اللقاء الخامس
اهتمام الإسلام بالأسرة
قوامة الرجل هل هي لمصلحة المرأة
المرأة والعمل
الطلاق لماذا؟
وبدأت زينب الحديث:
- لقد كنت ذكرت لك شيئاً عن رفيقتيّ العزيزتين، فاطمة ومريانا، ولكن الحكاية لم تنته فلكل واحدة منهما قصة سأسردها لك، وسأبدأ بفاطمة:
لقد رافقتني فاطمة طوال مرحلتي الدراسية، وتخرجنا معاً في كلية الطب بعد الاختصاص بطب الأطفال، وكنا مغرمتين بالعمل في هذا الميدان، وقد اختارت فاطمة العمل في مشفى خاص، أما أنا فقد كانت لي عيادتي الخاصة، وهذه رغبة والدي رحمه الله.. وقد كان يشرف على المشفى الخاص طبيب جراح، درس في الخارج وكان ماهراً في عمله محبوباً من الجميع، وكانت فاطمة تحدثني عنه باستمرار، كنا صديقتين وأختين، ألف بيننا الإيمان والرضى، وحديثها كان ينم عن الإعجاب والتقدير لإنسان أمضى فترة طويلة من حياته في بلاد بعيدة، لا تدين بالقيم التي يؤمن بها، بل وفي كثير من الأحيان تحارب قيمنا هذه، ومع ذلك عاد أشد تمسكاً بما يؤمن، وكأن رحلته إلى تلك البلاد كانت سبباً مباشراً في توجيهه ليختار طريقه، ويصمم على السير فيه مهما كانت الظروف.
قلت: الحمد لله هناك كثيرون يعودون من مثل هذه الرحلة وقد خلت عقولهم من كل قيمنا وأخلاقنا يعودون أتباعاً وذيولاً لقيم أخرى.. ويؤمنون بنظريات هي الضياع والذل والتبعية.
قالت زينب: وهذا ما جعل فاطمة تحترم هذا الإنسان.. ويبدو أنه هو الآخر قد رأى في فاطمة إنسانة عاقلة لم يغرقها التيار الجارف، الذي انحدر بكثير من الفتيات إلى هاوية التقليد الأعمى لكل ما هو غربي، رأى فيها المرأة المتحضرة، المتعلمة التي تأبى أن تتنازل عن هويتها، مظهراً وعقيدة، ومع ذلك تلتقط الخير أينما وجد لتستفيد منه وتفيد، وقد أخبرتني فاطمة أنه أرسل إليها أخته لتسألها عن رأيها فيه، وهل تقبله زوجاً لو تقدم إليها؟ فأجابتها أن الأمر بيد والدها، وأما رأيها فيه فهو إنسان عظيم بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
وهكذا تزوجا، وكان زواجاً ناجحاً مباركاً، وغمرتني الفرحة، إنها أسرة جديدة تتكون، لتدعم البناء الحضاري لأمة تسعى قوى الشر مجتمعة لتركيعها وإذلالها.
وفي نفس العام تم زواجي من قريب لي، طبيب له عيادة خاصة به، وأحسست أني سأبني أسرة تدعم الكيان الإسلامي العظيم الذي أعيش في ظله، وسأحدثك فيما بعد عن أحداث حياتي تلك.
وأعود إلى فاطمة، لقد سار مركب الحياة بها وبزوجها مساره الصحيح، حياتها طبيعية فيها الألفة والمودة والرحمة، ولا تخلو من خلافات تحسم لصالح المركب الذي يجب أن يستمر ليحضن البراعم الندية، ولقد رزقها الله بولد ثم ببنت، واستمرت علاقتي بها لم تنقطع وكثيراً ما أخذتُ بمشورتها وأخذتْ بمشورتي.. الزوج كان القيم وهو المسؤول الأول وهي إلى جانبه تعينه ويعينها.. تحمل له الحب والاحترام، إنه يقوم بواجبه على خير وجه، لم يتخلَّ عن اهتمامه بأسرته بالرغم مما يحمل من مسؤوليات جسام في الخارج، لم يفعل كما يفعل كثير من الرجال حينما يتركون العبء على المرأة فتخيب آمالها وتشعر أن الزوج قد أخلَّ بالعهد وتخلى عن مهمة ألزمه الله بها.
قلت لزينب: إن كلماتك عن القوامة عبّرت عما في نفسي، وإن كان كثير من الرجال يسيئون فهمها ويظنون أنها سيادة دكتاتورية، بينما آخرون يتخلون عنها ويتركون تكاليفها لتحملها المرأة، فتشعر بالظلم وأنها تحمل أكثر مما تستطيع، كما أن كثيرات من النساء يسئن فهمها ويعتبرن قوامة الرجل ظلماً لهن ويرفضنها، وخاصة اللواتي سحرتهن مقولة حقوق المرأة.
قالت زينب: فيما قلت كثير من الحقيقة ولكن أنا على يقين أن أي امرأة لو خُيِّرَتْ بين رجل ضعيف لا يريد حمل المسؤولية التي كُلّف بها، وبين رجل قوي لا يتخلى عن مسؤوليته تجاه أسرته، لاختارت الرجل القوي المسؤول.
وهكذا كان شعور فاطمة دائماً أنها أحسنت الاختيار، ولم تخف مشاعر الإعجاب في داخلها نحو الزوج العزيز، وإن كانت تشكو أحياناً من ثورات غضبه، نصرة لحق أو دفعاً لظلم، وتقول: أخاف عليه ممن يدوسون الحق ويرفعون راية الظلم خاصة أنهم أصحاب سلطة، وكنت أطمئنها أن الأمر كله بيد الله تعالى.
وجاء اليوم الذي اختاره الله فيه، لينضم إلى قافلة الشهداء عندما أعلن كلمة الحق في وجه الظلم والطغيان الذي عم.. حتى وصلت أنيابه إلى نقابة الأطباء التي هو مسؤول عنها.. فلم يستطع السكوت.. فكان أن جاء زوار الفجر فأخذوه.. وقد أنهى صلاته وجلس للدعاء.. وقريباً من بيته قتلوه.. وروت لي فاطمة التفاصيل وفي عينيها دموع.. قالت: أرجو أن تكتب له شهادة في سبيل الله.. وهذا سيعزيني ويخفف عني.. لقد اغتالوا حتى الدموع في عيني.. فهذه الدموع التي ترينها هي أول دموع تظهر بعد اغتياله.. رحمه الله.
وسألتها: ماذا ستفعلين؟
قالت: سوف أغادر البلد ومعي ابني وابنتي، وسأجاهد لأضمن لهما ولنفسي حياة سليمة والله سبحانه لن يتخلى عنا، وسأجد بعونه تعالى من يقف إلى جانبي..
وفعلاً جاهدت وأعانها الله فهي الآن مسؤولة في هيئة صحية دولية.
وسألت زينب: هل استمرت الاتصالات بينكما؟
قالت: لم تنقطع صلتي بها وأنا معها وهي معي وإن بعدت الشقة، وقد علمت منها أخيراً أن ابنها قد أنهى دراسته العليا واستلم عملاً مهماً، وأما ابنتها فقد تزوجت من أستاذ جامعي بعد أن تخرجت في كلية الهندسة، وقد نقلت لي خبراً سرني عن ابنتها، وهو أنها تريد أن تمارس حقاً منحه لها الإسلام وتخلت عنه كثير من النساء، أتدرين ما هو هذا الحق؟
قلت: لا أدري لعله حق العمل.
قالت: لا إنه حق التفرغ للأسرة والبيت الذي هو مملكة المرأة وموطن راحتها وطمأنينتها.
قلت: إن الإسلام لم يمنع المرأة من العمل خارج البيت ضمن حدود الشريعة، وقد عملت المرأة المسلمة في صدر الإسلام أعمالاً كثيرة.. وفي كافة المجالات.
قالت زينب: نعم لا شك في ذلك ولكن الإسلام لم يوجب عليها العمل خارج البيت كما أنه لم يحرمه إن رغبت فيه ووجدت فيه خيراً لها ولمجتمعها.
قلت: إن ما دفعت إليه المرأة فنادت به وطالبت به هو ظلم كبير لها، لقد غرروا بها وجعلوها تحمل حملين ثقيلين في آن واحد.. العمل في البيت والعمل خارج البيت.. ولقد ذكر محمد رشيد العويد في كتابه "رسالة إلى حواء" استفتاءً قامت به مجلة ماري كير الفرنسية شمل 2،5 مليون فتاة عن رأيهن في الزواج من العرب ولزوم البيت، فأجابت 90% منهن بنعم. أما الأسباب فهي:
مللت المساواة مع الرجل.
مللت حالة التوتر الدائم ليل نهار.
مللت الاستيقاظ عند الفجر للجري وراء المترو.
مللت الحياة الزوجية التي لا يرى فيها الزوج زوجته إلا عند اللزوم.
مللت الحياة العائلية التي لا ترى فيها الأم أطفالها إلا حول المائدة.
قالت زينب: لا شك أنهن صادقات مع أنفسهن ويصورن الحقيقة التي يعشنها.. فعلاً هذا ما حدث ويحدث.. المرأة العاملة تحمل بطيختين بيد واحدة.. وتئن ولا يلتفت إليها أحد.. وما التقيت بامرأة عاملة إلا وشكت من حمل تنوء به.. هذا عدا أمومة وئدت وديست بالأقدام.. وحُرم الطفل من قلوب راعية رحيمة مستعدة لتحمل كل الأعباء. لقد اغتالوا الأمومة.. تلك المهمة السامية.. التي كلفت بها المرأة ولا تستطيع القيام بها إلا الأم.. ومن أجل ذلك وضعت الجنة تحت قدميها.. بينما مهمات الحياة الأخرى يمكن لأي إنسان أن يملأ فراغها.. سواء كان رجلاً أو امرأة.. من خلال العلم والعمل.
قلت: لقد نطقت بالحق يا زينب، إن دعاة حقوق المرأة يريدون وأد أهم حق من حقوق الإنسان.. وهو أن ينشأ في رعاية أمّ متفرغة له. ما أشقى تلك الأمّ التي تسلّم ولدها لحضن آخر لتذهب هي إلى عمل يمكن أن يقوم به أي رجل أو أي إنسان آخر.. ومظلوم ذلك الطفل الذي حرم صدر أمه ورائحة أمه ولمسات أمه.
قالت زينب: أذكر بهذه المناسبة حادثة مؤسفة كان لها أثر عميق في حياتي:
زميلة لي رافقتني في كل المراحل الدراسية ما عدا العليا.. وكانت مهووسة بشيء اسمه حقوق المرأة وعمل المرأة.. وحملت لواء الدعوة إلى تحررها وسفورها.. وعاشت بعيدة عن تعاليم الدين وقيمه.. واختارت مهنة التدريس لتثبت أفكارها.. وترأست جمعية نسائية تدعي الدفاع عن حقوق المرأة.. وكانت تشكو دائماً أن ابنتيها لا ترضخان لمبادئها.. هذه الزميلة تعرضت لحادث مأساوي، فلم تقو على تحمله، وقد تجلت فيه حكمة المولى عز وجل.. جاءها المولود الذكر بعد طول انتظار.. ومع ذلك لم يحجزها عن القيام بمهمات تعتبرها مقدسة، وضعت الصغير الذي لم يتجاوز عمره الأشهر في عربة، لتنطلق إلى ميدان العمل الهام، واستدارت لتغلق الباب، فسبقتها العربة لتهوي بالطفل إلى أسفل السلم، وتوفي الطفل وانهارت الأم ولم تقو على تحمل الصدمة، وفقدت استقرارها النفسي.. ونفرت من كل متع الدنيا، وبعد فترة قصيرة لحقت بطفلها واستقرت في رحاب من حاربت تعاليمه واستهانت بقيمه.
قلت: لاشك أن الإيمان بالله والشعور بوجوده، خير معين للإنسان على تحمل أحداث الحياة، وأظن أن رصيد هذه المرأة من الإيمان كان صفراً، ولذلك تهاوت بهذا الشكل، والله أعلم.
قالت زينب: النفس الراضية المطمئنة هي النفس المؤمنة، التي تستعين بالله وتلجأ إليه في الشدائد، فيُعينها ويُهوّن عليها الأمر، ولقد مررت بتجارب مماثلة سوف أحدثك عنها عندما أحدثك عن مراحل حياتي الأخرى، والآن لنعد إلى ابنة فاطمة التي تريد أن تمارس حقاً تخلّى عنه كثير من النساء، وهو حقها في الاستقرار بالبيت، ولتؤدي مهمة أساسية ستُسأل عنها يوم القيمة، وقد أيدها زوجها فيما ذهبت إليه، وبالأمس وصلتني رسالة منها تعبّر عن سعادتها وإحساسها بالرضى مع الزوج والأولاد، وأنها تمارس هوايات محببة إليها مثل الخياطة.. والمطالعة.. وحضور الندوات والمحاضرات.. وأن وقت الفراغ لا وجود له في حياتها.. وتسأل هل الوقت الذي يصرف في منح المحبة والرحمة للأولاد والزوج والناس يعتبر وقتاً ضائعاً؟
قلت: وبماذا أجبتها؟
قالت: طبعاً أجبتها بأنه وقت مأجور لأنه يصرف على أسمى مهمة على وجه الأرض، فالأسرة التي تُؤسّس على المودة والرحمة هي أسرة مستعدة للعطاء، والمرأة هي الشعلة الدائمة التي بإمكانها أن تمد الوجود كله بمشاعر الخير والنماء من خلال بيتها وأسرتها، ومع ذلك فكثيرات من النساء يسعين وراء السراب، ثم يكتشفن أنهن خُدعن، وحمّلن أنفسهن ما لا تطيق.
قلت: ولكن ألا تظنين أن المرأة مضطرة في كثير من الأحيان إلى طرق أبواب العمل خارج البيت، سعياً وراء الرزق، ولتأمين حاجات الأسرة، لأن دخل الرجل لا يكفي، أو هو عاطل عن العمل لسبب من الأسباب، أو غير موجود؟
قالت زينب: لاشك أن كثيرات لهن مثل هذه الظروف.. في هذه الحالة يجب أن تمنح التقدير الذي تستحقه والمعونة التي تحتاجها.. وأن تُراعى ظروفها، من قبل الأسرة والمسؤولين عن عملها، سواء الدولة أو المؤسسات الخاصة..
قلت: لاشك أن المرأة تتعرض لظلم كبير في هذا المجال، حتى إنها في كثير من البلدان تمنح أجراً أقل من الرجل مع أنها تقوم بنفس العمل، عدا عدم مراعاة ظروفها في فترة الحمل والولادة، ثم عدم منحها الفرصة الكافية للإشراف على الطفل وهو في أمس الحاجة إليها.
قالت زينب: بل وأكثر من ذلك ففي بعض البلاد (العربية) لا يسمح لها باستحضار مساعدة لها، تحل محلها في البيت حال انشغالها بالعمل، وحجتهم في ذلك أن راتبها دون الحد الذي نص عليه القانون، وإذا كان راتبها يسمح واستحضرت مساعدة، أخذوا منها ضريبة ضخمة تعادل ما تأخذه المساعدة ويتكرر هذا كل عام، (وهذا ما حصل في بعض دول الخليج بالنسبة للمرأة غير المواطنة).
قلت: إن هذا ظلم كبير للمرأة العاملة.. ولا أدري كيف يفكرون ويحكمون، وهل بإمكان امرأة غير مطمئنة على بيتها وأطفالها أن تعطي وتبذل؟ إن المرأة تظلم في هذا الجانب، ولا أدري لماذا لا تهتم الجمعيات النسائية بمثل هذا الظلم.. عوضاً من المناداة بتحرير المرأة من دينها وقيمها وأخلاقها.
قالت زينب: إنه التقليد الأعمى للغرب دون وعي، ودون دراسة للواقع لمحاولة تصحيح المسار وإزالة العقبات.
قلت: لقد أخذنا الحديث بعيداً في موضوع المرأة والعمل، والآن أرجو أن تحدثيني عن رفيقتك مريانا، فقد أخبرتني أن لها قصة، وقد بدأتها لي في لقاء سابق، وأرجو أن أسمع ما بقي منها.
قالت زينب: إن مريانا صنف نادر من البشر، وفي حياتها دليل على أن الإنسان مؤمن بالفطرة، فقد نشأت في بيئة مسيحية متدينة، ومع ذلك فقد كنت أشعر أنها قريبة مني وأنها تعيش معي في ظل الإسلام، ففي إحدى الجلسات جرّنا الحديث إلى قضية صلب المسيح عليه السلام.
قلت لمريانا: كيف يعذب البريء ويهان ولماذا؟ هل من العدل أن يعاقب عيسى عليه السلام على خطيئة ارتكبها آدم عليه السلام، ويكون فداء للبشرية ليخلصهم من خطيئة ارتكبها أبوهم؟! أين المنطق في هذا؟
قالت مريانا: لا أدري وإن كنت تثيرين في نفسي تساؤلات كامنة لا أجرؤ على البوح بها. إنهم يرددون دائماً أن أمور الدين هي فوق المنطق والعقل.
قلت: هذا غير صحيح فليس في أحكام الدين ما يتنافى مع العقل والمنطق، وإن كانت هناك أمور لا تستوعبها عقولنا لأنها لم تُخلق لهذا، مثلاً ليس لنا أن نبحث في شأن الذات الإلهية، فعقولنا لم تُخلق لهذا، ولكننا ندرك بالعقل أنه سبحانه واحد أحد لم يلد ولم يولد.. وأما بالنسبة لخطيئة آدم فقد حلّها قرآننا الكريم ببساطة إذ قال سبحانه وتعالى:
)فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم( البقرة 37.
وأما أن يعاقب البريء عوضاً عن المخطئ فهذا منتهى الظلم، وقرآننا ينهى عن ذلك إذ يقول:
)ولا تزر وازرة وزر أخرى( الإسراء 15.
أي لا يعاقب البريء بدل المذنب، فهذا ظلم وحاشا لله أن يكون ظالماً كما أن في ذلك إلغاء لمسؤولية الإنسان عن أعماله وقد نفى القرآن الكريم قضية صلب المسيح عليه السلام فقال:
)وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم( النساء 157.
قالت مريانا: كلماتك تريحني لأنني في كثير من الأحيان أشعر بالضياع، ولا أدري أين الحقيقة في ألوهية المسيح؟ أين الحقيقة في بنوة المسيح؟.. وأين الحقيقة في الأقانيم الثلاثة؟..
وهكذا كانت تنتهي نقاشاتنا غالباً، وأنهينا المرحلة الثانوية معاً، وكانت تؤازرني في مواقفي دائماً وتشعرني أنها تعيش معي في ظل الإسلام، وإن لم تأخذ بشيء من مظاهره، وبعد انتهاء المرحلة الثانوية اختارت مريانا دراسة اللغة الفرنسية وآدابها.. ولم تنقطع لقاءاتنا، وقد أسرّت لي أنها معجبة بابن عم لها لم يكمل تعليمه بعد الثانوية، وانشغل بإدارة أعمال أبيه بعد وفاته، كما أنه يتودد لها، ولكنها لن تتزوج قبل انتهاء دراستها.
وحصلت على الشهادة الجامعية، وعُينت مُدرّسة في إحدى المدارس الثانوية في بلدتنا، وحققت أمنيتها وتزوجت من ابن عمها، وغمرتها السعادة وأنجبت ابنها الأول، وانشغلت كل منّا عن الأخرى فترة من الزمن، انشغلت مريانا بأسرتها وعملها، وهي المدللة المرفهة وحيدة أبويها، كما انشغلت بأسرتي وبولدي الأول، تجربتي الأولى في الأمومة.. قلقي وانشغالي وأنا بعيدة عنه وهو بأيد ليس فيها حس الأمومة ولا تحركها عاطفة الأم، وكانت خالتي هي اليد الحنونة التي أطمئن لها على فلذة كبدي.. ولبّت رغبتي وجاءت لتعيش معي.. بعد أن انقطعت فترة عن عيادتي وعملي.. هكذا مرت الأيام ولم أتصل بمريانا ولم تتصل بي، ويشاء الله أن ألتقي بها في حفلة مدرسية دعيت لها ووجدتها في قمة الشقاء والحيرة.
قلت لزينب: لماذا الشقاء والحيرة، بعد أن تزوجت ممن تريدين وأصبحت أماً؟
قالت: خدعها قلبها فلم تلتفت لعيوب كثيرة في الزوج الذي اختارته، ومع ذلك صبرت وتحملت الكثير، فالطلاق محرّم في شريعتها، وجاء اليوم الذي لم يعد فيه مجال للتحمل، فالزوج عاشق لأخرى وهو يلتقي بها دائماً.. بل أحضرها إلى مزرعته، وأقام لها بيتاً ويتعامل معها كزوجة متحدياً تعاليم دينه وقيم مجتمعه، وعادت مريانا إلى كنف أمها وأبيها مع ولدها، تتجرع كأساً مُرّة لا نهاية لها. وسألتني ما الحل، أشعر كأنني معلقة في الفضاء بين السماء والأرض؟ وقالت: تخيلي أرسل لي بالأمس يرجوني أن يسجل ابنه الذي جاءه من عشيقته على اسمي فرفضت ولا أدري ماذا أفعل.
وخففتُ عنها وقد شعرت بقسوة معاناتها.
قلت لزينب: فعلاً مشكلتها ليس لها حل في ظل شريعة تُحرّم الطلاق كما تحرّم الزواج بثانية، ألست معي أن الطلاق في كثير من الأحيان هو مطلب للمرأة وحل لمشكلاتها.
قالت زينب: هذا صحيح وقد نظم الإسلام قضية الطلاق بدقة وحكمة، ووضعه بيد الرجل أو بيد المحكمة، وذلك لأن الطلاق بالنسبة للرجل خسارة كبيرة لن يقدم عليها إلا مكرهاً، فسيخسر مع الزوجة المهر والنفقات التي أنفقها، ولذلك غالباً ما يلجأ الرجل للمحاكم وتسعى المحكمة لإعادة الاستقرار وإيجاد الحلول، فإن تعذر ذلك يكون الطلاق هو العلاج المناسب لمصلحة الأسرة، كما أنه الدواء المر لحفظ الكرامة لكلا الزوجين.
قلت: ماذا تقصدين بكرامة الزوجين؟
قالت: شعور الرجل بأن الزوجة لا تريده، أو شعور المرأة بأن الزوج لا يريدها، كما هو الحال بالنسبة لمريانا، فالحل هنا هو الطلاق بالنسبة لمجتمع يحافظ على القيم. أما في المجتمعات الأخرى فالحل أن تجاري المرأة الرجل وتبحث عن البديل، وهنا الطامة الكبرى التي ستدمر الأسر ثم المجتمع، ويتشرد الأطفال، وتنشأ الأجيال في جو بعيد كل البعد عن الجو السليم. فالكل يلهث وراء شهوته بعيداً عن إنسانية وكرامة الإنسان.. وسعياً وراء المادة والجنس والرفاهية.
قلت: الشيء المميز بالنسبة للطلاق في الإسلام.. أنه منظم بدقة وحكمة، فهو قد وضع للضرورة ولمصلحة كل الأطراف، كما أنه أبغض الحلال إلى الله، وهو حق للمرأة كما هو حق للرجل وإن كان على المرأة أن تلجأ للقضاء، أو تتفق مع الرجل وبذلك يتم التفريق أو المخالعة.
قالت زينب: نعم أذكر بهذا الخصوص قصة تلك المرأة، وقد وردت في "صحيح البخاري" و"موطأ الإمام مالك" وغيرهما واسمها حبيبة بنت سهل، جاءت إلى النبي صلوات الله عليه وسلامه فقالت:
"يا رسول الله ما أعيب عليه من خُلق ودين ولكن أكره الكفرَ في الإسلام.."
تقصد أنها لا تألف زوجها، وتعايشه وهي مكرهة، وتخشى على نفسها من الانحراف إن لم يفرق بينهما، فأمر النبي الكريم أن ترد عليه حديقته التي هي مهرها وفرّق بينهما، ولم ينكر عليها ما طلبت، إنه الإسلام دين الفطرة ودين الكرامة.
قلت لزينب: الحل في ديننا موجود ومع ذلك فنسبة الطلاق في بلادنا قليلة إذا قيست بما يحدث في البلاد التي تخلّت عن القيم وكثُرت فيها المغريات، وزالت مشاعر المودة والرحمة وحلت محلها دوافع الشهوة والهوى، فديننا أوجد لنا الحلول من خلال مراعاته للفطرة والواقع البشري، ومشكلة كمشكلة مريانا لن تجد لها حلاً في ظل الديانات التي لم تستوعب حقيقة الإنسان.. وأنه ليس ملاكاً، كما أنه ليس حيواناً تسيّره الغرائز والشهوات ولا شيء غير ذلك.. فما رأيك؟
قالت زينب: ليس رأيي ولكنه الواقع فكثيرات يعانين مما عانت منه مريانا ولا حل إلا في الانحراف والضياع.. أو الهروب كما فعلت مريانا.. لقد قررت أن تذهب بعيداً وتنشغل بالعلم فسافرت إلى فرنسا، وقررت أن تنال الدكتوراه في الأدب الفرنسي، وهناك لمست لمس اليد ما يعانيه مجتمع يقال إنه متحضر من انحراف وضياع في جوانبه الإنسانية، وإن بدا ضالعاً في التقنية والعلوم.
واستمرت المراسلات بيني وبينها.. وأخبرتني أنهم يعاملونها كمسلمة، لأنها عربية، وأنها تسكن مع أسرة عربية مسلمة وهذا يريحها نفسياً.. وأنها تسعد بحضور ندوات ومناقشات تُبحث فيها أمور كثيرة، وقد أخبرتني في إحدى رسائلها أنها حضرت محاضرة تحدثت فيها إحدى السيدات عن الإسلام وأنه الدين الذي وقف إلى جانب المرأة وأنقذها من ظلم الجاهلية.. وبعد انتهاء المحاضرة وُجهت أسئلة كثيرة للمتحدثة.. أحسنت الإجابة عنها.. وأن أحدهم أراد أن يحرجها فقال:
- حديثك جميل ومقنع عن الإسلام، ولكن ألا تؤمنين معي أن تعدد الزوجات فيه ظلم كبير للمرأة؟
وكان رد المحاضرة أكثر إحراجاً فقالت:
- أنا أود أو أوجه سؤالاً للرجال: مَن منهم مكتف بزوجته؟!
- فلم يجب أحد.. فقالت:
- هذا يكفيني الآن وسنتحدث في المحاضرة القادمة عن تعدد الزوجات إن شاء الله تعالى.
قلت لزينب: إنهم يغضون طرفهم عن تعدد الخليلات ونتائجه المدمرة، ويوجّهون سهامهم لتشريع إلهي حكيم وُجد لمصلحة الجميع.
قالت زينب: وهكذا وجدتُ مريانا شيئاً فشيئاً تتقرب من الإسلام، تستقي من منابعه، وتجد فيه الحل لمشكلتها، ولم تكن مفاجأة لي عندما أخبرتني أنها اختارت الإسلام منهاجاً لحياتها بعد اقتناع ودراسة، وأنها ستبقى في فرنسا لتتقي المصادمة مع أسرتها.. وإن كان أبواها وافقا على اختيارها، وسجّلا باسمها معظم ما يملكانه من عقارات فهي وحيدتهما، كما أعطيا ابنها ما يكفيه، وقد سافرا إليها مراراً وأيداها بكل ما تفعل، أما ابنها فله حريته وله اختياره عندما ينضج عقله، ويكتمل وعيه، وقد فضّل اللحاق بأمه إلى ذلك البلد ليكمل تعليمه، خاصة أن أباه لم يمنحه الرعاية الكافية.
قلت: إذن لقد وجدت مريانا حلاً لمشكلتها في الإسلام، ولكن هل بقيت بلا زوج؟
قالت: بل تزوجت أخيراً من فرنسي اهتدى إلى الإسلام بعد أن بحث طويلاً عنه، فانتقل من مبدأ إلى آخر ومن عقيدة إلى أخرى ثم حط رحاله في رحاب الإسلام، وأعلن أنه وجد فيه الحقيقة التي بحث عنها طويلاً، وهو يعمل في ميدان الأدب والصحافة، أما مريانا فانصرفت إلى التدريس في مؤسسة تشرف عليها هيئة عربية إسلامية.
قلت: وبذلك حُلّت جميع المشاكل حتى مشكلة زوجها السابق أيضاً فيما أظن، فبإمكانه أن يحول علاقته المحرمة إلى علاقة شرعية.
قالت: لا علم لي بما حل بذلك الزوج وبعلاقته وما حُكم ما فعل وهل لفعله حل؟ المهم أن الله تعالى يسّر لمريانا كافة أمورها، وهي تعيش الآن حياتها مستقرة يظللها الرضى والاطمئنان وصدق الله العظيم إذ يقول:
)ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً( الطلاق 4.
وسأحدثك في اللقاء القادم ‘إن شاء الله عن أمور مرّت في حياتي ولا تزال محفورة في ذاكرتي، والآن وداعاً وفي أمان الله أنت وكل الذين يستظلون بظل رحمته سبحانه وتعالى.