عجبا لقلب المؤمن ..يشدوه الحنين الى البيت العتيق .. فلا تهدأ روحه ..
حتى تكتحل عينيه برؤيته .. فتختلط مشاعر الشوق واليقين بدموع اللقاء ..
وهاهي مكه تحتضن بين جوانبها .. نداءات الملبين .. وعبرات الموحدين ..
مهللين ومكبرين .. يصدح صدى صوتهم بالافق البعيد ...
وقد قصدوا بيت الله الحرام .. بقلوب زالت عنها الاهواء ..
منكسره ذليله .. ترجوا عفو الله وغفرانه ..
يجمعهم صعيد واحد .. بلباس واحد .. ويتجهون الى رب واحد ..
يسودهم السلام .. وتجمعهم المساواه ..حيث لا فرق بين عربي ولا اعجمي الا بالتقوى ..
نراهم ما بين طائف ومعتمر وما بين رافع اكفه الى السماء داعيا ...
وهاهم حجاج بيت الله الحرام يصلون مكة حيث السكينة وراحة الفؤاد، ويسن لمن يصل إلى مكة
أن يغتسل قبل دخولها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك؛ فإذا وصل إلى المسجد الحرام سن
له تقديم رجله اليمنى ويقول: {بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم
وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم اللهم افتح لي أبواب رحمتك}
فإذا وصل إلى الكعبة قطع التلبية قبل أن يشرع في الطواف الأول وهذا الطواف هو طواف القدوم
ويقدم عليه الحاج سواء كان متمتعاً أو مفرداً أو قارناً ثم يقصد الحجر الأسود ويستقبله، ثم يستلمه
بيمينه ويقبله إن تيسر ذلك ولا يؤذي الناس بالمزاحمة، ويقول عند استلامه: "بسم الله والله
أكبر". فإن شق التقبيل استلمه بيده أو عصا، وَقَبَّلَ ما استلمه به، فإن شق استلامه أشار إليه،
وقال: "الله أكبر".
ويجعل البيت عن يساره حال الطواف، وإن قال في ابتداء طوافه: ((اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك
ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم)) فهو حسن لأن ذلك قد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم ويطوف سبعة أشواط ويرمل في جميع الثلاثة الأول ويمشي في الأربعة
الباقية، يبتدئ كل شوط بالحجر الأسود ويختم به، والرمل هو الإسراع في المشي مع مقاربة
الخطى.
وإن شك الحاج في عدد الأشواط بنى على اليقين وهو الأقل، فإذا شك هل طاف ثلاثة أشواط أو
أربعة جعلها ثلاثة، وهكذا يفعل في السعي.
ويستحب له أن يضطبع في جميع هذا الطواف دون غيره، والاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت
منكبه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر ولا يشرع الرمل والاضطباع في غير هذا الطواف ولا في
السعي ولا للنساء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل الرمل والاضطباع إلا في طوافه الأول
الذي أتى به حين قدم مكة، ويكون حال الطواف متطهرا من الأحداث والأخباث، خاضعا لربه
متواضعا له..
ويستحب له أن يكثر في طوافه من ذكر الله والدعاء، وإن قرأ فيه شيئا من القرآن فحسن، ولا يجب
في هذا الطواف ولا غيره من الأطوفة. ولا في السعي ذكر مخصوص ولا دعاء مخصوص.
وأما ما أحدثه بعض الناس من تخصيص كل شوط من الطواف أو السعي بأذكار مخصوصة أو
أدعية مخصوصة فلا أصل له، بل مهما تيسر من الذكر والدعاء كفى، فإذا حاذى الركن اليماني
استلمه بيمينه وقال: "بسم الله والله أكبر" ولا يقبله، فإن شق عليه استلامه تركه ومضى في
طوافه، ولا يشير إليه ولا يكبر عند محاذاته؛ لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
ويستحب له أن يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، وكلما حاذى الحجر الأسود استلمه وقبله وقال: "الله أكبر". فإن
لم يتيسر استلامه وتقبيله أشار إليه كلما حاذاه وكبر.
وبعد فراغه من هذا الطواف يرتدي بردائه فيجعله على كتفيه وطرفيه على صدره قبل أن يصلي
ركعتي الطواف خلف المقام إذا تيسر له ذلك، وإن لم يتيسر له ذلك لزحام ونحوه صلاهما في أي
موضع من المسجد، ويسن أن يقرأ فيهما بعد الفاتحة، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ثم
يقصد الحجر الأسود فيستلمه بيمينه إن تيسر له ذلك اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وعلى الحاج إن كان متمتعاً أن يسعى بين الصفى والمروة وإن كان مفرداً ومقارناً فلا يجب عليه
السعي بعد طواف القدوم ولكن إن فعله الحاج المفرد أو المقارن صح وأجزأه.
فيخرج إلى الصفا من بابه فيرقاه أو يقف عنده والرقي على الصفا أفضل إن تيسر، ويقرأ عند ذلك
قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَآئِرِ اللَّهِ} الآية.
ويستحب أن يستقبل القبلة ويحمد الله ويكبره ويقول: "لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز
وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" ثم يدعو بما تيسر رافعا يديه، ويكرر هذا الذكر والدعاء
ثلاث مرات ثم ينزل فيمشي إلى المروة حتى يصل إلى العلم الأول فيسرع الرجل في المشي إلى أن
يصل إلى العلم الثاني.
وأما المرأة فلا يشرع لها الإسراع بين العلمين لأنها عورة، وإنما المشروع لها المشي في السعي
كله، ثم يمشي فيرقى المروة أو يقف عندها والرقي عليها أفضل إن تيسر ذلك، ويقول ويفعل على
المروة كما قال وفعل على الصفا ما عدا قراءة الآية وهي قوله تعالى:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَآئِرِ اللَّهِ}، فهذا إنما يشرع عند الصعود إلى الصفا في الشوط الأول فقط؛
تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسرع في موضع الإسراع
حتى يصل إلى الصفا، يفعل ذلك سبع مرات ذهابه شوط، ورجوعه شوط؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم فعل ما ذكر، وقال: ((خذوا عني مناسككم))، ويستحب أن يكثر في سعيه من الذكر والدعاء
بما تيسر، وأن يكون متطهرا من الحدث الأكبر والأصغر، ولو سعى على غير طهارة أجزأه ذلك،
وهكذا لو حاضت المرأة أو نفست بعد الطواف سعت وأجزأها ذلك؛ لأن الطهارة ليست شرطا في
السعي، وإنما هي مستحبة.
فإذا كمل السعي حلق رأسه أو قصره إن كان متمتعاً، والمرأة لا يشرع لها إلا التقصير، والمشروع
لها أن تأخذ من كل ضفيرة قدر أنملة فأقل، والأنملة هي رأس الإصبع، ولا تأخذ المرأة زيادة على
ذلك. فإذا فعل المحرم ما ذكر فقد تمت عمرته وحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام،
وأما من أحرم بالحج مفردا أو بالحج والعمرة جميعا فيسن له أن يفسخ إحرامه إلى العمرة ويفعل
ما يفعله المتمتع إلا أن يكون قد ساق الهدي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك
وقال: ((لولا أني سقت الهدي لأحللت معكم)).