بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
صدمَ الصحابةَ رضى الله عنهم وهو يهاجم النبى الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم ويأخذ بتلابيبه ويسبُّ قبيلته صارخاً فى وجهه الأنور:
ألا تقضينى يا محمد حقى؟
فوالله ما علمتكم يا بنى عبدالمطلب إلا لَمُطل، [أى تُماطلون فى الوفاء بالدَّين]..
ولقد كان لى بمخالطتكم علم..
فيتطاير الغضب من عينى عمر وينتفض جسمه وهو يقول:
يا عدو الله!
أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتصنع به ما أرى؟
فوالذى بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوتَه لضربت بسيفى رأسك!
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر فى سكون وتؤدة وتبسُّم، ثم يقول:
(أنا وهو.. كنّا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر..
أن تأمرنى بحسن الأداء، وتأمره بحسن التِّباعة [أى طلب الدَّين]..
اذهب به يا عمر فاقضِ حقه وزِده عشرين صاعاً مكان ما رُعْتَه) [أى أخفته]
فينطلق به عمر وهو متعجّب ويعطيه التمر ويزيده عشرين صاعاً.. كما أمره النبى..
فانتقلت الصدمة وسرى التعجب إلى الرجل وهو يسأل..
الرجل: لم زِدتنى فوق مالى؟
عمر: أمرنى بذلك رسول الله تلقاء ما رُعتك.
الرجل: أتعرفنى يا عمر؟
عمر: لا.. فمن أنت؟
الرجل: أنا زيد بن سَعنَة.
عمر: الحبر؟! (يعنى حاخام اليهود وعالمهم الكبير).
الرجل: الحبر.
عمر: فما دعاك أن فعلت برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت، وقلت له ما قلت؟
الرجل: يا عمر.. إنه لم يبقَ من علامات النبوة شىء إلا وقد عرفتها فى وجه رسول الله حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه:
يسبق حلمُه جهلَه، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، فقد اختبرتهما..
فأُشهدك يا عمر أننى قد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وأُشهدك أن شطر [نصف] مالى فإنى أكثرُها [أكثر يهود المدينة] مالاً صدقةٌ على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فرجع عمر وزيد بن سعنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فقال زيد: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..
ينبغى أن نتوقف كثيراً أمام هذا الموقف..
فالرجل اليهودى الذى جاء يطالب النبى بمقابل ماله الذى استدانه منه قبل موعد السداد متهجماً عليه أمام الصحابة عند رجوعهم من مقبرة البقيع أراد أن يختبر حِلم النبى الذى قرأ عن أوصافه فى التوراة..
- الرجل خاطر بحياته ليعرف الحقيقة..
تهجّم بيده ولسانه على النبى بين أصحابه.. فى بلد آمن أهلها بالنبى وأحبوه وحكّموه فى أمرهم وبايعوه واستعدوا للموت دفاعاً عنه.. وفى عصر يعيش ثقافة الرد القوى ويتقلد أهله السيوف.. وبغضّ النظر عن صحة تصرفه من خطئه لكنه عرّض حياته للخطر فى سبيل معرفة الحقيقة..
فهل نتعلم من الموقف قيمة جدّية البحث عن الحقيقة؟
- عمر بن الخطاب، الرجل القوى المعروف بقوة بطشه وعظيم غيرته على النبى صلى الله عليه وآله وسلم ومحبته له، لم يحتمل الموقف وكاد أن يقتل الرجل، لكن الغيرة العمرية كانت منضبطة بالأوامر المحمدية..
فهل نتعلم من الموقف أن الغضب لما نراه تعدياً على أهل الحق لا يُبرر التصرفات الخاطئة والمخالفة للهَدْى المحمدى؟
- سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الخلق وخاتم الأنبياء المؤيد بالحق المطلق من السماء والممَكَّن من قلوب أهل المدينة والممتلك لزمام القرار فيها..
يأخذ الرجلُ بتلابيبه ويتطاول عليه وعلى قبيلته.. ويطالبه بغير استحقاق قبل موعد السداد..
فلا يلتفت إلى تجاوز الرجل بينما ينتقد انفعال عمر صاحبه الذى آمن به ونصره ووالاه!
ويشتغل بتقويم المؤيد عن تأديب المعارض المعتدى!
ويُعبّر عن ذلك بلسان التواضع الصادق: (أنا وهو كنّا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر.. أن تأمرنى بحسن الأداء.. وتأمره بحسن التِّباعة)!
فهل نتعلم من الموقف أولوية ترشيد المؤيد الموالى قبل معاتبة المخالف المتجاوز؟
- (أنا وهو كنّا أحوج إلى غير هذا)..
ما أعمق هذا الخطاب، وكم هو ملىء بالدروس.. فالمعصوم المؤيد بوحى السماء يقول بأنه أحوج إلى النصح!
وفى حالة وجود اختلاف بينه وبين كافر به مُتعدٍّ على جنابه الشريف!
فيضع نفسه على قدم المساواة مع الخصم الكافر؟!
نعم، فالقضية متعلقة بشأن من شئون الحياة..
ولأن للرجل جزئية حق هى الأصل فى الخصومة وإن لم يكن موعد السداد قد حان وإن أخطأ الرجل وتعدى فى أسلوب المطالبة..
فهل نتعلم من الموقف عدم خلط قضايا الحقوق بخلفيات الدين والعنصر والانتماء، وعدم تبرير التقاعس عن أدائها بأخطاء المطالبين بها؟
- (أن تأمرنى بحسن الأداء)..
ويا لها من عبارة، فمن يأمر من؟ وهل قصّرتَ نفسى لك الفداء؟
أنت اقترضت المال لمساعدة الفقراء، والرجل هو من عرض عليك القرض دون طلب منك، وموعد السداد لم يحن وقته، وأكثر من كل هذا..
الرجل تطاول وتعدى وأساء عند المطالبة!
ومع ذلك لم تقبل التغافل عن كون الرجل يطالب بحقه ولم تتخذ من تجاوز الرجل فى المطالبة بحقه مبرراً للامتناع عن إعطائه حقه.. بل أمرت بإعطائه أكثر مما يستحق مقابل ردة الفعل اللفظية تجاهه لأنها تسببت فى ترويعه وإخافته!
فهل نتعلم من هذا الموقف تعظيم قيمة أداء الحقوق وإن تجاوز أصحابها حدود المطالبة إلى التعدى؟
- (وأن تأمره بحسن التباعة)..
جاء التنبيه على تقويم صاحب الحق إذا أخطأ فى طريقة المطالبة بحقوقه، حتى لا تتحول المطالبة بالحقوق إلى وسيلة لتبرير التعدى..
ولكن..
جاء هذا التنبيه بعد الاعتراف بحقه..
وتعليم المؤيدين معنى الإنصاف للحق والتعظيم لقيمة الاعتراف به..
وعدم إقرارهم على الإيذاء المعنوى بترويع الآخر أو إنكار حقه فى المطالبة لمجرد أنه أساء أو تعدى بأسلوبه فى المطالبة..
فالمؤيد والمعارض أمام الحق سواء..
والمؤمن والكافر فى ميزان العدالة عند المطالبة بالحقوق سواء..
وصحبة عمر رضى الله عنه ومحبته للنبى وولاؤه له لا تمنحه الصواب المطلق فى تصرفاته دفاعاً عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم..
فهل نتعلم من الموقف أن كوننا أصحاب حقوق لا يجعلنا فوق المطالبة بحسن التصرف؟
وهل نتعلم من الموقف أن تقويم تصرفات المتعدين فى أسلوب المطالبة بحقوقهم يبدأ بالاعتراف بها أولاً.. وبرفض تجاوزات المُوالين لنا ثانياً.. ثم يأتى ترشيد المطالبين بالحقوق إلى حسن المطالبة بعد ذلك؟
اللهم صلِّ وسلم على صاحب الخُلق العظيم والقدْر الفخيم مَن أرسلته رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وألحقنا بخُلقه وأدبنا بأدبه، وأحى فينا وفى أُمته هذه المعانى يا كريم.