قص الأثر مهارة شعبية قديمة برع فيها أبناء الصحراء العربية تفاعل الإنسان العربي مع بيئته، حيث أمعن النظر بتأنٍ وعمق إلى كل ما حوله، وتمكن من أن يتكيف مع حيوانات ومناخ ونباتات بيئته. فكان أن برع سكان الصحراء في إتقان مهارة «قص الأثر» حيث كانوا يتتبعون بنجاح آثار الحيوانات والوحوش. ولعل ما ساعدهم على إتقان هذه المهارة نعومة الأراضي الرملية حيناً وبياضها في أحيان أخرى. وعبر القرون المتعاقبة تراكمت لدى أبناء الصحراء خبرات مهمة ومتطورة عن قص الأثر، الأمر الذي أكسبهم فراسة وفطنة ودقة ملاحظة. أما بالنسبة إلى الأراضي الصخرية والجبلية فلا يستطيع قص الأثر فيها إلا مختص ذو خبرة طويلة في هذا الفن الشعبي الصحراوي «فهو قد يستدل على الأثر واتجاه المسير بحصاة مقلوبة أو غصن مكسور أو عشب مدعوس، كما ينبغي أن يكون على دراية ومعرفة بطبيعة الأرض وتضاريسها، ويعرف الممرات الإجبارية والنقابات التي يجتازها الإنسان الراجل أو الراكب، والممر الذي يجتازه الحيوان، وهل هذه المنطقة بها مياه، ويقص موارد الماء لحاجة الكائن الحي له، ويعرف المدة التي يصبر فيها عن الماء، ويظل يخمن المسار الذي يطرقه صاحب الأثر إلى أن يعثر له على خطوات»(1). وتزداد محنة قصاص الأثر عندما يكون الجو ماطراً وعاصفاً، عندها يمّحي كل أثر في الصحراء والوديان والجبال. *قص الأثر في كتب التراث حظيت مهارة قص الأثر باهتمام المؤرخين، ومن ذلك ما أورده «المسعودي» في كتابه «مروج الذهب» حيث يقول: «... والقيافة لبني مدلج وأحياء مر بن نزار بن معد، كما كان من فعل بني نزار الأربعة في مسيرهم نحو الأفعى الجرهمي ووصفهم للجمل الشارد حين قال أحدهم إنه أعور وقال الثاني إنه أزور وقال الثالث إنه أبتر وقال الرابع إنه شرود، وهكذا وصفوه ولم يشاهدوه. ومن هنا تفرقت القيافة في أحياء مضر على حسب ما تغلغل في العروق ونزع، وأهل المياه أكهن، وأهل البر الفائح أقوف، وبأرض الجفار ـ وهي بلاد الرمل بين مصر وبلاد الشام ـ أناس من العرب في تلك الجفار يتناول الإنسان من تمر نخلهم فيغيب عنهم السنين ولم يروه ولا شاهدوه، فإن رأوه بعد مدة علموا أنه الآخذ لتمرهم ولا يكادون يخطئون، وهذا من فعلهم مشهور ولا تكاد تخفى عليهم أقدام أحد، ورأيت بهذه الأرض قد رتبهم ولاة المنازل يطوفون في هذا الرمل، يعرفون بالقصاص يقصون آثار الناس وغيرهم» *من أسرار قص الأثر لقص الأثر أسرار كثيرة أسرار لا يعرفها إلا أبناء الصحراء، ولاسيما العارفين منهم. ومن ذلك أن القصّاص يمعن النظر إلى طبعة القدم سواء أكانت لإنسان أم لحيوان، ويعرف إن كان بها اعوجاج أو حنف، وعندما يلاحظ القصاص عمق القدم اليسرى عن القدم اليمنى يوقن بأن صاحب القدم إنساناً كان أم حيواناً يبصر بعينه اليسرى فقط. ولقص أثر الحيوانات مهارات خاصة. تقول الكاتبة نورة السويدي: «ولا يجد قصاص الأثر صعوبة في معرفة أثر الحيوانات بأنواعها، وتشخيصها، ولمعرفة أثر الناقة من الجمل يلاحظ القصّاص أن خف الجمل ينهب الأرض نهباً بينما خف الناقة يلامس الأرض بلطف، في حين تكون خطوة الناقة، الحامل مضطربة تكون خطوة الجمل الذي يحمل أثقالاً على ظهره عميقة ومتقاربة، في حين أن الجمل الذي لا يحمل ثقلاً يكون أثر خطواته واسعاً وقدمه على سطح الأرض وإذا تبين أثر لجمل ظهرت فيه الأرجل الأمامية مع الخلفية فهذا الجمل يجري وهو يحمل شيئاً. أما إذا كانت خطواته منتظمة فهذا يدل على أن الجمل طبيعي لا يحمل شيئاً، كما أن الطريق التي تحتوي أعشاباً تكشف عن إمكان الرؤية عند الجمل، فالجمل الأعور يأكل من جهة واحدة في الطريق حيث يرى بعينه السليمة، أما إذا وجد شيئاً من وبر الجمل على الأشواك فهذا يدل على أن الجمل المار في المكان أجرب يحك جسمه باستمرار» *قص الأثر بالعاقب إذا وصل القصاص إلى منطقة غير مسموح بها للدخول كأراضي دولة أخرى أو مناطق ملغومة فينبغي له العودة متتبعاً الأثر بالعكس ليصل إلى المكان الذي انطلق منه صاحب الأثر، وبالتالي فمسؤولية صاحب الأثر المتبع تقع على عاتق أصحاب المكان الذي انتهى إليه الأثر ويسمّى هذا القصّ «قص الأثر بالعاقب». *من فوائد قص الأثر ينظر أبناء الصحراء بتقدير كبير إلى قصاصي الأثر وذلك لما يقدمونه من خدمات جليلة تتعلق بأمن الأفراد ومكافحة السرقات وسلامة المواشي والأموال. ورغم قلة دور قص الأثر في وقتنا الحاضر فلازالت أجهزة البحث الجنائي والشرطة تستعين بخبرات قصاصي الأثر في الحوادث الغامضة. وسيظل فن قصّ الأثر شاهداً على عبقرية ابن الصحراء الذي تمثل بيئته فذلل مصاعبها وحجّم مخاطرها. فضلاً عن أن هذا الفن يعد من أقدم الفنون الشعبية الإنسانية، ومن أكثر مهارات الإنسان الأنثربولوجية رقياً وتميّزاً. |
|