مفاهيم حقوق الإنسان ومنطلقاتها بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي
تُعدُّ مفاهيم حقوق الإنسان من القضايا الإنسانية الجوهرية التي تحظى بجدل واسع بين المثقفين والمتعلمين والإعلاميين في العصر الحديث. يُشاع بأن حقوق الإنسان غير موجودة، وهو ادعاء يُستهدف ليس فقط الغرب والقيم الغربية، بل قد يُحاول أيضاً التشكيك في وجودها ضمن الأديان والقيم الإنسانية الأخرى. إلا أن حقوق الإنسان تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، فهي قضية إنسانية قيميّة ودينية، قائمة على المنطق السليم والفطرة الإنسانية. فما حقيقة حقوق الإنسان في الإسلام وفي الغرب، ومن المسؤول عن تفعيلها وحمايتها؟ وماذا لو القوي الذي ينبغي أن يحميها انتهكها وضيع حق الضعيف فيها صغيراً كان أو امرأة أو شيخاً هرماً أو ذوي الهمم؟ من الأجدر بدلاً من التشكيك في وجودها البحث عن أسباب اختفائها أو سبل تفعيلها، لأن الحكم على حقوق الإنسان بالنفي أو السلب يشكل كارثة على البشرية بأسرها.
أولاً: حقوق الإنسان في الإسلام
مفهوم حقوق الإنسان في الإسلام
أرى أن مفهوم حقوق الإنسان في الإسلام، وإن لم يكن هذا المصطلح بذاته مستعملاً في التراث الإسلامي، يتمثل في التعامل مع الإنسان، ذكراً كان أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، مسلماً أو غير مسلم، وفق التصور الإسلامي للإنسان بوصفه مخلوقاً مكرّماً. فالإنسان في الإسلام هو خليفة الله في الأرض، كما ورد في قوله تعالى: ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ [البقرة: 30]. وقد كرّمه الله وفضّله على كثير من مخلوقاته، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ {الإسراء: 70}
التكريم الإلهي للإنسان في الإسلام يتجلى في كونه حراً، له إرادة واختيار، وليس عبداً إلا لله، وهذه الحرية جوهرية، تجعل الإنسان مسؤولاً عن أفعاله أمام الله يوم القيامة. كما أن الإسلام يُقر المساواة بين البشر جميعاً، دون تمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين، مصداقاً لقول النبي ﷺ في خطبة حجة الوداع: “يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى.”
هذا المفهوم يؤكده قول ربعي بن عامر عندما خاطب رستم قائد الفرس قائلاً: “جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.” فالإسلام جاء ليحرر الإنسان من قيود الاستعباد البشري، ليكون حراً خاضعاً لله وحده، ويعيش حياة عادلة متزنة.
وكذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟” وهو دعوة صريحة إلى صيانة كرامة الإنسان وحريته الفطرية. ويُضاف إلى ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى الخلافة: “إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.” مما يعكس مفهوم المسؤولية والشفافية والعدل بين الحاكم والمحكوم.
والإسلام لا يكتفي بالدعوة إلى الحرية والمساواة، بل يؤكد على العدل والإنصاف، كما قال تعالى: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ [النحل: 90] ويُعطي الإنسان حرية الإرادة والاختيار، حتى في مسائل العقيدة، مصداقاً لقوله: ﴿لا إكراه في الدين﴾ {البقرة: 256} وهذا المفهوم يؤكد أن الإسلام لا يفرض قناعاته قسراً، بل يعتمد الإقناع والحوار.
بناءً على هذا التصور، فإن حقوق الإنسان في الإسلام ليست مجرد حقوق قانونية، بل هي جزء من منظومة إيمانية وروحية تؤكد كرامة الإنسان وتضمن له الحرية والمساواة والعدالة.
ثانياً: مكانة حقوق الإنسان في مقاصد الشريعة ورسالات الأنبياء
1. المقاصد الخمسة في الإسلام
يؤسس الإسلام حقوق الإنسان على المقاصد الخمسة التي تُعتبر أساساً لحفظ حقوق الإنسان:
حفظ النفس: تأمين حق الإنسان في الحياة.
حفظ الدين: تأمين حرية الاعتقاد والدين في إطار الإسلام.
حفظ العقل: حماية العقل من كل ما يفسده، كالخمر.
حفظ النسل: ضمان حقوق الأسرة والأطفال.
حفظ المال: تأمين حق الإنسان في التملك وحمايته من السرقة أو الظلم.
كما يحرص الإسلام كذلك على تحقيق هذه المقاصد وتفعيلها وحمايتها عبر العبادات والتشريعات والآداب الإسلامية مثل حرمة الغيبة والنميمة والظلم والسرقة والقتل وغيرها من الكبائر، والمأمورات والتشريعات التي جاء رسل الله بها. وإن حقوق الإنسان يكمن في جوهر رسالة الأنبياء بعد تكريس وغرس عقيدة التوحيد.
2. دور رسالات الأنبياء في حفظ حقوق الإنسان
كل نبي أُرسل برسالة إصلاحية متكاملة، هدفها إصلاح المجتمع وحفظ حقوق الإنسان بعد إثبات التوحيد. تناولت هذه الرسائل مختلف الجوانب الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عانت منها مجتمعاتهم. من أبرز ما جاء به الأنبياء لإصلاح مجتمعاتهم:
آدم عليه السلام:
جاء آدم عليه السلام ليعلم الإنسان مسؤوليته في الأرض ويحفظ كرامته كمخلوق مكرّم.
علّمه الله الأسماء كلها، مما مهد الطريق لحياة قائمة على العلم والتفاهم والعدل.
نوح عليه السلام:
دعا نوح عليه السلام إلى المساواة بين البشر ومحاربة التمييز الطبقي، كما في قوله: ﴿وما أنا بطارد المؤمنين﴾ [هود: 29].
أكد أن الإيمان لا يرتبط بالمكانة الاجتماعية أو الطبقية، مما يعزز مبدأ العدالة الاجتماعية.
هود عليه السلام:
دعا قومه عاد إلى التواضع وترك الغرور والطغيان: ﴿أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون﴾ [الشعراء: 128-129].
حثهم على احترام حقوق الآخرين وترك الاستبداد الذي يقوض كرامة الإنسان.
صالح عليه السلام:
ركز على الاستدامة والعدل، داعياً قومه إلى عدم الفساد في الأرض: ﴿ولا تطيعوا أمر المسرفين﴾ [الشعراء: 151].
حذرهم من الغش في التجارة وحثهم على الوفاء بالكيل والميزان.
إبراهيم عليه السلام:
حارب الشرك وأكد على حرية الإنسان في عبادة الله وحده، مما يحرره من عبودية الأصنام والأنظمة المستبدة.
دافع عن الحق والعدل في وجه الظلم والطغيان الذي كان سائداً في قومه.
لوط عليه السلام:
حارب الفساد الأخلاقي والانحراف السلوكي في قومه: ﴿أتأتون الذكران من العالمين﴾ [الشعراء: 165].
دعا إلى التزام القيم الأخلاقية التي تحفظ استقرار المجتمعات.
شعيب عليه السلام:
ركز على الإصلاح الاقتصادي ومنع الظلم في التجارة: ﴿أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين﴾ [الشعراء: 181].
دعا إلى حماية حقوق الناس الاقتصادية ومنع استغلالهم.
يوسف عليه السلام:
وضع نظاماً اقتصادياً عادلاً يحمي الناس من المجاعات، قائلاً: ﴿اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم﴾ [يوسف: 55].
عفا عن إخوته، مما يظهر أهمية التسامح في بناء مجتمع سليم.
موسى عليه السلام:
دعا إلى تحرير بني إسرائيل من الظلم والعبودية التي فرضها فرعون: ﴿أن أرسل معي بني إسرائيل﴾ [الأعراف: 105].
أرسى أسس العدالة والحرية، وحارب الاستبداد والاستغلال.
داوود وسليمان عليهما السلام:
أقام داوود عليه السلام العدالة بين الناس: ﴿فاحكم بين الناس بالحق﴾ [ص: 26].
سليمان عليه السلام ركز على تنظيم المجتمع ورعاية الحقوق للجميع، بما في ذلك حقوق البيئة والحيوانات.
عيسى عليه السلام:
دعا إلى الرحمة والمساواة، ووقف مع المستضعفين والفقراء، قائلاً: ﴿وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً﴾ [مريم: 32].
كان مثالاً للتواضع ومحاربة الظلم الاجتماعي.
محمد ﷺ:
أرسى مبادئ حقوق الإنسان الشاملة في خطبة الوداع: “يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وأباكم واحد… لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.”
دعا إلى إقامة العدل والمساواة بين الناس، ومحاربة العبودية بجميع أشكالها.
وهكذا كانت رسائل الأنبياء عليهم السلام شاملة للإصلاحات الاجتماعية، الاقتصادية، والأخلاقية، وهدفها الأساسي حفظ حقوق الإنسان وتحقيق العدل والكرامة في المجتمعات.
ثالثاً: مفهوم حقوق الإنسان في الفكر الغربي
تعريف حقوق الإنسان في الفكر الغربي
حقوق الإنسان في الفكر الغربي تُعرَّف بأنها الحقوق الأساسية التي يمتلكها الفرد بصفته إنسانًا، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية. تُعد هذه الحقوق ذات طبيعة عالمية ولا يجوز انتهاكها، لأنها تُستمد من الكرامة الإنسانية المتأصلة.
ومن أهم معالم حقوق الإنسان في الفكر الغربي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948. زيحتوي على 30 مادة تتناول الحقوق الأساسية التي ينبغي أن يتمتع بها كل فرد في العالم. يمكن تقسيم هذه الحقوق إلى عدة فئات رئيسية تشمل الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
والفلسفة الإغريقية والرومانية القديمة من أهم مصادر حقوق الإنسان في الفكر الغربي، حيث تناول أفلاطون وأرسطو مبادئ العدالة والقانون الطبيعي. كما تناولها الفلاسفة الرواقيون، مثل شيشرون، إذ أكدوا على وجود قوانين طبيعية عالمية تنبع من العقل وتلزم جميع البشر.
هذا وتعد الديانة المسيحية إحدى مصادر حقوق الإنسان في الفكر الغربي، حيث ساهمت في ترسيخ فكرة الكرامة الإنسانية باعتبار الإنسان مخلوقًا على صورة الله. كما أن تعاليم المسيحية ركزت على العدالة، المساواة، وحماية الضعفاء. جدير بالذكر في سياق الحديث عن مصادر حقوق الإنسان في الفكر الغربي أن لعصر النهضة والتنوير الأوروبي دور كبير كذلك في تعزيز فكرة الحقوق، فقد شهد الفكر الغربي تحولًا كبيرًا مع ظهور الفلاسفة الذين ركزوا على الحرية الفردية والعقلانية كأساس للحقوق.
مصادر حقوق الإنسان في الفكر الغربي
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948، ويحتوي على 30 مادة تتناول الحقوق الأساسية.
الفلسفة الإغريقية والرومانية: حيث تناول أفلاطون وأرسطو مبادئ العدالة والقانون الطبيعي.
الفلاسفة الرواقيون: مثل شيشرون، الذين أكدوا على وجود قوانين طبيعية عالمية تنبع من العقل.
الديانة المسيحية: التي ساهمت في ترسيخ فكرة الكرامة الإنسانية باعتبار الإنسان مخلوقًا على صورة الله.
عصر النهضة والتنوير الأوروبي: الذي عزز فكرة الحقوق من خلال التركيز على الحرية الفردية والعقلانية.
الخطوط العريضة لبنود حقوق الإنسان في الفكر الغربي
الحقوق المدنية والسياسية: حماية الحريات الأساسية وضمان مشاركة الأفراد في الحياة العامة، مثل الحرية، المساواة، والأمن.
الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية: تلبية الحاجات الأساسية للعيش الكريم وضمان رفاهية الأفراد في مجالات العمل، الصحة، والتعليم.
الحقوق الجماعية والسياسية: حقوق الشعوب والجماعات، مثل حق تقرير المصير وحماية الأقليات.
حقوق المرأة والطفل: تحقيق المساواة بين الجنسين وحماية حقوق الفئات الأكثر ضعفاً.
حقوق الفئات الخاصة: حماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، اللاجئين، والعمال المهاجرين.
الحقوق البيئية: حماية البيئة وضمان العيش في بيئة صحية وآمنة.
رابعاً: المقارنة بين المفهومين الإسلامي والغربي لحقوق الإنسان
الأسس المشتركة
كلا الفكرين الإسلامي والغربي يعترفان بأهمية حقوق الإنسان وضرورة حمايتها، إلا أن منهجية تعريفها وتنفيذها تختلف:
الإسلام: حقوق الإنسان في الإسلام مرتبطة بمفهوم عميق للإيمان والالتزام الديني، حيث تُعتبر جزءاً من منظومة إيمانية وروحية تؤكد كرامة الإنسان.
الغربي: حقوق الإنسان في الفكر الغربي تُعرَّف بشكل أكثر علمية ومنطقية، وتعتمد على مبادئ
الاختلافات في التنفيذ والتطبيق
الإسلام: يُعزز حقوق الإنسان من خلال الشريعة الإسلامية التي تُحدد الحقوق والواجبات بالتفصيل، وتُطبق عبر التشريعات والآداب الإسلامية.
الغربي: تُطبق حقوق الإنسان عبر الأنظمة القانونية الحديثة والتشريعات الدولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتُعزز من خلال المؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية.
القيم الأساسية المتبعة
الإسلام: التركيز على العدل، المساواة، والحرية ضمن إطار ديني.
الغربي: التركيز على الحرية الفردية، الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية.
خاتمة
حقوق الإنسان هي قيمة إنسانية عالمية تتجاوز الثقافات والأديان، وتُعتبر من أهم المبادئ التي تجمع بين الفكر الإسلامي والغربي. بالرغم من اختلاف المناهج والتطبيقات، إلا أن الهدف الأسمى هو حماية كرامة الإنسان وضمان حريته ومساواته. إن تعزيز هذه الحقوق يتطلب تعاوناً وتفهماً مشتركاً بين مختلف الثقافات والأديان، لضمان تحقيق مجتمع عادل ومزدهر يعترف بحقوق كل فرد فيه.