اللقاء الثاني
المرحلة الإعدادية
في مواجهة التبشير
وكان اللقاء الثاني في بيت صديقتي زينب، في الموعد المحدد كنتُ أطرق الباب، واستقبلتني زينب بكل الحب والمودة، ولفتت نظري بساطة البيت وجماله بكل ما فيه، نظام.. ونظافة.. وجمال، وبدأت زينب الحديث قائلة:
- لم تخبريني شيئاً عن أحوالك.
- قلت: سأعطيك ملخصاً عن حالي، وربما جاء دوري فيما بعد لأتحدث عن نفسي، إنني زوجة وأم، وأعمل في ميدان التدريس، وأعيش مثلك في ظل الإسلام.
قالت: أما أنا فأبدأ من حيث افترقنا في ذلك اليوم الذي أنهينا فيه مرحلة من حياتنا، كنا فيها كأختين، نحلم ونتخيّل ولا ندري ماذا يُخبئ لنا الغد، وكانت فرحة أبي بنجاحي وتفوقي كبيرة وكذلك خالتي، وأخبرني أبي أنه يرسم لي مستقبلاً زاهراً، فأنا ابنته الوحيدة بين ثلاثة أبناء، وأنا الصغيرة، حيث جئت بعد شوق طال لمجيئي، ففي رعاية البنت وتنشئتها ثواب عظيم عند الله تعالى، وكان والدي يتمنى أن ينال هذا الثواب. إنه غرس الإسلام الذي أبدل بكراهية الأنثى محبتها والابتهاج بمجيئها، بعد أن كانوا في الجاهلية يسودّ وجه أحدهم إذا أُخبر بمجيئها، أيتركها على هون أم يدسّها في التراب.
ومضى الصيف بين الترحال والنزهات، وفوجئت بأبي يسمي لي المدرسة الإعدادية التي سألتحق بها لأكمل دراستي، لقد اختار لي مدرسة خاصة، كنت أسمع عنها وعن أنها تستوعب بنات الأسر الغنية والعريقة، وأن التعليم فيها جيد وخاصة اللغة الإنكليزية التي أصبحت بنداً مهماً في كل مجالات الدراسة والعمل، ولا توجد في بلدنا مدرسة أخرى تضاهيها في ذلك.
وتذكرت الوعد الذي بيننا للقاء في المدرسة الإعدادية الحكومية الوحيدة في بلدتنا، وحاولت أن أرفض، ولكن والدي أنكر عليّ ذلك، وأخبرني أن تسجيلي قد تم وهو أعلم بمصلحتي، اقتنعت وسلّمت بالأمر، وحلمت أننا لابد أن نلتقي ولكن كيف؟ أنا لا أعرف الكثير عنك، أين يقع البيت الذي تقيمين فيه، في أي جهة من جهات المدينة؟ وأنا الصغيرة التي تجهل مثل هذه الأمور. ولم تكن الهواتف متوفرة في كل بيت. ولكن ظل الحلم يراودني زمناً طويلاً.
وابتدأ العام الدراسي، وفاجأني جو المدرسة، كان يشرف على المدرسة مجموعة من الراهبات بزيّهن المعروف وصلبانهن المتدلية، لا يوجد في المدرسة أي مظهر من مظاهر الإسلام، سوى عدد قليل من الطالبات كنّ يضعن الحجاب وهنَّ خجلات منه، ويرفعنه عند دخولهن المدرسة، بل كانت هناك حرب خفية ضد الإسلام، أحسست بذلك في أعماقي، ربما كنتُ مؤمنة بالفطرة، بل كل منا مؤمن بالفطرة لا شك في ذلك، ولكن هناك ما دعّم إيماني، توجيهات تلقيّتها عبر السنوات التي مرت من أمي وأبي وخالتي، ثم المدرسة، الابتدائية، ولا أنسى صحبتنا وأحلامنا أن نرتع غداً في رياض الجنة، ونقلت مشاعري عن المدرسة لخالتي وأبي، لقد استنكرت خالتي اختيار أبي لمدرسة كهذه وقالت:
"هذه المدرسة يجب أن تغلق، لماذا نحارب في بلدنا؟"
أما أبي فقد تمسك برأيه وقال:
"إن على المؤمن أن يصبر ويقاوم، وليكن نوراً يضيء في الظلمات أينما ذهب، المهم أن تتمسكي بما آمنت به، وتنمّي معرفتك بهذا الدين الذي تنتسبين إليه. فالعواطف وحدها لا تكفي ولا بد من العلم والعمل."
ولا تزال كلماته -رحمه الله- ترن في أذني حتى الآن، إنها معركة بدأتها مبكرة.
وأكثر ما كان يزعجني تلك الحصة الصباحية التي تقام فيها طقوس دينية، لا علاقة لنا بها نحن المسلمات ومع هذا يجب أن نحضرها، إنه النظام، كلمات تقال تخالف تماماً عقيدتي في وحدانية الله تعالى، موسيقى ترافق الكلمات، حركات لا أفهمها، قصص تُروى لنا تحاول شدّنا بعيداً عن دين المسلمين.
كنت أشعر بالغربة، كما أشعر بالاعتزاز بما استقر في يقيني عن ربي. طبعاً لم يكن يجرؤ أحد على المعارضة أو المناقشة. قالت لي إحدى الطالبات عندما حاولت أن أستفهم عن إله له أولاد وزوجات وكيف تساوي الثلاثة واحداً، قالت لي:
"إن قضايا الدين لا تخضع للعقل، ويجب أن نؤمن بها هكذا دون مناقشة"
وعجبتُ وسألت نفسي: هل في الإسلام ما يتنافى مع العقل؟..
ومرت بذاكرتي قصة ذلك الأعرابي الذي هداه عقله وتأمله في الكون إلى وجود الله وأنه سبحانه العليم الخبير عندما قال:
"أسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ ذات أمواج، أفلا يدل ذلك على العلي القدير؟.."
وأحسست بالراحة وشفتاي ترددان:
"قل هو الله أحد* الله الصمد* لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفواً أحد".
نعمْ لم يلد ولم يولد، ولا يمكن أن يكون مكوناً من أجزاء. هذه الراحة التي كنت أشعر بها كلما ضايقني أمر، فأذكر الله، وألجأ إليه، إنه شعور لازمني طوال حياتي، إنه الإسلام معي في كل الجولات التي خضتها في خضَمِّ الحياة الواسعِ، كما أن أبي وإخوتي وخالتي كانوا معي دائماً.
قلت لزينب: وهل كنت تحدثينهم عما يجري في المدرسة؟..
قالت: نعم كنت أحدث خالتي في كل شيء، فهي قريبة مني، وحنانها كان يدفعني للحديث، فكنت أجد في كلماتها راحة وطمأنينة.
قلت: وهل كنت تخبرين والدك بما يجري؟
قالت: عندما يسألني، وكان يمنحني نصائحه التي تزيدني فهماً وعلماً بديني، فعندما سألته عن عقيدة التثليث وكيف يمكن أن يساوي الثلاثة واحداً؟ وكيف يمكن أن يتقبل العقل مثل هذا الكلام؟
قال: إنها من التحريف الذي حلَّ برسالة عيسى عليه السلام وتَقبَّلَها الناس إما بالوراثة، وإما بسبب الحاجة والفقر. أما أن يتقبلها العقل فلا.
وقصّ علي حكاية طريفة سمعها في إحدى رحلاته إلى إفريقيا قال:
"إنهم يستغلون حاجة الفقير للغذاء، وحاجة المريض للدواء، وحاجة الجاهل للعلم، ولقاء سدِّ حاجات ضرورية يتقبل بعضُهم عقيدةً يحكم العقل ببطلانها، وكثيرون يرفضون ذلك، أما الحكاية فقد جيء بأحد فقراء المسلمين ليلتقي بأحد رجال الدين فيلقنه تعاليم النصرانية فإذا تقبلها ضمنت له حياة كريمة.
قال له رجل الدين:
- إن عليك أن تؤمن بالأب والابن وروح القدس وأن هذه الأقانيم الثلاثة هي إله واحد.
قال الرجل: كيف؟ إن هذا غير معقول؟!
قال رجل الدين:
- القضية بسيطة جداً.
"وأخذ بطرف ثوبه وثناه ثلاث ثنيات وقال: هذا الأب وهذا الابن وهذا روح القدس أليسوا ثلاث ثنيات؟ افتح هذه الثنيات فيعود القماش كما كان قطعة واحدة أي إلهاً واحداً.
ففكر الرجل الفقير قليلاً ثم قال:
- دع لي إلهي الواحد.. هنيئاً لكم إلهكم المثلث وسأفعل كل ما تريدون مني."
قلت لزينب: إنها من نعم الله العظيمة أن يحاط الإنسان برعاية واهتمام والدين يفهمان الإسلام فهماً صحيحاً ويثقان بتعاليمه ومبادئه.
قالت: نعمْ فللأبوين تأثير كبير في تنشئة الأولاد وصدَقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أبلغنا أن الأبوين هما اللذان ينميان نبتة الإيمان في القلوب عندما قال:
"كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يُنصِّرانه أو يهوِّدانه أو يمجِّسانه".
ولولا تلك الرعاية التي أُحطتُ بها لتحولت إلى أحد أمرين: إما النصرانية، وإما الفراغ الكامل من العقيدة والدين.
ولقد كانت تصادفني نماذج عجيبة في تلك المدرسة التي أمضيت فيها أربع سنوات، فقد فاجأتني إحدى الطالبات مرة بأنها تستحيي أن تقول إنها مُسلمة، وكأنما صفعتني كلماتُها، وبدأت أتقربُ منها وأحاول أن أفهم دوافع هذا الشعور، وهكذا أحسست أن عليَّ مهمة، ولكن لن أستطيع أن أقوم بها دون الاستعانة بأبي وخالتي.
قلت لزينب:
- أشعر أن اجتماعنا قد طال، والوقت قد تأخر، وعليَّ أن أعود إلى البيت، بالرغم من شوقي لسماع المزيد عن تلك الفتاة التي تستحيي من دينٍ جاء من لَدُن عليم خبير وحوى الخير للإنسانية جمعاء.
وَدَّعتُهَا وتواعدنا على اللقاء في بيتي في الأسبوع القادم.