حَرْث الدُّنيا وحَرْث الآخِرة فأي الحارثين أنت ؟!
فمن حرث للدنيا أوتي منها ما كُتب له، ولكنه يخسر الآخرة، ومن حرث للآخرة فاز بالآخرة ولم يفته ما قدر له من الدنيا بل تأتيه دنياه وهي راغمة.
ومن حسنة حرث الآخرة أنه حرث مضاعف مبارك ويبقى أثره ونفعه لصاحبه لأنه تعامل مع الله تعالى بخلاف حرث الدنيا فإنه غير مبارك ولا مضاعف ولا يبقى لصاحبه؛ فهو زائل عنه بالموت، والدنيا بأسرها زائلة بالآخرة ( وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [الأعلى: 17] ( وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى ) [الضحى: 4]
إن زيادة حرث الآخرة ومباركته ومضاعفته ثابت بالقرآن الكريم :
( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ )
[الشورى: 20]
وفي آية أخرى:
( وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً )
[الإسراء: 19]
ومن فوائد إرادة حرث الآخرة : أن الله تعالى يوفّق صاحبه للازدياد منه، والتلذذ به فكلما عمل عملاً صالحًا قاده إلى غيره وهذا معنى من معاني الزيادة في قوله سبحانه : ( نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) [الشورى: 20] أي : نفتح له أبوابًا أخرى من الخير وندله على أعمال صالحة ما كان يعملها ونعينه على عملها ولا يوفَّق لذلك إلا أصحاب الإرادة الجازمة أما من يتمنى ولا يعمل فهو غير مريد حقيقة
وتأملوا التعبير القرآني بالحرث لأن الحارث يتعب في حرثه وزرعه وغرسه لما يرجو من غلته وثمرته ولما كان حرث الأرض أصلاً من أصول المكاسب استعير لكل متكسب ومنه قول ابن عمر -رضي الله عنهما-: " أحرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا " وسمي الإنسان حارثًا لعمله وكسبه وورد في الحديث أن أصدق الأسماء همام وحارث لأنهما يعبران عن حقيقة الإنسان
وبقدر صواب حرثه في أرضه، وزرعه في وقته وجده في عمله، تؤتيه الأرض أكلها وقد يجتهد ويتعب في حرثه وزرعه ولا تنتج أرضه وذلك كمن زرع الزرع في غير أوانه، أو بذر البذر في غير مكانه وهذا كمن دان بغير الإسلام، أو خالف السنة في عمله فكم يتعب أحبار اليهود ورهبان النصارى وسدنة المعابد الوثنية ويوقفون حياتهم كلها على معبوداتهم وينقطعون لها في معابدهم ولكن ليس لهم من عبادتهم نصيب لأنها عبودية صرفت لغير من يستحقها وذلك كمن حرث في غير أرض الزرع فليس له من حرثه زرع ولا ثمر مهما تعب قال الله تعالى فيهم : ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) [الكهف: 104] وفي آية أخرى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ) [الفرقان: 23] فأخبر الله تعالى أن لهم سعيًا وعملاً وحرثًا وزرعًا، ولكنه لا ينفعهم وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا : ( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ ) [المجادلة: 18]
فلا ينفع عمل الآخرة إلا بتحقيق الشهادتين : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وذلك بالإيمان والإخلاص في العمل واتباع السنة وإلا كان عملاً في غير محله، فلا ينفع صاحبه مهما اجتهد فيه كما لا ينفع الحارث زرعه مهما اجتهد إن وضعه في غير أرضه أو زرعه في غير وقته.
وأما من أراد حرث الدنيا فإن الله تعالى لا يعطيه منها إلا ما قُدِّر له : ( وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) [الشورى: 20] فأخبر سبحانه أنه مبخوس الحظ في الآخرة، ليس له فيها أي نصيب. وجاء هذا المعنى في قول الله تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) [الإسراء: 18] وفي آية أخرى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [هود : 15، 16] قال قتادة -رحمه الله تعالى-: " من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل الله تعالى له نصيبًا في الآخرة إلا النار ولم يزدد بذلك من الدنيا شيئًا إلا رزقًا قد فرغ منه وقسم له " وجاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : " من كانت الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ الله غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَجَمَعَ له شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كانت الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ الله فَقْرَهُ بين عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عليه شَمْلَهُ ولم يَأْتِهِ من الدُّنْيَا إلا ما قُدِّرَ له " رواه الترمذي وابن ماجه.
أيها الناس : من تأمل الآية القرآنية التي فيها ذكر حرث الآخرة وحرث الدنيا وجد أن حرث الآخرة رُجِّح على حرث الدنيا بأنواع من الترجيح فقدم الله تعالى ذكر مريد حرث الآخرة على مريد حرث الدنيا مع أن الدنيا قبلها في الحياة والزمن وما ذاك إلا لشرف الآخرة وحقارة الدنيا.
وقال في مريد حرث الآخرة :
( نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) [الشورى: 20]
فأثبت الزيادة له على ما عمل
بينما قال في مريد حرث الدنيا :
( نُؤْتِهِ مِنْهَا ) [آل عمران: 145]
وكلمة (من) للتبعيض
والمعنى : أنه يعطيه بعض ما يطلبه ولا يُعطى كله
وفي طالب حرث الآخرة لما أخبر بالزيادة له سكت عن الدنيا في حقه وفي آيات أخرى بيَّن أنه يأتيه رزقه منها ولا يحرم منها بالكلية كقوله تعالى : ( كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ) [الإسراء: 20]
وأما طالب حرث الدنيا فإنه تعالى نص على أنه لا يعطيه شيئًا من نصيب الآخرة
وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول :
الآخرة أصل والدنيا تبع، فواجد الأصل يكون واجدًا للتبع بقدر الحاجة.
والآية دالَّة على أن منافع الآخرة والدنيا ليست حاضرة بل لا بد في البابين من الحرث والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاقّ في البذر والسقي والتعاهد والحصد والتنقية فلما سمى الله تعالى كلا القسمين حرثًا علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق ثم بيّن تعالى أن مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال وأن مصير الدنيا إلى النقص والخسران.
فلنعمل -عباد الله-
في حرث الآخرة حتى يكون لنا فيها نصيب
ولنحذر من إرادة حرث الدنيا فنحرم ثواب الآخرة
ولن ننال من الدنيا إلا ما قدّر لنا
( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه )
[الزلزلة: 7، 8]
اتقوا الله ربكم، واحرثوا لآخرتكم ما تجدونه بعد موتكم وخذوا من سرعة انتهاء المواسم العظيمة عبرة لمرور الدنيا وانقضاء العمر فإنه يذهب سريعًا !