على محيَّاها دُون أن تضع عينها بعينيْه.
فيصل يشرب كأس الماء الثاني بدفعة واحِدة.
هيفاء أخذت كأس الماء لتشرب رُبعه تُخفي به حرارة الربكة .. مرَّت الدقائق الطويلة دُون أيّ صوتٍ يذكر سوى إصطدام الملاعق بالأطباق، لا حديث يُجرى بينهما وسط ربكـة تامة تصِل لأقصى مدى.
فيصل رفع عيناه إليْها ليسرَح بها، أطال النظر وغرق بتفكيره، حتى شعرت بنظراته المصوَّبة بإتجاهها، إلتقت عيناها بعينيْه وسُرعان ما شتتها.
حسّ على نفسه ليضع ذراعه على الكرسي الفارغ الذي بجانبـه: فيك النوم؟
رفعت عينيْها بدهـشة أحمرَّ بها جسدها بأكمله، أخفضت نظرها باللحظة التي أندفعت ضرباتُ قلبها إتجاه صدرها بقوَّة.
فيصل تشنجت شفتيْه التي أفترقتَا بمسافةٍ قصيرة : آآ . .مو قصدي .. أقصد قلت عشان . . نجلس بس هذا كان قصدي . . أنه يعني إذا مرهقة وكذا
صمتَا لثواني طويلة ليُردف بخيبة أمل كبيرة في تصرفاته التي تأتِ بالمعنى النجدي البحت " جاب العيد " : أنا آسف . .
هيفاء بلعت ريقها بصعُوبـة، لتقف: عن إذنك . . إتجهت نحو المغاسل.
فيصل تنهَّد ليمسح على وجهه بلومٍ لاذع لقلبه، سمع صوت المغسلة التي خلفه دُون أن يلتفت، حسّ بوقاحته للحظة.
أخذت نفس عميق وهي تمسح يديْها بالمناديل الورقيـة، وضعت يدها على خدِها المشتعل بالحرارة، اقتربت بخُطاها نحوه لتعود لمكانها، أخذت كأس الماء لتشرب نصفِه برعشة تامة.
فيصل بدأ يُحرِّك الشوكة بطبقه دُون أن يأكل لقمة واحدة، تفكيره ينحصر بدائرة واحدة هذه اللحظة " كيف أقول جملة مفيدة؟ "، أيقنت أن ليلة الزواج مُربكـة لأشدِ الرجال. لم يرفع عينيْه منذُ جلست.
ودّ لو يحدثُ أيّ شيء أمامه حتى يتكلم عنه ويخترع بدايـةٍ للدردشـة، " ليلنا طويل يا هيفاء ".
اقترب أذان الفجر ولم يفتحَا أيّ حديثٍ تندمج به أصواتهما. تنهَّد ليجذب عينيّ هيفاء ناحيته، فيصل بإتزانٍ أكثر: سولفي لي عن إهتماماتك!
هيفاء بلعت ريقها لتُردف بشعورها القريب جدًا منه، تُدرك حجم ربكته المندرجة بين شفتيْه : آآ . . مدري
فيصل حك جبينه للحظة لينظر إلى عينيْها المضيئتيْن، استغرق تفكيره بها ليُردف : وش تحبين؟ . . وش ميولك يعني؟
هيفاء تشعر بغباءٍ شديد من أنها لا تميل لشيء : بصراحة . . يعني . . مافيه شي معيّن
فيصل : يعني أنا أحب الشعر . .تحبين الشعر؟
هيفاء لا تعلم أيّ إجابة يجب أن تُجيب بها حتى تظهر بمظهر لائق: الشِعر! . . عادي . . يعني . . *تنحنحت لتُكمل* . . أقرأ أحيانا
فيصل : مين تفضلين من الشعراء؟
هيفاء شعرت بورطة حقيقية، لا تحفظ ولا إسم، بدأت تسترجع ذاكرتها أيّ إسم لتُردف : سعود الفيصل . . بدر عبدالمحسن
فيصل بإبتسامة: قصدِك خالد الفيصل
هيفاء تجمدَّت بمكانها من حُمرة/حرارة اندفعت بوجهها، بلعت شفتِها السفليَة من شدِّها العنيفُ عليها، نظرت لكل الأشياء امامها عداه، مسكت قرطها الناعم بتوتر: لخبطت بالإسم
فيصل إبتسم ليحبس ضحكة عميقة في جوفه، أردف: وش بعد؟
هيفاء بإحراج شديد : بس
فيصل : ما تسمعين فصيح؟
هيفاء أدركت فعليًا أنه له ثقافة واسعة بالشِعر تجعلها لا تُفكر بأن تكذب عليه بكلمة : لا
فيصل : و وش تميلين له بعد؟
هيفاء بتوتر تنطق الكلمة بثواني طويلة: ماعندي ميول معيَّن، يعني أشياء كثيرة تجذبني
فيصل بإستدراج لمعرفـة ميولها الفكريـة : وش كانت مشاريعك بالجامعة؟
هيفاء فعليًا شعرت بأنها فاشلة مع مرتبة الشرف أمام توجهاتِ عقله لتُردف ببلاهة : ولا شي
فيصل صمت للحظة ليُردف : ما سويتي شي بالجامعة؟ يعني معارض أشياء زي كذا!
هيفاء : يعني ماكان فيه مشاريع بجامعتنا وكذا . .
فيصل : و متى مفكرة بالوظيفة؟
هيفاء بلعت ريقها : آ . . يعني . . قريب إن شاء الله ببدأ أبحث لأن أكيد ما أحب الفراغ
فيصل : حلو! أشترك معك بهالصفة أكره الفراغ بشكل فظيع
هيفاء أكتفت بإبتسامة بسيطة وهي في داخلها تعلم أنه ثلاث أرباع عُمرها قضته فارغة والربع الآخر قضته بتفكيرها كيف تحول أوقاتها لفراغ.
فيصل : تحبين فن الكولاج؟
هيفاء تجمدت ملامحها ليُردف حتى لا يُحرجها : الكولاج بالصور . . يعني تلصقين أشياء مع بعضها وكذا
هيفاء بصراحة تامة حتى لا تُحرج نفسها أمامه أكثر : ما أعرفه . .
فيصل : إذا جينا بيتنا بوريك غرفة أنا مضبط جدرانها بالكولاج بصور قديمة لي ولأبوي الله يرحمه وللعايلة
هيفاء: الله يرحمه . .
فيصل : آمين . .
هيفاء استغلت شروده لتتأمله بخفُوت وهي ترفع عينيْها ببطء نحوه، نظر إليها لتضع عينيها على يدِه وهي تضع يدها على رقبتها بحركاتٍ لاإرادية/غير مفهومة.
تسلل صوتُ الأذان الرطِب إلى أسماعهم، " حيّ على الفلاح ، حيّ على الصلاة " كيميَاء النَفس التي تنجذبُ للفلاح لا بُد أن طريقها : صلاة.
فيصل وقف متجهًا نحو المغاسل، إغتسَل ليتوضأ دُون أن ينطق كلمة أخرى، ثواني طويلة أستغرقها مثل ما استغرقتها هيفاء في النظر إليـْه و تأملُ أدق تفاصيله. تنهَّد متجهًا نحو الأريكة التي وضع عليها شماغه، إرتداه وهو يغلق أزارير كمه، وقف خلفها لثواني طويلة يحاول أن يكوّن في عقله " جملة لطيفة " ، وقفت لتلتفت نحوه، برجفة أسنانها: تقبَّل الله.
فيصل : منا ومنك صالح الاعمال .. . خرج من الجناح ليتجه نحو المصاعد الساكِنة في مثل هذا الوقت.
هيفاء ضحكت بصخب بلا داعٍ ولا سبب، لا تفهم أيّ شيء من تصرفاتها. إبتسمت لتُمتم : وش أحس فيه!! . . إتجهت نحو المرآة لتنظر إلى نفسها وهي تتلاعب بملامحها وترفع حواجبها لحظة وتلوي فمها لحظةً اخرى، شدَّت على أسنانها لتُخرج أصواتًا بلسانها. – هيستريَة الفرح -.
رسمَت شخابيط لامُنتهية على الورقـة البيضاء، لتُردف بخيبة: وش نسوي؟
ضي المستلقية على ظهرها تنظر للسقف الخشبي: شويّة حظ وتضبط علاقتكم
رتيل بتنهيدة: هالحظ شكلي بموت ولا شفته! . . من دخل غرفته ما طلع! ودِّي أروح أشوفه بس ما أحب أبيّن له إهتمامي
ضي : تعلّمي فن التنازلات
رتيل بإبتسامة: بتعلم منك أنتِ وأبوي
ضي بحالمية عاشقة : يا زين الطاري . . ليت أبوك عندنا الحين.
رتيل تُكمل شخبطتها على الورق : أنا أفكر بأيش وأنتِ بأيش!! تتوقعين نام؟
ضي: لا . . روحي له . . بعدين أثير هالفترة ماهي عنده يعني مفروض تخلينه يتعلق فيك
رتيل: شفتي! تجيبين طاريها ويجيني غثيان! أتوقع يكلمها أكيد أتصل عليها!! . . حيوانة
ضي بضحكة: أهم شي حيوانة!!
رتيل: والله حيوانة تقهرني! . . تذكرين يوم بالمستشفى! آآآخ يا قلبي كل ما أتذكر السالفة أحس ودي أذبحها أقطّعها بأسناني
ضي: المشكلة انك أنتِ اللي قهرتيها
رتيل: بس للحين قاهرتني! . . يعني شوفي أنا ماني حاقدة
ضي أغمضت عينيْها من شدَّة الضحك لتنجرف رتيل رُغمًا عنها بضحكة خافتة.
رتيل : أستغفر الله! جد أتكلم يعني والله ماني حاقدة كثيير . . يعني حاقدة شوي بس لما أفكر هي مالها ذنب! زوجته ولها حق فيه . . بس أنا كارهتها! اكتشفت أني أغار لدرجة أكره بعنف
ضي بهمس سمعت صوتٌ بالخارج: تلقينه برا . . روحي له
رتيل: قلت لك ماأحب أروح بنفسي . .
ضي بسخرية: أجل انتظريه يعزمك . . والله رتيل أنتِ تضيعين نفسك وتضيعينه معاك! . . خليك معه دايم وحسسيه بوجودك عشان ما يتجرأ يبعد لأنه بيكون متعوّد على وجودك
رتيل تنهدَّت لتقف: شكلي كويس؟
ضي بضحكة : مُزَّة
رتيل نظرت إليها بغضب لتُردف: كم عُمرك وعَادِك تتهيبلين
ضي: آخر وحدة تتكلم عن العقل أنتِ
رتيل إبتسمت لتبتر غضبها: ماشاء الله على أبوي كل الماضي الوصخ قاله لك . . . إتجهت للخارج ولمحته جالس بعيدًا وغارق بتفكيره : أخاف أزعجه
ضي: أجلسي ولا تتكلمين بس وجودك جمبه يكفي.
أخذت نفس عميق لتخرج بخُطى ثابتة، جلست بجانبه دُون أن تتفوه بكلمة واحِدة، إلتفتت عليه لتنظر لملامحه الشاحبة والمشحونة بالوقت ذاته.
رتيل: وش فيه وجهك؟
عبدالعزيز بهدُوء: ولا شي . . أدخلي لا تبردين
رتيل بعُقدة حاجبيْها: تعبان؟ ..
عبدالعزيز يخرج صوته المبحوح بوَجع: لا
رتيل تنهدت : عبدالعزيز لا تخوفني!
عبدالعزيز وقف: تصبحين على خير . . . وبخُطى حادَّة إتجه للجهةِ الأخرى، إلتفتت رتيل بدهشَة من تصرفه، إرتعش جفنُها من كلمتِه الحادة الباتِرة كل الكلمات العابرة على لسانها، تنهدَّت بضيق لتدخل: مدري وش فيه؟
إلتفتت ضي بنظراتٍ إستفهامية.
رتيل تشعرُ وكأن الأرض غصَّت بحنجرتها: فيه شي!! وجهها مخطوف وواضح تعبان بس ما خلاني أتكلم معه على طول قام!!!
ضي أستعدلت بجلستها: كان زين الصبح!
رتيل: طيب شوفي جوالك لقط شبكة!! .. يمكن أبوي يعرف
،
أشرقت الشمس في صباحات الشتاء الأولى، صباحُ الأجواء التي ترتفع برودتها ساعات حتى تسقط في حرٍ شديد.
فتح عينيْه لتتجعد ملامحه بضيق من نومِه على الكرسي المكتبي، أبعد ظهره المتصلِّب بإرهاق، بتنهيدة نظر إلى ساعته التي تُشير إلى الثامنة صباحًا.
وقف خارجًا من مكتبه، إلتفت لحصَة الجالِسة بسكينة وتقرأ إحدى المجلات. انتبهت عليه لترفع عينها بإستغراب: نايم هنا؟
سلطان بصوتٍ ناعس: ماحسيت على نفسي . . إتجه نحو الدرج كارهًا لهذا الصعود ولهذا البيت بأكمله، فتح باب غرفتهما لتسقط عينِه عليها وهي تُسرِّح شعرها. بربكة أنزلت المشط لترفع شعرها بأكمله كذيلِ حصان.
لم يُطيل بنظره كثيرًا حتى إتجه نحو الحمام، استغرق في إستحمامه دقائِق كثيرة وهو يفكر بأسوأ الإحتمالات التي تُفكِك حياته.
في جهةٍ أخرى جلست على الأريكـة لتغرق في تفكيرها به، ملامحه المُتعبة لا تعنيه وحده! هي تُرهقني أيضًا. كانت ستبطل كل مبادِئه لو عَلِم بحملي ولكن سَيبطُل إحترامي لنفسي، من أختار يا سلطان؟
شعرت برجفةِ جفنها، كيف أُشفي إلتواء قلبي حول نفسه كُلما ذكر إسمك؟ كيف أشفيه منك؟ أنت جدَل مهما انتحلتُ به الإتزان، أضطربت.
خرج ليدخل للزاويـة الخاصة بملابسهما، ارتدى لبسه العسكري لينحني بلبسِه لحذاءه الثقيل، فتح الدرج ليأخذ حزامه وأنتبه لخلوِه من أغراضها، رفع عينِه للدولاب الآخر ليجده خاليًا تمامًا، إذن ستُغادر!
تنهَّد باللامبالاة ليخرج متجهًا نحو التسريحـة، ارتدى ساعته وعيناه تغرق بما خلفه، أخذ نظارته الشمسيَة ليخرج من الغرفـة دُون أن يهمس بحرفٍ واحد.
بمُجرد خروجـه سالت دمعة على خدها الشاحب، بقيْت بثباتها دُون أن تصدر منها حركة أو إيماءة، بلعت غصتها العالقة لترفع عينيْها للأعلى في محاولة هزيلة لإيقاف تجمع دموعها، كل شيء يرفض الغياب، حتى الدموع تُقيم ثورتها ضدنا.
إلتفتت نحو عائشة التي طرقت الباب، بإبتسامة بشوشة: بابا كبير تحت!
الجوهرة تنهدت: طيب جاية . . أخذت منديل لتضغط على عينيْها، نزلت للأسفل لتتجه نحو المجلس الخاص بالرجال، دخلت بخُطى سريعة نحوه، وقفت على أطراف أصابعها لتعانقه بشدَّة الحنين في صدرها و الحزن أيضًا.
مسح على رأسها: شلونك يبه؟
الجوهرة انهارت قوّاها لتبكِ على كتفه: ليه ماكلمتني؟ أوجعتني يبه
عبدالمحسن بضيق: لا تعتبين يا عيني، كنت متضايق يومها ومابغيت أكلمك وأضايقك معي
الجُوهرة ابعدت جسدها عنه لتنظر إليْه بتعرٍ تام من قوتها المزيفة: والحين؟
عبدالمحسن : دام شفتِك بخير الحمدلله
الجوهرة : وش ضايقك؟
عبدالمحسن تنهَّد ليجلس بجانبها: عبير بنت عمك عبدالرحمن
الجوهرة بخوف: وش فيها؟ . . رجعوا من باريس؟
عبدالمحسن بعتب : ليه ماتسألين عن بنات عمك يالجوهرة؟ منعزلة عننا وعن الكل! ما يصير كذا
الجوهرة شتت نظراتها بلا عذر يشفع لها: مقصرة
عبدالمحسن: كثيير . . حتى ريّان مارفعتي السماعة تكلمينه!! مهما يكون هذا أخوك
الجوهرة ببكاء عميق : مو قصدي والله! يبه لا تفكر أني حاقدة عليه ولا زعلانة منه!!! . . الحين قدامك أكلمه
عبدالمحسن: أنا ماأقول زعلانة منه!! بس أنتِ تبعدين عنّا يوم عن يوم!!
الجوهرة بعينيْها اللامعتيْن بالدمع: والله مو بيدي! صايرة أيامي من سيء للأسوأ . .
عبدالمحسن بعُقدة حاجبيْه : وش صار؟
الجوهرة بلعت ريقها لتلفظ بشحًوب: وصلنا لطريق مسدود أنا وياه
عبدالمحسن شتت نظراته بعيدًا دُون أن يعلق بكلمة.
الجوهرة إلتفتت عليه: برجع معك! جهزت أغراضي وهالمرة ما أظن راح أرجع له
عبدالمحسن نظر بعينيْها بصمتِه المُربك لحواسَّها التي تهيج بالدمع.
الجوهرة بضيق: ماراح تقول شي؟
عبدالمحسن: كم مرة تهاوشتوا ؟ كم مرة قررتوا تنفصلون؟
الجوهرة تُدخل كفيّها باكمامها وهي ترتعشُ بالبكاء، بنبرةٍ خنقت قلب والدها: وش أسوي يبه؟
عبدالمحسن: ليه أوجعتي قلبك فيه؟
رفعت عينيْها الذابلة، تجمدَّت بنظراتِ والدها الذي أكمل: أنا خايف عليك! ويضايقني أنك تتعلقين بأحد منتِ قادرة تتأقلمين معه
الجوهرة بحشرجة الحزن : ليه تقول كذا؟ والله حاولت . . . أنت شايف أني غلطت؟
عبدالمحسن: كلنا نغلط!
الجوهرة : طيب قولي! وجِّهني .. وش أسوي؟ . .
عبدالمحسن بحزنٍ بالغ، لا شيء أشد من هذا الحزن المارّ في صوته : أبي أفرح يالجوهرة . .
الجوهرة أخفضت نظرها لتغرق بكومة بكاء لا تنتهي، لم تستطع أن تحبس صوتُ أنينها المحترق في جوفها، بين حزنها المكتظ: خيبت أملك كثيير! ما سويت شي في حياتي يخليك تفرح وتفخر فيني! . . سحبها لصدره ليُوقف موجة كلماتها المضطربة: لا تقولين كذا . . أنا لابغيت أبتسم أتذكر اليوم اللي ختمتي فيه القرآن! هاليوم كان أسعد يوم في حياتي! . . . . أنا فخور فيك والله . . بس أبي أفرح لفرحك . . يوجعني أنه بنتي ماهي قادرة تعيش لنفسها! . .
بنبرةٍ خافتة موجعة أكمَل : لك الجنة وأنا أبوك
الجُوهرة ببحة: كل ماحاولت وكل ما قلت هانت! جاء شي جديد وخرّب كل شي . . والله ما أبي أنفصل عنه بس أحس خلاص . . . مهما طوّلنا مهما حاولنا بالنهاية طريقنا آخره طلاق . .
عبدالمحسن: كلمتيه؟
الجوهرة: أمس قالي
عبدالمحسن: ويدري أنك بترجعين معي!
صمتت لثواني طويلة حتى قطعها بصوتِه: أنتِ للحين على ذمته! ما يصير تطلعين بدون علمه
الجوهرة: بس أمس اتفقنا على الإنفصال يعني أكيد برجع
عبدالمحسن بلع ريقه بإستنزاف كبير لعاطفته الأبويـة : ولو كلميه . . مسح ملامحها الباكيَة بكفِّه ليبتسم : أنتظرك ما على تجهزين نفسك . . عشان يمدينا نوصل قبل صلاة الظهر الشرقية
الجوهرة: إن شاء الله . . خرجت لتتجه نحو غرفة حصَة، طرقت الباب لتدخل بتوتر، إبتسمت: صباح الخير
حصَة : صباح النور . . أبوك وصل؟
الجوهرة : إيه من شوي . . جلست بمُقابلها . . كلمك سلطان اليوم بشي؟
حصة بلهفة الشغف : قلتي له عن حملك؟
الجوهرة تحشرجت عينيْها بلهفتها لتُردف: لا . . ماراح أبلغه الحين
حصة بضيق: إلى متى؟ خلينا نفرح
الجوهرة : أمس تكلمنا . . قررنا ننفصل
حصة تجمدَّت بمكانها بدهشَة لا تسبقها دهشة، صمتت و ماتت الكلمات في جوفها.
الجُوهرة بربكة تُشتت نظراتها: والحين برجع مع أبوي وبآخذ أغراضي . . بس ما قلت له وماأبيه يفهم تصرفي أنه . . يعني . . كلميه
حصَة للحظات طويلة بقيت على حالها حتى لفظت: ليه؟ . . حرام اللي تسوونه!
الجوهرة : تعبانة من هالموضوع والله وماودِّي أتكلم فيه . . هو راضي وانا راضية
حصة بإنفعال : على مين تضحكون؟ أنتم ما شفتوا نظراتكم لبعض! . . ماراح أقول عشان خاطر هالعشرة البسيطة اللي بينكم بس أقول عشان خاطر الحب! . .
الجوهرة : أيّ حب واللي يسلمك!!! . . مانصلح لبعض يا حصة حتى لو حاولنا نبقى ما نصلح لبعض! مانستفيد من قربنا إلا تجريح لبعض!!
حصة بضيق يرتجفُ به جفنها: كل شي وله حل! . . دايم تتهاوشون! ودايم تجرحون بعض بس ترجعون! لأن أنتم نفسكم مؤمنين أنه مالكم الا بعض . . لا أنتِ تستاهلين ولا هو يستاهل! . . ليه دايم تفكرين بسلبية وبزواية وحدة؟
الجوهرة: لو تكلمتي مع سلطان راح يقولك نفس الكلام وهو واثق أنه كلامه واقع!
حصة: لا تسوين في نفسك كذا! تفكيرك ومنطقيْتك في الأمور ماراح تعطيك السعادة!! . . تنازلي شوي
الجوهرة بإختناق : طيب وهو؟ ليه ما يتنازل؟ ليه دايم أنا اللي لازم اتنازل!!! ..
حصة : وهو بيتنازل! أحلف بالله أنه سلطان معاك شخص ثاني!!! بس فكري! ليه هالإستعجال
الجوهرة بقهر تجهش بدموعها: وتبيني أكلمه وأقوله أنا ماأبي الطلاق! . . مو انا كرامتي منمسحة من تزوجته!! . . حطي نفسك مكاني! ترضين؟ .. هو ثارت شياطينه على كفّ إنمد لِك وأنا طيب؟ . . ولا أنا لي معاملة خاصة!
حصة تقف لتجلس بجانبها، عانقتها لتهمس: والله مو قصدي أنك تهينين نفسك عشانه! . . بس لو قلتي له عن حملك وش بتخسرين؟ ممكن تنحل أمور كثيرة
الجوهرة : ليه أجبره يعيش معاي! ليه أرمي نفسه عليه بحجة الحمل! . . هو ماراح يتعلق فيني بيتعلق عشان هالطفل! وأنا مقدر اتحمل أني اكون على الهامش دايم!!!!
حصة بضيق متوسِل: طيب لاتروحين اليوم! أجلسي بس اليوم لين يرجع وأكلمه
الجوهرة تُخفض نظرها لتسقط دمعتها الناعمة على خدِها: كلكم تقولون أجلسي وحاولوا تلقون حل! . . بس ما فكرتوا وش كثر أعاني! وش كثر موجوعة منه
حصَة: لأن الطلاق مو سهل! . . أنا عارفة أنكم تبون بعض بس تكابرون! . . وش تفيدكم هالمكابرة؟
الجوهرة: تفيدني أني أكسب نفسي اللي محاها سلطان
حصة: تبالغين يالجوهرة! سلطان حتى لو قسى تلقينه يتوجع أكثر منك
الجوهرة: مو قلتِ أنه شخص ثاني معاي؟ هالشخص الثاني لمَّا يقسى ما يرحم!
حصة: يعني مافيه أمل؟
الجوهرة تحشرجت صوتها بالبكاء: مافيه . . وقفت . . ما أبغى أتأخر على أبوي . . أرسلي له مسج لأنه هو بعد ما قصّر وكسر جوالي!
حصة : شايلة عليه كثير!
الجوهرة إختناقٍ يسحبُ صوتها تدريجيًا: وكثيير شوية فيه! . . خرجت لتتجه للأعلى، أبلغت عائشة بأن تُنزل أغراضها، إتجهت نحو الدولاب لتأخذ عباءتها، ضجَّ أنفها برائحة عطره، أخذت نفس عميق لتُغمض عينيْه برائحته المُسكرة لكل خليـة في جسدِها، و كُل ما حاولت الغياب كان عطرك طريق العودة.
،
بغضبٍ مجنون يلكمه على فكِّه حتى نزف، شدَّهُ من ياقته ليقربه منه: حتى الحمير تكرم عنكم
تراجع للخلف بخُطى هائجة ليُشير إليه بالسبابة غاضبًا ويصل غضبه لأقصى مدى: واحد!! شخص واحد قدر يدخل بيتي وفيه مليون كلب!! . . قوم أنقلع عن وجهي لا أثوِّر فيك الحين . .
إلتفت لحمد: الكلاب يحجزون أقرب طيارة ويجوني هنا! ويخلون كلاب ثانين مثلهم يحرسون البيت
حمد بلع ريقه : أبشر
رائد: واللي يشوف وجهك تجيه البشاير! . . عاد لمكتبه وهو يشتعلُ بداخله من فكرة دخول سلطان لبيته، يشعرُ بأن أعصابه تتفكك، عصبٌ عَصب.
بحنق مسك هاتفه ليتصل على فارس، استغرق ثواني طويلة حتى أتاه صوته الناعس: ألو
رائد بعصبية: نايم يا روح أمك!!!
فارس بضيق أستعدل بجلسته: وش فيه بعد؟
رائد: تجيني الحين ولا أقسم بالله . .
فارس يُقاطعه : بدون حلف! . . راح أجيك
رائد : وجيب الكلبة الثانية معك
فارس بعصبية : لها إسم!
رائد : شف فارس! أنا اليوم ممكن أرتكب جريمة فلا تخليها عليك
فارس: عبير ماراح تجي
رائد: لا تحدِّني أقهرك
فارس: وش تبي فيها؟ . . تبيني أخليها مع كلابِك! . .
رائد زفر أنفاسه الغاضبة: قلت جيبها ما أبي أكرر كلامي!
فارس بإصرار: لا
رائد : طيب أنا أعرف كيف أجيبك أنت وياها بنفسي!!!
فارس بقهر: كل شي عندك بالغصب!!! . . تبيني أجيك أبشر لكن أني أجيبها معي لا وألف لا
رائد: طيب يا ولد الكلب! . . تعال الحين
فارس إبتسم بين كومة غضبه: مسافة الطريق . . . وأغلقه.
تنهَّد ليلتفت إليْها نائمة بهدوء على الأريكة، اقترب منها ليأخذ الفراش ويُغطيها جيدًا، أغلق الشبابيك التي ينساب منها بردٌ قارس في فترةٍ من السنـة تنخفضُ بها درجة الحرارة بصورة هائلة.
إتجه نحو الحمام ليغتسل، أستغرق دقائقـه القصيرة ليخرج ويأخذ جاكيته، لفّ " سكارفـه " الرمادي حول رقبته، ليميلُ إتجاهه نحوها، وقف للحظاتٍ طويلة أمامها لتتسع إبتسامته على حركتها الخفيفة، مغرية للتأمل.
فتحت عينيْها عليه لتأخذ شهيق دُون زفير برهبـة، فارس: صباح الخير
عبير أخذت نفس عميق لتُردف بخفوت : صباح النور
فارس: عندي شغلة ضرورية بخلصها وأجيك . . ماراح أطوّل إن شاء الله
عبير استعدلت بجلستها لترفع عينيْها إليه دون أن تعلق بأيّ كلمة.
فارس: راح أطلب لك فطور . . وبيجيك غيره لا تفتحين الباب لأحد
عبير بضيق: طيب
فارس تنهَّـد ليتجه نحو الباب، وضع يدِه على مقبضه ليقف، إلتفت عليها: إذا بتتضايقين من . .
قاطعته: تطمّن ماراح أتضايق! . . بصفتي مين أتضايق أصلاً!!
فارس شعَر بأن الهواء يتصلَّب في جسدِه، بإتزان نبرته: بصفتك زوجتي!!
نظرت إليْه بعينيْن تشتعلان بالغضب. خرج ليُغلق الباب بعصبيـة نازلاً للأسفل.
،
يشربُ من كأس الحليب ليُكمل : عاد قمت أقول في نفسي سبحان الله كيف الحريم يتغيرون قبل الزواج وبعد الزواج
مهرة وضعت الملعقة على الطبق لتُردف : مو بس الحريم! حتى أنتم تتغيرون
يوسف : لا الرجال ما يتغيرون يا عيني! يعني لو مثلا أنا جيتك وقلت لك أقطعي فلانة ماأبيك تسولفين معها! بتروحين وتقطعين عشان سواد عيوني لكن لو أنتِ قلتي لي بسوي نفس الشي؟ أطلقك ولا أقطع عشرة عمر مع واحد من ربعي
مُهرة بإنفعال اندفعت: ومين قال أنه الحريم سطحيات لهدرجة؟ لا ياحبيبي محد يقطع عشرة عُمر عشان أحد ثاني!
يوسف بضحكة : عشان كلمة حبيبي بوقف برآيك
مُهرة زفرت بغضب: والله يوسف! أنت منت طبيعي كله حريم وحريم وحريم! تحسسني أنه الرجال منزلِّين منزهين
يوسف: ههههههههههههههههههههههههههه طيب كيفي هذا رآيي بعد بتناقشيني في رايي! أنا قلت لك أنه الحريم يبيعون الدنيا إذا حبّت لكن الرجال عقلاني مايبيع الدنيا
مُهرة بقهر: مالت على عقولكم! تحسسني أنكم مجتمع ملائكي
يوسف يُكمل شربه للحليب ليُنزله على الطاولة ويُردف: طيب أنا ماأعمم! يعني عادي رايي على فئة محددة! ولا تقولين لي أنه الحريم عقلانيات عشان ماأهفّك بهالكوب . . يعني مثلا لو أقول المصريين ظريفين! يخي هم صدق ظريفيين بس مو معناته مافيه واحد بينهم سامج! يعني أتكلم عن صفة سائدة . . أنا أشوف البنت إذا حبّت تبيع عُمرها عشان اللي تحبه
مُهرة : شف بموضوع أختك ريم! أنا أشوفها عقلانية
يوسف بضحكة عميقة يشعرُ بالإنتصار أنه مسك عليها شيء: شفتي! الخبث الأنثوي هذا تشجعينه! وين العقلانية في الموضوع؟
مُهرة إبتسمت : مو خبث أنثوي! هذا ذكاء بطريقة ملتوية
يوسف: لأنكم تحبون الطرق الملتوية! أما احنا الرجال ماعندنا يمين ويسار واضحين
مُهرة بسخرية : كثّر منها! . . خلصت فطوري وأنت للحين تشرب بنفس الحليب!
يوسف: قاعد أتلذذ فيه . .
مُهرة بإبتسامة: لو فكرة ريم جاية في بالي ماترددت لحظة أسويها فيك
يوسف بضحكة: تبطيييين تعرفين وش يعني تبطيين ما قدرتي تسوينها فيني! لسبب واحد . . أنا حقير بهالمواضيع ما أتعاطف على طول
مُهرة رفعت حاجبها: مستحيل ما تتعاطف! . . لاحظت فيك شي .. قلبك رهيِّف وحساس بمُحيط أهلك بس
يوسف بجديّة: لأن بالنسبة لي عايلتي هي أنا! يعني إحترامي لها هو إحترامي لنفسي! وحُبي لها هو حب لنفسي، وحياتي قايمة على أساسها . .
مُهرة بإبتسامة واسعة: دُرر ماشاء الله تبارك الرحمن
يوسف: تطنّزي عليّ بعد . . لا أكبّ ذا الحليب في وجهك
مُهرة بضحكة: عطني إياه منت مخلصه اليوم
يوسف يمدّه إليها لتشرب من نفس جهته، شربته كله لتدخل والدته على وقع ضحكاتهم: الله يديمها من ضحكات
يوسف: اللهم آمين . . قربي
مُهرة بتوتر: وش بتسوي؟
يوسف يسحب كرسيْه إليها ليمسح بطرفِ أصبعه بقايا الحليب على طرفِ شفتها. مُهرة اشتعلت حرارتها لتكتسي ملامحها الحُمرة أمام والدته، بلعت ريقها لتُشتت نظراتها بعيدًا وسط إبتسامات يوسف العريضة.
وقف : يالله أنا رايح . . تآمرين على شي يمه؟
والدته : سلامتك
يوسف: الله يسلمك . . رمق مُهرة بنظرة ذات معنى عميق ليتبعها بضحكة خافتة.
،
بدأ يضرب بطرف القلب على الطاولة بتوتر، أربك كل من حوله بصوت القلم، تنهَّـد لينظر للمصعد الذي انفتح.
مدّ يده ليأخذ الملف بعُقدة حاجبيه المزاجية هذا اليوم التي أتت في وقتٍ يجب أن يقتنع كل من يعمل هنا أن هناك خلاف بينه وبين عبدالرحمن : بوسعود جا ؟
: لا
سلطان بقي لثواني طويلة واقفًا، هذا الهدوء يُربكهم. تحرك بإتجاه مكتبه ليعود بخطواته للخلف وينظر للمكتب الخاوي: مين هنا؟
أحمد بلع ريقه: طالِبْ . . بيجي الحين
سلطان : الساعة كم؟ قربت تجي 10 والسيّد ما بعد داوم
أحمد : يمكن زحمة وكـ
سلطان بعصبية تسلط مزاجه عليهم : بس يجي حضرته يجيني . . عشان أوريه الزحمة صح!
سمع صوت ضحكات قادمة من إحدى الغرف المنزويـة وأحمد من خلفه تعابير وجهه كافية لتُوصل مزاجية سلطان هذه اللحظة، دخل لتستعدل جلساتهم ويقفون.
سلطان رمى الملف على المكتب الذي أمامه: هالملف ناقص! بتروحون حضرتكم للأرشيف تكملون القضايا اللي ناقصة بدل طق حنك
: أبشر
سلطان خرج وهو يفتح أول ازارير قميصه ومن خلفه أحمد كظله : طال عُمرك ماراح تشوف الملفات الجديدة؟
سلطان بتنهيدة: أستغفر الله . . خلهم على مكتبي . . . . . فيه تدريب اليوم؟
أحمد: لا بعد ساعة التدريب الصباحي!
سلطان: كويس . . إذا جاء بو سعود نادني . . . نزل للأسفل خارجًا لساحة التدريب، لا شيء يُفرغ به غضبه سوى هذا التدريب القاسي.
سحب الحبل المتين ليربط حزامه حول خصره، تذكر هاتفه الذي في جيبه ليخرجه، أهتز بيدِه ليُجيب دون أن ينظر الإسم إثر أشعة الشمس : ألو . . . وشو!!!!!!!!
،
لفّ " السكارف " حول رقبته ليأخذ المفتاح من بين يديّ نايف: مشوار صغير وراجع إن شاء الله . . أنتبه للبيت . . إتجه للخلف ليطرق الباب، ثواني قليلة حتى خرجت رتيل.
عبدالعزيز بجمُودِ ملامحه التي لا تُفهم : ألبسي حجابك وتعالي معايْ
رتيل بإستغراب: وين؟
عبدالعزيز بحدّة : ماني رايق لأسئلة كثيرة . .
رتيل عقدت حاجبيْها : وش فيك؟ صاير شي!
عبدالعزيز يسحبها من ذراعها ليُردف بغضب شديد: روحي جيبي حجابك وتعالي! مو معقولة بعيد الكلام كل شوي!!!
رتيل بلعت ريقها بربكة: طيب . . . دخلت دُون أن تنطق كلمة واحِدة من الدهشة، أخذت حجابها ومعطفها لتُردف: بروح مع عبدالعزيز شوي واجي . .
ضي المنشغلة بإيجاد شبكة لهاتفها: طيب . .
رتيل تنهدَّت لتخرج معه، مسكها من يدها ليضغط عليها بلا وعيٍ منه، بصوتٍ مخنوق: توجع إيدي!!
أرخى قبضته ليُركبها السيارة بجانبه، سَار بسُرعةٍ جنونيـة وهو يُخرج للطريق السريع.
رتيل ربطت حزام الأمان ولا تتجرأ أن تسأله سؤال آخر، قلبها يندفع بشدَّة الخوف الذي يسيلُ بدماءها.
عبدالعزيز خفف السرعة ليُردف: الشخص لما يضحي بأشياء كثيرة عشان مبادئه وأخلاقه . . وش يستفيد؟
رتيل بضيق : عبدالعزيز وش فيك! خوفتني!!!
عبدالعزيز بعصبية : ما يستفيد شي! بس اللي يكسب نفسه ويضحي بمبادئه وكل هالأشياء؟ بيستفيد كثيير
رتيل بتوتر : مو فاهمة شي
عبدالعزيز : مو لازم تفهمين! . . لأن أنا جاء وقت قالوا لي فيها مو لازم تفهم الحين يا عبدالعزيز!
بغضب يُعلي نبرته ويزيد من سرعته : مو لازم تفهم أشياء صارت بحياتك! لأن حياتك ماعادت لك . . . وبتهديدٍ صريح . . بس والله العظيم يا رتيل أنه . . .
.
.
أنتهى