اللقاء الرابع
في المرحلة الثانوية، أساتذة يبنون، وآخرون يهدمون
تشويه متعمد للتاريخ
المستقبل لهذا الدين
في جو ربيعي بين شجيرات النخيل وزقزقة العصافير.. وامتداد البحر كان اللقاء الرابع.
قالت زينب: ما أجمل هذا الكون! تُرى هل كل الناس يتمتعون بما خلق ربي من تناسق وتوازن وجمال؟
قلت: لاشك أن هناك من لا يلتفت إلى هذا أبداً، كما أن هناك من يستمتع ولكن بعيداً عن مشاعر القرب من الله سبحانه وأولئك هم الغافلون.
قالت زينب: لقد نسيت فئة أنساهم الظلمُ والطغيانُ الذي وقع عليهم، كلَّ مُتع الدنيا، وضمَّتْهم جدران باردة، ولازمتهم مطارق العذاب، ترى هل نسوا ذكر الله أم لا تزال قلوبهم عامرة به مضاءة بنوره، مطمئنة إلى رحمته.. فالله وحده يعلم ما حلّ بهم..
قلت: كأنك تتحدثين عن ظروف مرّت بك ولا تزال مرارتها تخالط مشاعرك التي عشت بها مطمئنة في ظل الإسلام، بالرغم من جرعات مُرّةٍ تناولتِها ولن يزول طعمها.
قالت: نعمْ وسأحدثك عن تلك الظروف في حينها، أما الآن فدعيني أعود إلى المرحلة الثانوية، وسأقص عليك بعض الأحداث التي مرّت بي في تلك المرحلة:
من الأحداث السعيدة جداً في هذه الفترة زواج أخي الكبير، وأخي لم يكمل تعليمه بعد الثانوية وإنما انغمس في العمل مع والده، وكان يهوى التجارة، وعنده فكر عملي لا يملكه الذين يحملون الشهادات العليا، لقد أسعدني زواجه من فتاة لا تكبرني بالكثير، فهي إحدى قريباتنا الخلوقات الواعيات وتحمل الشهادة الثانوية أيضاً. لقد أصبحنا صديقتين حميمتين، وكان سكن أخي في الطابق العلوي في البناية التي نسكنها.. وكثيراً ما باحت لي بأسرارها.. وبحت لها بأسراري، فكانت بمثابة أخت لي عوضتني عن الذي فقدته من خصوصية العلاقة بين الأختين، وكم حمدت ربي على ذلك.
وانتهت الإجازة وفتحت المدارس أبوابها واجتمعنا مرة أخرى أنا وفاطمة ومريانا في صف واحد. وعمّتنا الفرحة بعد أن بذلنا جهداً لنحقق هذا الهدف، وكانت أيامنا الأولى استعراضاً للمدرسين والمدرسات الذين سيتولون مهمة تعليمنا في ذلك العام وربما بقية الأعوام. وتراوحت مشاعرنا بين التقدير والإحباط.. وأحياناً الصدمة واليأس.
وتعود إليَّ أحداث ذلك الماضي وسأذكر لك بعضها:
سأبدأ بأستاذ الدين لقد كان كبيراً في السن وضعيف الشخصية، وإن كان غزير المعلومات، ولكن أين مَن يسمع وينتبه فكانت الحصة تُستغل في أمور كثيرة، ككتابة الواجبات أو استذكار الدروس أو التهريج. وقد حاولنا أن نحول الحصة إلى مناقشات مفيدة، ولكننا فشلنا أنا وفاطمة وبعض الطالبات الواعيات وحاولت معنا مريانا إذ حضرت بعض الحصص بالرغم من أن التلميذات المسيحيات مسموح لهن بعدم حضور حصة الدين، وهكذا مرّت أعوام وحصة الدين صفر في تأثيرها وخاصة أن علامة الدين لا قيمة لها في سجل الدرجات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. فهي تُحذف من مجموع الدرجات ولا أثر لها في الرسوب والنجاح.. والهدف معروف.. أن تُهمل هذه المادة ولا يهتم بها.
أما أستاذ اللغة العربية فقد كان أديباً وشاعراً معروفاً، وكنا في حصته ملزمات بالإصغاء فَهِمْنا أم لم نفهم، والويل لمن تأتي بحركة أو تتلفظ بكلمة، فإنها تواجه بغضبة كبرى، لأن أي حركة أو صوت يمكن أن يقطع سلسلة أفكاره، فهو لا يستعين بالمخطوط والمكتوب على الورق, وإنما بما خُط في ذاكرته من معلومات حول الشاعر أو الأديب الذي يقدم لنا معلومات عنه، ولاشك أننا كنا نستمتع بحصته رحمه الله، وإن كان بعضنا يسرح بأفكاره بعيداً عن الحصة وما فيها، وفي نهاية الحصة تدبّ فوضى لا مثيل لها، وتقوم بعض الطالبات بتقليد الأستاذ في ثورة غضبه وتنطلق عاصفة من الضحك، بينما أكون منشغلة في استرجاع بعض ما قاله الأستاذ من معلومات قيمة وتدوينها في دفتري قبل أن أنساها، لأنه كان يضيق بتقليب الورق وحركة الأقلام.
وأما أستاذ الفلسفة وعلم النفس الذي لازمنا خلال الفترة الثانوية، فقد كان ذا شخصية قوية نتعامل معه باحترام ومحبة، بالرغم مما قيل عنه من أنه لا يؤمن بالله، وأنه من المعجبين بكارل ماركس ونظريته التي لا ترى في الإنسان إلا الجانب المادي، وإلى آخر ما نادت به هذه النظرية من مساواة مزيفة لا تتجاوز ملء البطون بالحد الأدنى من حاجات الإنسان. ومع ذلك فقد كان أستاذنا ذا خلق واستقامة، مخلصاً في مهمته، وكان معجباً ببعض الشخصيات الإسلامية وكثيراً ما كان يذكرها ويستشهد بها، أمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما والمعتصم.. وإن كان يردّ ما فيهم من عظمة إلى تفوق العربي وأصالته، ولم نكن نجرؤ على مناقشته في هذه الأمور.. ولم يكن هو أيضاً يتعرض لمثل هذه الأمور خلال حصصه، فهمه الأكبر هو إدخال المعلومات في أذهاننا.
ولقد علمتُ فيما بعد أنه عاد إلى حظيرة الإيمان والتقوى، بعد أن خابت آماله في شخصيات كان يعتبرها مثله الأعلى في تحقيق العدل والحرية أو ما يسمونه الاشتراكية، ولكن عند الامتحان وعندما وصلت تلك الشخصيات إلى ما كانت ترجو من مراتب ومسؤوليات، أصبحت المنفعة الكبرى تعود إلى ذواتهم.. همّهم الأكبر الاستمرار، ولم ينفذوا شيئاً من المبادئ المثالية التي كانوا ينادون بها.
وهكذا أحس أنه خُذل، خذله عقله، وخذلته حساباته، وخذلته نظريات ليس لها أي أساس يدعمها سوى تصورات ومخططات البشر، وفكر أن يعود إلى دينه ويتعرف عليه.
وأما السبب المباشر في تحوله هذا فقد حدث به تلاميذه عندما سألوه عن تبدّل لمسوه في حديثه وتصرفاته، قال:
- في ليلة شديدة البرودة من ليالي الشتاء كنتُ في سهرة عند أحد الأصدقاء، نتذاكر أحلامنا وما آلت إليه، وأنا في طريق العودة، والضياع يلفّني ويشلّ تفكيري، انزلقت قدمي وهويتُ في حفرة لم أنتبه لها وسمعت صوتي ينادي يا الله. وشعرت بقشعريرة غريبة سرت في جسدي.. وخيّل إليّ أن كل من حولي يردد نفس النداء، الله.. الله.. قطرات المطر تعبر.. وصرير الريح ينادي.. وحفيف الأشجار يهمس.. والبرق يضيء والرعد يزمجر.. مهرجان كوني.. يعلن الحقيقة الكبرى.. أن للكون رباً لا إله إلا هو، وخرجت من الحفرة والنداء يلاحقني.. نداء الكون لخالقه كيف غفلت عنه؟ أين كانت حواسي؟ بل أين كانت روحي؟.. الآن شعرت بها تصحو.. تنطلق.. تعلو.. تناجيه.. سبحانه.. هل يعفو؟.. هل يقبلها في معيته.. وغمرني إحساس بالطمأنينة والرضى، وعدتُ إلى البيت مسرعاً لأغسل رجس الإلحاد عن جسدي بعد أن زال عن روحي.. ووقفتُ بين يدي الله أناجيه وأشعر بيديه الرحيمتين تستقبلاني، أبكي تسيل الدموع من عيني.. يملؤني شعور عجيب بالراحة والرضى، ولم أنم تلك الليلة أبداً، بل رحتُ أراجع الماضي في نور الحقيقة التي أضاءت في أعماقي.. ربي لقد عدت إليك فاقبلني..
قلت لزينب: ما أحلى هذه العودة يا زينب، ألست معي أن هذه المشاعر لا يتذوقها إلا التائبون الذين يمدون أيديهم إليه سبحانه، فتشف أرواحهم، وتنطلق ويحسّون للحظات أنهم معه جل جلاله في رحاب عفوه ومرضاته.. وقد أعلنها لهم إنه يحب التوابين ويحب المتطهرين. قال تعالى: )إن الله يحب التوّابين ويحب المتطهّرين( البقرة (222).
فلماذا لا تنطلق أرواحهم في رحاب حبّه ورحمته.. سبحانه..؟
قالت: فعلاً إنها مشاعر من الصعب جداً أن تصوّرها الكلمات.. وكم أسعدتني عودة ذلك الإنسان إلى رحاب الإسلام، فقد كنا جميعاً نلمس صدق كلماته ومدى إخلاصه في مهمته.
وكان الفرق واضحاً بينه وبين أساتذة آخرين، وأذكر بهذه المناسبة أستاذ التاريخ وكان غير مسلم، وكان مخرباً لعقولنا يحشوها بالأباطيل بدل أن يبنيها بالحقائق، كان حريصاً على تشويه تاريخنا، وجعلنا نشعر بالضآلة والقصور، كان يردد دائماً:
"ماذا فعل العرب للإنسانية؟ إن ما فعلوه لا يعدو ما فعلته شمعة تعجز عن إنارة ما حولها، أين هم مما فعله الرومان والبيزنطيون؟ أين هم من حضارة اليوم؟ إنهم لم يصنعوا أية حضارة، وقد نعطيهم أكثر من حقهم إذا قلنا إنهم كانوا مجرد ناقلين عن الآخرين".
وكان حريصاً على إظهار تكريمه للمرأة، من خلال ترديده لبعض العبارات مثل: نحن وراء المرأة ولو قادتنا إلى جهنم، والنساء أولاً.. وأمثال هذه العبارات التي يعبرون بها عن تحضّرهم، وجريهم وراء شعارات غربية الهدف، منها خداع المرأة ثم استغلالها.. وقد اغترّ بأفكاره كثير من الطالبات.
وكانت تدور أحياناً مناقشات بيننا وبينه، أعني بعض الطالبات اللواتي لديهن بعض الثقافة وإن كان ضئيلاً. وأذكر أنني رفعتُ أصبعي يوماً فقال:
- ماذا تريدين؟
قلت: أريد أن أدافع عن أمتي يا أستاذنا.
فسمح لي أن أذكر أن التطور الهائل الذي حصل لمادة الرياضيات بدأناه نحن.
وأن أحكام الميراث في قرآننا هي أول ضوء أخضر في هذا الميدان.
كما أننا دخلنا علم الفلك من باب واسع حرصاً على تحديد أوقات الصلاة والعبادات.
وأن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع.
وأن فرانسيس بيكون وكذلك روجر بيكون أبوَي الفلسفة التجريبية كانا تلاميذ الحضارة الإسلامية، ورسل الحضارة الإسلامية إلى بلادهم.
وأن لغتنا العربية كانت لغة العلم لعدة قرون كالإنكليزية الآن.
وأن علومنا وجّهها الإسلام لمصلحة الإنسانية.
وأننا أول من نادى بحرية الإنسان وكرامته.
وأن علومنا لم توجه أبداً ضد إنسانية الإنسان وكرامته كما يحدث الآن.
فابتسم ابتسامة صفراء وقاطعني قائلاً:
- هوني عليك أنا معك في كل ما قلت ولا داعي لكل هذا الحماس ولا تنسي أنني عربي مثلك.
ووجدت نفسي أجهش بالبكاء، ودقّ الجرس وخرج من الفصل وقد امتقع وجهه.. والتفت حولي رفيقاتي يرددن:
- لماذا تبكين؟ لقد أثلجت صدورنا بما قلت؟.. لقد امتلكت جرأة لم نمتلكها، هوّني عليك إنه لن يستطيع أن يؤذيك أبداً.. نحن جميعاً معك.
قلت من خلال دموعي:
إنني لا أخشاه أبداً، إن معي ربي وكفى به حامياً ونصيراً.
قلت لزينب: هل كل الطالبات وقفن معك؟..
قالت: أغلبهن كنَّ معي وإني سمعت إحداهن تقول:
لماذا كل هذا الهجوم؟ إنه أستاذنا وليس عدواً لنا وإنما يريد دفعنا إلى الأمام لنجاري الغرب في حضارته.
وردّت عليها أخرى:
- إنه لا يريد منا إلا أن نكون أذناباً وأتباعاً تجري وراء الغرب إلى مالا نهاية بعد أن يقتلع جذورنا ويمحو مشاعر العزة والكرامة من نفوسنا.
وسألت زينب عن موقف الأهل، وهل كانت تنقل لهم ما يجري في المدرسة؟ قالت:
- نعم كنت أنقل لهم مثل هذه الأمور وأجد التوجيه، وأكتسب معلومات جديدة من خلالها..
- من أنا؟
من أي أرض نبتّ وما هي جذوري؟
وقد كان تعليق أحد إخوتي:
- إنك ستواجهين حرباً مستمرة إذا أردت فعلاً أن تعيشي في ظل الإسلام وتتغذي من جذوره، فعليك أن تستعدي لذلك وتواجهي هذه الحرب بالحكمة والموعظة الحسنة، ولابد من العلم والمعرفة.
أما أبي فقد ذكر لي بعض الكتب التي تفيد في هذا الموضوع، وفيها شهادة من آخرين على سمو وإنسانية الحضارة الإسلامية، ومن الكتب التي ذكرها: كتاب للألمانية زغريد هونكه، ومن أقوالها في هذا الكتاب:
"لا مبالغة من القول بأن المسلمين هم مبتكرو التجربة بالمعنى الدقيق للكلمة، وهم المبدعون الحقيقيون للبحث التجريبي، وقد أبدعوا في علوم البصريات والكيمياء والطب، وجهودهم هي الأساس لما نشهده اليوم من تقدم علمي".
أما جوستاف لوبون فقد عدَّدَ في الطب وحده ثلاثَ مئة كتاب نقلها الغرب من العربية إلى اللاتينية.
قلت لزينب:
- وهناك أمر مهم جداً ذكره أولئك الذين شهدوا للحضارة الإسلامية، وهو أن ما أنتجته تلك الحضارة كان لمصلحة الإنسان وليس لتدميره وقهره، وإنتاج تلك الحضارة شمل الناس جميعاً دون تعصب أو عنصرية، هذه العنصرية التي نلمسها اليوم في تعامل حضارة القرن العشرين مع الإنسان، حيث يسمح لإسرائيل مثلاً أن تمتلك كل أنواع الأسلحة المدمّرة لمواجهتنا وإبادتنا، ثم نُمنع نحن من امتلاك أي سلاح فعّال، وتُتهم بالإرهاب والتطرف عندما ندافع عن حقوقنا. وقد قرأت بحثاً للدكتور عبد الحافظ حلمي عميد كلية العلوم في مصر يقول فيه:
"لقد تحولت العلوم لأول مرة في التاريخ الإنساني إلى مسألة عالمية وإلى تراث إنساني يثور على القوميات والعصبيات الضيقة حيث انصهرت الحضارات السابقة في بوتقة الحضارة الإسلامية.."
ويقول: إنه ذكر في أحد المؤتمرات العلمية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:
"هلاك أمتي في عابد جاهل وعالم فاجر".
فما كان من منظم المؤتمر العالم السويدي إلا أن علّق قائلاً:
"لو عرفنا هذا الكلام من قبل لجعلناه شعاراً للمؤتمر".
قالت زينب:
- أمثال هذه الاعترافات كثيرة جداً وإن كان كثيرون أيضاً قد شوّهوا الحقائق وطمسوها، ومن يسعى وراء الحقيقة لابد أن يجدها.
قلت: وربما كان من أحدث هذه الاعترافات ما قاله ولي العهد البريطاني بمركز الدراسات الإسلامية في أكسفورد وهو ينتقد جهل الغربيين بالإسلام إذ قال:
"إن جوهر هذا الدين يكمن في حفاظه على نظرة متكاملة للكون حيث يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، وبين الدين والعلم، وبين العقل والمادة.."
قالت زينب:
- الحمد لله أنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، والحمد لله والرحمة لمن وجّهني للمطالعة والقراءة ولفت نظري إلى الكون، فرأيتُ إبداع الخالق وعشت في ظل شريعته، إن إبداعه سبحانه موجود في كل ما يقع عليه بصر أو يحيط به علم.. أو تسمعه أذن.. أو تمسّه روح.
وضحكت زينب قائلة:
- والآن أعود بك لاستعراض بعض أحداث الفترة الثانوية وقد شُغلنا عنها بيقظة نحسها كلما وجهت إلينا سهام تريد اجتثاثنا من الجذور، ولعل في هذه السهام خيراً لنا فقد طال رقودنا ولولاها لما صحونا أبداً.
وأعود لأستاذ التاريخ الذي حاول أن يوجد علاقات مع بعض التلميذات ويبدو أن سيرته وما يفعل وما يقول وصلت إلى المسؤولين فنقل من مدرستنا، وجيء لنا بأستاذ آخر كان اليأس يقطر من كلماته، وكانت أصداء انهزام العرب والمسلمين، أمام الصهيونية تتردد مع أنفاسه، فالدولة اليهودية أُنشئت، والشعب الفلسطيني مشرّد، واغتصبت الأرض، وأعلنت الهدنة، وتبخرت الشعارات، وكان يردد دائماً:
"بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء"..
ولم أسترح لهذه النغمة المتشائمة اليائسة فذكرتُ لأبي فوجّهني إلى أحد كتب محمد الغزالي رحمه الله، وفعلاً وجدت ما أنعش الأمل في صدري، وأحسست أن المستقبل لهذه الأمة، وأن عليّ أن أعلن ذلك وأن أُنقذ أستاذي من يأسه.
قلت لزينب: يعجبني فيكِ هذا السعي الدائم للكشف عن حقيقة هذا الدين.
قالت: إنه واجب كل مؤمن أن يكون الإسلام ينبوعاً لأقواله وأفعاله، وهكذا في إحدى حصص التاريخ وجدت الفرصة سانحة لأقول ما عندي.
قلت: أتسمح لي بكلمة يا أستاذ؟..
قال: تفضلي بكل سرور.
قلت: إن رسولنا الكريم بشّرنا في أحد أحاديثه أن المستقبل لهذا الدين ولهذه الأمة.
قال: أي حديث تقصدين؟
قلت: قال رسولنا الكريم:
"ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر".
قال: إذن هناك تعارض بين الحديث وحديث الغرباء؟
قلت: لا تعارض. هذه الغربة تعترض المسلمين خلال مسيرتهم، إنها سنة الحياة، علو وهبوط.. ينصرون الله فينتصرون، ويخذلون شريعته فيهزمون، وهكذا ولكن النهاية لهم إن شاء الله تعالى.
قال: أحسنت وشكراً لك لقد أعدت إليّ بعض الثقة، وأيقظت في أعماقي مشاعر كانت نائمة.
قلت: هناك حديث آخر في هذا الموضوع..
قال: ما هو؟ اذكريه لي.
قلت: قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:
"إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها".
قال: إن هذا يبعث في النفس التفاؤل، ولكن لابد من الحركة والعمل، ونحن نيام توالت علينا الصدمات فانهزمنا من الداخل والخارج، إن وضع أمتي يكاد يقتل كل أمل في نفسي إننا أبطال في مواجهة بعضنا بعضاً..، جبناء في مواجهة أعدائنا.. سحرتنا المناصب والكراسي، فبتنا عبيداً لها.. عسى المولى عز وجل أن يخرجنا مما نحن فيه.
قالت زينب: وسأحدثك عن مدرِّسة لها في نفسي أثر لا يُمحى، إنها أستاذة العلوم ، وأنت تعلمين أن الشهادة الثانوية في زماننا كان لها ثلاثة فروع: فرع أدبي وفرع علمي وهذا خاص بالشباب، وفرع خاص بالبنات ويشمل مواد علمية وأدبية، ويؤهّل الفتاة للانتساب لأي فرع من فروع الجامعة.
أستاذة العلوم هذه كانت ذكية متفهمة لمادتها قريبة من الطالبات، والمهم أنها مؤمنة عن علم ويقين، فقد كانت تفتح لنا في كل يوم نوافذ تطل على قدرة الله ورحمته، فكانت حصة العلوم بمثابة مناجاة لخالق الكون ومدبره تقربنا منه سبحانه، وكأننا في صلاة خاشعة، لقد كان هذا شعوري خلال الفترة التي درّست لنا فيها تلك المدرِّسة العظيمة، ومن بعد أصبح عندي القدرة أن أفتح النوافذ وأرى آثار القدرة الإلهية تحيط بي من كل جانب.
قلت لزينب: وأظن أن هذا الدافع كان وراء دراستك للطب، وأذكر أننا عندما كنا في المدرسة الابتدائية كان حلمنا أن ندرس الإسلام والفقه.
قالت زينب: نعم فكرت أن أتخصص بمادة العلوم فلقد استهوتني هذه المادة، فالله سبحانه جعل الإنسان خليفة في هذه الأرض ليتفاعل مع موجوداتها، ويتعرف على خيراتها، ويستفيد مما سُخّر له، وأظن أن تأخرنا نحن المسلمين نابع من إهمالنا للعلم، لقد أهملنا جانباً مهماً في ديننا.
قلت: فعلاً لقد ابتعدنا عن هذا الميدان كثيراً، واستغله غيرنا بعد أن وقف دينهم المحرف في طريقهم فأبعدوه، أما نحن فديننا يدعو إلى العلم ويحضّ عليه، وقد امتلأت صفحات القرآن الكريم بنداءات موجهة لأولي الألباب، وقد علّم الله آدم الأسماء كلها أي ما يتعلق بهذا الكون من أجل استغلاله والاستفادة منه، وعمل أجدادنا ما في وسعهم واستجابوا لنداءات القرآن الكريم فأبدعوا وأفادوا واستفادوا.
قالت زينب: لقد أخذ أكثر المسلمين جانباً واحداً من الدين التزموا به هو جانب العقيدة والعبادة، وأهملوا الدعوات الأخرى الموجّهة إليهم وقد جاءتهم في كتاب الله بأساليب مختلفة متنوعة تنبه إلى أهمية العلم وعلو شأنه:
)هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ إنما يتذكر أولو الألباب( الزمر 9.
)يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات(.. المجادلة11.
)ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب( الزمر21.
وهكذا نسوا حظاً مما ذُكِّروا به، فانتهى الأمر بهم إلى هذا الحضيض الذي هم فيه، واستيقظ الآخرون وسَعوا وراء المادة فأنشؤوا تلك الحضارة، التي يلمس كل عاقل زيفها وعفنها، بالرغم من المظاهر المادية التي تبهر الفهوم، وأنشأتها الأيدي والعقول، ولكنها حضارة في جانب واحد ولم تحقق، ولن تحقق السعادة للإنسان.
والآن سأحدثك عن مدرِّسة الفيزياء، لم تكن مسلمة، وكانت تحارب الإسلام وكل مظهر من مظاهره، ترفض أن نضع الحجاب في حصتها، قالت لنا في إحدى المرات:
"ألا تخجلن من تلك الأغطية؟ ألا تشعرن بالإهانة؟ لماذا تسترن ما خلق الله؟
- وبماذا أجبتن؟
قلت: أتسمحين لي بالكلام..؟
فسكتت لحظة.. ثم قالت: نعمْ تفضلي.
قلت: أما لماذا نستر ما خلق الله؟ فاللباس سمة من سمات الإنسان وقد ميّزه الله به عن الحيوان، وكلنا نستر ما خلق الله.
وأما أن نشعر بالإهانة فلماذا؟ إننا ننفذ أمر الله ونحن مدركات لحكمته سبحانه، إنني أشعر بالإهانة عندما يكرهني أحد على مخالفة أمر من أوامر الله، وأستجيب مضطرة.
أما أن أستحيي من حجابي فلماذا؟ وأنا أدرك أن فيه احتراماً وتقديراً للمهمة التي يجب على المرأة أن تقوم بها بعيداً عن إثارة الشهوات ولفت الأنظار.
قلت لزينب: أحسنت لقد قلت هذا الكلام في زمن لم تكن فيه المرأة تستغل كما تُستغل الآن. لقد أضحت في كثير من المجتمعات مجرد جسد يعرض، وسلعة تباع.. ألا تذكرك عروض الأزياء بعروض الجواري؟ ولكن مع الفرق فالجواري كن كاسيات ولكن أولئك شبه عاريات.
قالت زينب: نعم هذا ما يخطر لي كلما طالعتني أجساد كاسية عارية.. في المجلات أو الصحف أو التلفاز أو الشارع، ولكن مدرّستي هذه لم يعجبها كلامي. وقالت:
- إنك فيلسوفة وإن كانت فلسفتك لا تعجبني.. إنها فلسفة العبيد.
قلت لزينب: عجباً لهؤلاء أي منطق يتبعون؟.. الراهبات يرتدين ما يشبه لباس المسلمة فلماذا لا يُوجّه لهن مثل هذا الكلام؟.. حتى فرنسا بلد الحرية والثورة ضاقت بفتيات مسلمات، سترن ما أمر الله بستره، وتوجهن لطلب العلم، فأغلقت الأبواب في وجوههن، وأعلن المسؤولون هناك أن هذا تحد للحضارة الفرنسية، أي حضارة هذه التي يهددها الاحتشام. ويرتفع في ظلها العري والإباحية؟
قالت زينب: يا عزيزتي.. إنها الكراهية التي لا منطق لها.. وفي إحدى المرات راقبتنا ونحن نصلي في ركن مهمل، خصصناه لصلاتنا، إن خشينا أن تفوتنا الصلاة، وعندما انتهينا من الصلاة اعترضت قائلة:
- لماذا هذه الحركات العجيبة في الصلاة؟ ألا يكفي أن يناجي الإنسان ربه بكلمات؟
قلت: لقد تذكرت سؤالاً وجهه ليوبولد فايس "محمد أسد" قبل أن يسلم إلى أعرابي رآه يصلي، إنه نفس السؤال، لماذا هذه الحركات؟ ورد عليه الأعرابي رداً جعله يفكر بهذا الدين طويلاً، كان رد الأعرابي:
"إن الله خلق روحي وجسدي فأنا أعبده بروحي وجسدي".
وفي أحد الأيام تأخرت في الصلاة قليلاً ودخلت غرفة الصف بعد دخول المدرسة بلحظات قليلة.
قالت المدرّسة: أين كنتِ؟
قلت: كنت أصلي.
قالت: ولماذا الصلاة كل يوم؟.. وهل تتعطل أمور ربك إذا لم تصلي له كل يوم؟..
قلت: لا تتعطل أموره سبحانه.. إن الأمر كله بيده، ولكن تتعطل أموري أنا لو انقطعت صلتي به.. وأحسست بغصّة: لماذا يُقاوم الإسلام، ويُفسح المجال لأي ناعق أن يقول ما عنده ويعلنه على الملأ ويتحدى به العالم، ولو كان تأليهاً لبشر.. أو تعصباً لقوم.. أو حتى عبادة لبقر وحجر. وهكذا مرت تلك الأيام بحلوها ومرها.
قلت لزينب: المهم أنك لم تتخلي عن ذلك الظل الذي اخترته وأحببته.
قالت: نعمْ إنه ظل الإسلام الذي منحني الرضى والطمأنينة.. طوال حياتي وفي كل الظروف التي مرت بي، فالحمد لله رب العالمين، وسأحدثك إن شاء الله في اللقاء القادم عن صاحبات لي رافقنني في معظم الطريق ولهن أثرهن في حياتي.