تأويل سـورة المسد
بعد أن بيَّن الله تعالى لنا في سورتي الناس والفلق ما يندفع عنا من الشرور إذا نحن عُذْنا بربِّنا والتجأنا إلى خالقنا، وبعد أن عرَّفنا في سورة الإخلاص بصفاته تعالى ليكون لنا في تلك المعرفة حافز يحفِّزنا إلى ذلك الإقبال، ودافع يدفعنا إلى الالتجاء. أراد سبحانه في هذه السورة الكريمة أن يبيِّن لنا ضرورة التعوُّذ والإقبال فذكر لنا ما يجرُّه الإعراض، وما يكون عليه حال المُعرض عن الله، ولذلك قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}: وتبَّت يدا فلان أي: عجزتا وضعُفتا عن القيام بما عزم عليه من أعمال. إذ أنَّ التباب هو العجز والضعف والخسران.
يُقال: أصبح فلان تابّاً، أي: عاجزاً ضعيفاً. وفي المثل: كنتُ شاباً فصرتُ تابّاً، وأبو لهب: رجل من قريش، وهو عمُّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. وقد كان أبو لهب في الجاهلية غنياً مُثرياً، وكان يُقرِضُ الناس المال، وينال عليه فائدةً ورباً، فلما أن بعث الله رسوله بالهدى ودين الحق، خافَ أبو لهب على دنياه، فقام يُشاقق ويُعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحسب أنه إنما يستطيع بذلك أن يردَّ الحق، ويُطفئ نور الله، ولكن تبَّت يدا أبي لهب وقصرتْ يداه وعجزتا عن مقاومة الحق، وذهبت مساعيه أدراج الرياح.
وتبَّ: أي خسر خسراناً كلِّياً أبدياً، فهو لم يستطع أن يدحض الحقَّ بمعارضته، بل عاد عليه سعيه بالذل والخسران في الدنيا، ورجع عليه عمله بالخسران في الدار الآخرة، فأصبح من أهل النار والخالدين فيها أبداً.
ويكون مجمل معنى كلمات {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}: أي: عَجَزَ أبو لهب عن ردِّ الحق ودحْضه، ولم تُفِدْهُ معارضته، ولم تُجْدِهِ شيئاً.
وتبَّ: أي وأهلك نفسه هلاكاً كلِّياً أبدياً، فخسر الدنيا وما كان يناله بإسلامه من عزٍّ، وخسر الآخرة وما كان يلقاه فيها من نعيم.
{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}: وأغنى أي: أجداه ونفعه، يُقال: ما أغنى هذا الدواء عن المريض شيئاً، أي: لم يُفِده، ولم يدفع عنه ألماً ولا وجعاً.
فأبو لهب جمع ما جمع من مال، وعارض ما شاء أن يُعارض، كلُّ ذلك لتبقى له دنياه، وليظلَّ متمتِّعاً بما فيها من شهواتٍ، ولكن لمَّا جاء أمر الله تعالى، وحقَّ عليه الهلاك، لم يفده ولم يغنِ عنه ماله أبداً.
لم يكن ما كسبه وقام به من أعمال ليدفع عنه أمر الله تعالى، بل حاق به العذاب، وحلَّ به الشقاء دَهْر الدهور وأبد الآباد.
{سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ}: ويصلى: من صَلِيَ، وصَلِي الأمر: قاسى شدته. والنار كلُّ جوهرٍ مُضيءٍ مُحرق، والمراد بالنار: هنا ما خالط نفس أبي لهب من الشرِّ، وما تخلَّل فيها من مُحرِقِ الشهوات والخبث.
واللهب: لسان النار الساطع، واللهب: الحرُّ والاشتعال، يُقال: لَهَبتِ النارُ، أي: اشتعلت خالصة من الدخان.
والمراد بالنار ذات اللهب، أي: النار الشديدة الاشتعال والاضطرام.
ويكون ما نفهمه من آية: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ}: أي إن الأعمال التي قام بها أبو لهب السيِّئة ستنقلب عند موته ناراً ملتهبة فيه، وما تخلَّل في نفسه من الشهوات الخبيثة سيُحرقه وسيُصبح سعيراً عليه.
ويكون والحالة هذه عمله السيِّء هو ناره وعذابه، وتعود نفس المعرِض الشريرة سعيره الذي يضطرم به ويلهبه، وهنالك ومن رحمة الله بهذا الشقيِّ المريض، الذي جرَّ لنفسه ذلك السعير والعذاب الأليم، أن يأمُر به إلى الجحيم، فتكون نار الله الموقدة علاجاً لما فيه من النار، ويكون سعيرها دواءً لما يكابده من الاحتراق.
ونعوذ بالله من حال أهل النار فهم بين نارين، قال تعالى: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ # يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) سورة الرحمن (43-44).
{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}: وفي هذه الآية الكريمة بيان لما سينشأ في نفس امرأة أبي لهب من العذاب وبيان للسبب الذي جرَّ لها ذلك الشقاء، قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ}: أي إنها عند موتها أيضاً ستعود نفسها سعيراً عليها، وستنقلب أعمالها الخبيثة التي قدَّمتها في الدنيا ناراً محرقة فيها، كما هو حال زوجها.
ثم بيَّن تعالى السبب الذي جرَّ ذلك لها، فقال تعالى: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}: والحطب: ما أُعِدَّ من الشجر وقوداً للنار، والمراد بالحطب هنا: الأعمال التي كانت تقوم بها هذه المرأة لتصُدَّ الناس عن الله، وذلك التحريض الذي كانت تحرِّض غيرها لتُشعل الفتنة تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه الأعمال، وذلك التحريض، وتلك الفتنة، هي الحطب الذي كانت تحمله وتسعى به، وهو الذي سيجرُّ لها تلك الآلام، فيجعلها في منزلة زوجها، تصْلى معه ما يصلاه، فتعود نفسها كلِّياً ناراً ملتهبة، تقاسي منها آلاماً مريرة، وتُكابد حريقاً أبدياً.
{فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}: والجيد: هو العنق: والحبل: هو الرباط والوصال والتواصل.
والمسد: هو المحور من الحديد، أو الحبل المضفور المحكم الوصل.
والمراد بكلمة (في جيدها)، أي: ما يمرُّ بعنقها من القول منبعثاً من نفسها وصدرها وجارياً على لسانها.
والمراد بكلمة (حبل): وصف ذلك القول بالتواصل والاستمرار.
والمراد بكلمة (من مسد): وصف تلك الحالة النفسية القائمة فيها من حيث التصميم على الإيذاء، وشدّة العزم على معارضة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هي عليه من الإصرار.
ويكون ما نفهمه من آية: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَد}: أي أن الكلام المؤذي الذي كان ينبعث من نفسها، جارياً على لسانها متواصلاً تواصُلَ الحبل، كان ناشئاً عن عزم أكيد، وتصميمٍ قويّ فيها، كأنه الحبل المحكم المضفور الذي يكاد لا ينقطع أبداً. وكان ذلك كلّه سبباً في هلاكها كما هَلَكَ زوجها.
فإذا أنت أيُّها الإنسان لم تُقبل على ربِّك، ولم تعتز به الاعتزاز الصادق، فلا شكَّ ولا ريب أنَّك تفعل ما فعل أبو لهب وامرأته، وستقع فيما وقعا به.
(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيد) سورة فصلت (46).
( وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) سورة العنكبوت (6).
اقتبسنا لكم ذلك من كتاب تأويل جزء عم لفضيلة العلامة الكبير محمد أمين شيخو