الوجه البلاغي أو التفسيري لما ورد فيها . وفي الآيات الواردة يحمل السياق في طياته إشارة يحتمل أن تكون هي الجواب عن الفرق بين قوله تعالى :
(وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) البقرة، وقوله عز وجل : (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) الأنفال .
فآية البقرة سياقها يتحدث عن كفار قريش ، والأمر بقتال المعتدين منهم ، ومقابلة اعتدائهم بالصد والدفاع ، فقد انتهكوا الحرمات ،
واعتدوا وظلموا ، والله لا يجب المعتدين .
يقول الله عز وجل :
( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ . وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ . فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ . الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ )
البقرة/190-194.
وأما سورة الأنفال فهي من السور التي تفصل أحكام الجهاد والقتال ضد عموم الكفار ، وليس كفار قريش خصوصا ، وتشرع
الحكم الذي يعم الأحوال والأزمان والأشخاص ، فكان سياقها عاما يراد به جميع الكفار . يقول الله تعالى : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ . وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ )
الأنفال/ 38-40.
فإذا تبين اختلاف السياقين عرفنا أن السياق الذي يتحدث عن عموم الكفار ، سواء كانوا مشركين أم أصحاب ديانات أخرى :
يناسبه أن يقال فيه ( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، وعلو الإسلام يقضي أن يكون هو الدين الظاهر
على جميع الديانات ، إما بعدد المسلمين ، أو بالحكم بالشريعة ، أو بفسح المجال لتبليغ الدعوة الحقة .
وأما السياق الذي يتحدث عن مشركي أهل مكة ، وليس فيهم أي دين آخر ، فيناسبه قوله عز وجل فيه : ( وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ )،
فلا حاجة لكلمة ( كله ) لأنه دين واحد في مكة ، وهو دين عبادة الأصنام . هذا هو حاصل ما ذكره بعض المفسرين في بيان الحكمة في الفرق بين الآيتين . يقول أبو حيان الأندلسي رحمه الله : " قيل : وجاء في الأنفال : ( وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ ) ولم يجئ هنا : ( كله )؛ لأن آية الأنفال في الكفار عموماً ، وهنا في مشركي مكة
، فناسب هناك التعميم ، ولم يحتج هنا إليه . قيل : وهذا لا يتوجه إلاَّ على قول من جعل الضمير في : ( وقاتلوهم ) ، عائداً على
أهل مكة على أحد القولين "
ويقول ابن عرفة المالكي رحمه الله : " قوله تعالى : ( وَيَكُونَ الدين لِلَّهِ ) وفي الأنفال : ( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) وأجاب بعضهم : بأن هذه في قتال كفار قريش ،
وتلك في قتال جميع الكفار ؛ لأن قبلها ( قُل لِّلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ )، فالمراد في آية البقرة ( ويكون الدّين )
الّذي هم عليه لله ، ودينهم بعض الدين لا كله ، بخلاف آية الأنفال " . " تفسير ابن عرفة المالكي " (2/561) تحقيق حسن المناعي ، مركز البحوث .
ويقول الألوسي رحمه الله :
" لم يجئ هنا كلمة ( كله ) كما في آية الأنفال ؛ لأن ما هنا في مشركي العرب ، وما هناك في الكفار عموماً ، فناسب العموم هناك
، وتركه هنا "
والله أعلم .