مع عتبة بن ربيعة :
بعد أن أسلم حمزة بن عبد المطلب ، وعمر بن الخطاب أخذت السحائب تنقشع ، وأقلق هذا الموقف الجديد مضاجع المشركين ،
وأفزعهم وزادهم هولا وفزعا تزايد عدد المسلمين ، وإعلانهم إسلامهم ، وعدم مبالاتهم بعداء المشركين لهم ،
الأمر الذي جعل رجال قريش يساومون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث المشركون عتبة بن ربيعة ليعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمورا لعله
يقبل بعضها فيعطى من أمور الدنيا ما يريد .
فجاء عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة ،
والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ،
وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها ،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قل أبا الوليد أسمع" ، قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر
مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك ،
وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ،
فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه . .
حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه ، قال : "أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ " قال : نعم ، قال : "
فاستمع مني" قال : أفعل ، فقال : تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون
وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه ، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يسمع منه ،
ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ، ثم قال : "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك" .
وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم
إلى قوله تعالى : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ،
فقام مذعورا فوضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أنشدك الله والرحم ،
وطلب منه أن يكف عنه ، فرجع إلى قومه مسرعا كأن الصواعق ستلاحقه ، واقترح على قريش أن تترك محمدا وشأنه ، وأخذ يرغبهم في ذلك .
لقد تخير رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله - تعالى - ، ثم بحكمته العظيمة هذه الآيات من الوحي ؛ ليعرف عتبة حقيقة الرسالة والرسول ،
وأن محمدا صلى الله عليه وسلم يحمل كتابا من الخالق إلى خلقه ،
يهديهم من الضلال ، وينقذهم من الخبال ،
ومحمد صلى الله عليه وسلم قبل غيره مكلف بتصديقه والعمل به ،
والوقوف عند أحكامه ، فإذا كان الله - عز وجل - يأمر الناس بالاستقامة على أمره ، فمحمد صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك ،
وهو لا يطلب ملكا ولا مالا ولا جاها ، لقد مكنه الله من هذا كله ،
فعف عنه وترفع أن يمد يديه إلى هذا الحطام الفاني ؛
لأنه صادق في دعوته ، مخلص لربه ، صلى الله عليه وسلم .
وهذا موقف من أعظم مواقف الصبر والحكمة التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو قد ثبت وصدق في دعوته ، ولم يرد مالا ،
ولا جاها ، ولا ملكا ، ولا نكاحا ، من أجل أن يتخلى عن دعوته ، وقد اختار الكلام المناسب في الموضع المناسب ،
وهذا هو عين الحكمة والخلق الحسن العظيم .
الموضوع الأصلي :
صبره الجميل مع عتبة بن ربيعة || الكاتب :
هيبة أنثى || المصدر :
شبكة همس الشوق