قديمًا قالوا: إن أمناء الأسرار أقل وجودًا من أمناء الأموال، وحفظ الأموال أيسر من كتمان الأسرار؛ لأن أحراز الأموال منيعة بالأبواب والأقفال، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق. ومن عجائب الأمور أن الأموال كلما كثرت خزانها كان أوثق لها، أما الأسرار فكلما كثرت خزانها كان أضيع لها السر نوعان: الأسرار على ضربين: أحدهما: ما يبوح به إنسان لآخر من حديث يُستكتم، وذلك إما تصريحًا كأن يقول له: اكتم ما أقول لك، وإما حالاً كأن يتحرى القائل حال انفراده بمن يتحدث معه، أو يخفي حديثه عن بقية مجالسيهِ. في هذا قيل: إذا حدثك إنسان بحديث فهو أمانة. أما الضرب الثاني من الأسرار: فهو أن يكون حديثَ نفسٍ بما يستحي الإنسان من إشاعته، أو أمرًا ما يريد فعله. والكتمان في النوعيين محمود؛ فهو في الأول نوعٌ من الوفاء، وفي الثاني نوعٌ من الحزم والاحتياط والستر. كتمان السر.. طريق النجاة: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سِرُّك أسيرك، فإن تكلَّمتَ به صِرْت أسيره. فكم من إظهار سر أراق دم صاحبه ومنعه من بلوغ مآربه، ولو كتمه أمِنَ سطوته. قال بعضهم: من حصَّن سره فله بتحصينه خصلتان: الظفر بحاجته، والسلامة من السطوات. إن في الكتمان قضاء الحوائج، وإنجاح المقاصد وبلوغ الغايات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود". وما أحسن ما قال الشاعر: أجود بمكنون التـلاد وإنني *** بسري عمَّن سألني لضنين وإن ضيَّع الأقوام سري فإنني *** كتوم لأسرار العشير أمين إفشاء السر خيانة: إن الناس يخالط بعضهم بعضًا ويفضي بعضهم إلى بعض بما قد يكون سرًا، وإن من الخيانة أن يُستأمن المرء على سر فيذيعه وينشره، ولو إلى واحد فقط من الناس، فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حدَّث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة". ولأن الكرام ينأون بأنفسهم عن أخلاق اللئام فقد رأينا هؤلاء الكرام يربون أبناءهم على حفظ الأسرار وعدم إشاعتها، فها هي أم أنس بن مالك رضي الله عنها يتأخر عليها ولدها أنس فتسأله: "ما حَبَسَك؟ قال بعثني رسول الله لحاجة. قالت ما حاجته؟ قال: إنها سر. قالت: لا تحدثنَّ بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا". وذات يوم أسرَّ معاوية رضي الله عنه إلى الوليد بن عتبة حديثًا فقال الوليد لأبيه: يا أبتي إن أمير المؤمنين أسرَّ إليَّ حديثًا وما أراه يطوي عنك ما بسطه إلى غيرك. قال: فلا تحدثني به، فإن من كتم سره كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه. قال الوليد: يا أبتي وإن هذا ليدخل بين الرجل وبين أبيه؟ قال: لا والله يا بني، ولكن لا أحب أن تُذلِّل لسانك بأحاديث السر. قال الوليد: فأتيت معاوية رضي الله عنه فأخبرته، فقال: يا وليد أعتقك أخي من رق الخطأ. إفشاء سر الزوجة: إن بعض الناس – هداهم الله – صاروا يتحدثون في مجالسهم بما يكون بين الرجل وامرأته، وإن هذا نوع من إفشاء السر، وصاحبه – رجلاً كان أو امرأة – هو من شر الناس عند الله تعالى، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها". بل وصل الأمر إلى أن يشبهه النبي صلى الله عليه وسلم بشيطان أتى شيطانة في الطريق والناس ينظرون. لا تلومنَّ إلا نفسك: إذا استودعت أحدًا سرك فأفشاه فلا تلومنَّ إلا نفسك؛ إذ كان صدرك أضيق عنه. قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ما وضعت سري عند أحدٍ فأفشاه عليَّ فلمته؛ أنا كنت أضيق به حيث استودعته إياه". إذا المرء أفشى سـره بلسـانـه *** ولام عليـه غيـره فهو أحمـق إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه *** فصدر الذي يستودع السر أضيق كرام الرجال يفخرون بكتمان الأسرار: إذا كان الرجال معادن، فإن كتمان الأسرار يدل على جواهر الرجال ومعادنهم؛ ولهذا وجدنا أصنافًا من الرجال يفاخرون بكتمانهم الأسرار، قال بعضهم: ومستودعي سرًا تضمنت سِرَّه *** فأودعته من مُسْتَقَر الحشا قبــرًا ولكنني أُخفيه عني كأننــي *** من الدهر يومًا ما أحطتُ به خُبرًا وما السرُّ في قلبي كميت بحفرةٍ *** لأني أرى المدفون ينتظر النشـرا قال المهلب: أدنى أخلاق الشريف كتمان السر، وأعلى أخلاقه نسيان ما أسر إليه. وقال شمس الدين البدوي: إني كتمت حديث ليلى لم أبح *** يومًا بظاهـره ولا بخفيه وحفظت عهد ودادها متمسكًا *** في حبها برشـاده أو غيه ولها سرائر في الضمير طويتـها *** نسي الضمير بأنها في طيه وقال الآخر: ويكتم الأسرار حتى إنه *** ليصونها عن أن تمر بباله هكذا أخلاق الكرام من الرجال: وترى الكريم إذا تصرَّم وصله *** يخفي القبيح ويُظهر الإحسانا وترى اللئيم إذا تقضي وصله *** يُخفي الجميل ويُظهر البهتانا وقيل لأعرابي: ما بلغ من حفظك للسر؟ قال: أمزقه تحت شغاف قلبي ثم أجمعه، وأنساه كأني لم أسمعه. ونختم بما قاله بعض الحكماء لابنه: يا بني كُن جوادًا بالمال في مواضع الحق، ضنينًا بالأسرار عن جميع الخلق، فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجوه البر، والبخل بمكتوم السر. هدانا الله جميعا لأحسن الأخلاق، وجنبنا مساوئها، والحمد لله رب العالمين. |