إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله،
وبعد
فقد أقبل علينا شهر الخيرات بما يحويه من النفحات، فرحم الله المؤمنين والمؤمنات الذين أكثروا فيه من الطاعات، واجتنبوا ما يغضب ربهم من الخطايا والزلات، وتعلموا فقه الصيام وما يبطله من المفطرات، ولنا مع هذه المفطرات العديد من الوقفات :-
الوقفة الأولى حكم العلم بهذه المفطرات
أوجب الله تعالى الصيام على المسلمين؛
فقال تعالى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
البقرة ،
وجعله من أركان الإسلام الخمس،
فقال رسول الله
«بني الإسلام على خمس وصوم رمضان»
متفق عليه
عرفه العلماء بأنه التعبد لله سبحانه وتعالى بالإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فلا يصح الصيام إلا باجتناب المفطرات، فكان العلم بها واجبًا؛ إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهو من الواجب العيني لا الكفائي، الذي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمه ويأثم بتركه؛
لأن العلم به يؤدي إلى صحة الصيام
الوقفة الثانية أقسام المفطرات وأنواعها
تنقسم المفطرات إلى قسمين:-
الأول يوجب القضاء والكفارة، وهو الجماع العمد من غير إكراه، والأكل والشرب العمد بلا عذر مبيح، وذلك عند أبي حنيفة ومالك رحمهما الله
الثاني يوجب القضاء فقط دون الكفارة، وهي سائر المفطرات ما عدا الجماع عند جمهور أهل العلم
أما أنواع المفطرات فهي
الأول الأكل والشرب عمدًا
إذا أكل المسلم أو شرب وهو ذاكر للصوم عالم بتحريمه مختار؛ بطل صومه؛ لأنه فعل ما ينافي الصوم من غير عذر،
ودليله قوله تعالى
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ
البقرة ،
فقد أباح الله الأكل والشرب إلى طلوع الفجر، وحرم على الصائم الأكل والشرب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والأكل والشرب هو إدخال الشيء إلى المعدة عن طريق الفم أو الأنف، وسواء كان الداخل نافعًا أم ضارًّا، فيحرم على الصائم وغيره شرب الدخان، وتعاطي المخدرات والمسكرات بأي صورة كانت
جاء في الموسوعة الفقهية
«تفطير الصائم بشرب الدخان اتفق الفقهاء على أن شرب الدخان المعروف أثناء الصوم يفسد الصيام؛ لأنه من المفطرات، كذلك يفسد الصوم لو أدخل الدخان من غير شرب، بل باستنشاق متعمد، أما إذا دخل إلى حلقه بدون قصد لأن كان يخالط من يشربه، فدخل الدخان حلقه دون قصد، فلا يفسد به الصوم؛ إذ لا يمكن الاحتراز من ذلك
وإن تعمد ذلك عند الحنفية والمالكية فعليه القضاء والكفارة، وعند الشافعة والحنابلة عليه القضاء فقط؛ إذ الكفارة عندهم تكون بالجماع فقط في نهار رمضان، وكذلك يفطر الصائم بمضغ الدخان أو الذي يمص بالعود، وهذا ما صرح به المالكية وقواعد المذاهب الأخرى لا تأباه» اهـ
فانظر أخي الحبيب إلى اتفاق العلماء على حرمة التدخين وإفساده للصوم، وما خرج به علينا أحد المتجرئين على دين الله عز وجل على شاشات الفضائيات من زعمه أن شرب الدخان لا حرج فيه ولا يفسد الصوم؛ فإفك وضلال لا ينتطح فيه عنزان
الثاني ما في حكم الأكل والشرب
تناول السعوط والسعوط ما يصل إلى الجوف عن طريق الأنف؛ فإنه مفطر لأن الأنف منفذ يصل إلى المعدة، دليله قوله للقيط بن صبرة
«وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا»
أبو داود وصححه الألباني
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
«وهذا يدل على أن الصائم لا يبالغ في الاستنشاق، ولا نعلم لهذا علة إلا أن المبالغة تكون سببًا لدخول الماء إلى المعدة، وهذا مُخِل بالصوم، وعلى هذا فنقول كل ما وصل إلى المعدة عن طريق الأنف فإنه مفطِّر» اهـ
ومن ثم فإذا استعمل الصائم قطرة الأنف فوصلت إلى حلقه وجوفه؛ فقد فسد صومه، أما قطرة العين والأذن فلا حرج في استعمالها، فلو قطر في إذنه وهو صائم فوجد الطعم في حلقه فإنه لا يفطر بذلك
الحقن المغذية التي تُعطى للمريض بدلاً من الطعام كالمحاليل وغيرها، اختُلف فيها على رأيين
الأول يرى أنها تغني المريض عن الطعام والشراب وتقوم مقام الغذاء؛ وذلك لأنها إذا وصلت إلى الأمعاء؛ فإن البدن يمتصها عن طريق الأمعاء الدقيقة، وإذا امتصها انتفع منها، فكان ما يصل إلى هذه الأمعاء الدقيقة كالذي يصل إلى المعدة من حيث التغذية، ومن ثم فإنها تفطر الصائم
الثاني يرى أنها لا تفطر الصائم
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع
«إن العلة في تفطير الصائم بالأكل والشرب ليست مجرد التغذية، وإنما هي التغذية مع التلذذ بالأكل والشرب، فتكون العلة مركبة من جزأين أحدهما الأكل والشرب، والثاني التلذذ بالأكل والشرب؛ لأن التلذذ بالأكل والشرب مما تطلبه النفوس، والدليل على أن المريض إذا غُذِّي بالإبر لمدة يومين أو ثلاثة تجده في أشد ما يكون شوقًا إلى الطعام والشراب مع أنه متغذٍ، وبناء على هذا وليس هذا ببعيد أن نقول إن الحقنة لا تفطر مطلقًا، ولو كان الجسم يتغذى بها عن طريق الأمعاء الدقيقة، فيكون القول الراجح في هذه المسألة قول شيخ الإسلام ابن تيمية مطلقًا، ولا التفات إلى ما قاله بعض المعاصرين» اهـ
الراجح هو الرأي الأول، فالأحوط في الإبر المغدية أنها تفطر المريض الصائم فيلزمه القضاء،
قال الشيخ صالح الفوزان في الملخص الفقهي
«ومن ذلك أيضًا مما يفطر الصائم حقن الصائم بالإبر المغذية؛ لأنها تقوم مقام الطعام وذلك يفسد الصيام» اهـ
أما الحقن التي تؤخذ في العضل أو الوريد، وكذا الأقماع اللبوس الشرجية أو المهبلية؛ فلا تفطر على الراجح من أقوال أهل العلم، وذلك لأنها ليست طعامًا ولا في معناه، ولا تصل إلى المعدة ويحتاج إليها المريض، وعلى هذا أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الفتوى رقم بقولها
«يجوز التداوي بالحقن في العضل والوريد للصائم في نهار رمضان، ولا يجوز للصائم تعاطي حقن التغذية في نهار رمضان؛ لأنه في حكم تناول الطعام والشراب، فتعاطي تلك الحقن يعتبر حيلة على الإفطار في رمضان، وإذا تيسر تعاطي الحقن في العضل والوريد ليلاً؛ فهو أَوْلى» اهـ
نقل الدم أو تغييره وذلك لأن الدم هو غاية الأكل والشرب فكان بمعناهما قال الشيخ ابن باز رحمه الله في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة
«وذلك عند سؤاله ما حكم تغيير الدم لمريض الكلى وهو صائم هل يلزمه القضاء أم لا؟ فأجاب يلزمه القضاء بسبب ما يؤيد به من الدم النقي؛ فإن زيد مع ذلك بمادة أخرى فهي مفطر آخر»
حكم الحجامة للصائم
اختلف الفقهاء في حكمها للصائم على رأيين الأول يرى أنها لا تجوز للصائم وتؤدي إلى فطره، وهو قول علي بن أبي طالب وأبي هريرة وعائشة والحسن البصري وابن سيرين وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة، ودليله عن شداد بن أوس أتى رسول الله على رجل بالبقيع وهو يحتجم وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت به من رمضان فقال
«أفطر الحاجم والمحجوم» أبو داود وصححه الألباني
الثاني يرى أنها تجوز للصائم ولا تؤدي إلى فطره، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبي سعيد الخدري وأم سلمة وسعيد بن المسيب ومالك والثوري وأبي حنيفة
دليله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم البخاري
وعن ثابت البناني قال سُئل أنس أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟
قال لا، إلا من أجل الضعف البخاري
والراجح هو القول الثاني الذي يرى أن الحجامة لا تفطر الصائم؛ وذلك لأن حديث ابن عباس ناسخ لحديث شداد،
قال الشافعي في الأم
«وابن عباس إنما صحب النبي محرمًا في حجة الوداع سنة عشرة من الهجرة، ولم يصحبه محرمًا قبل ذلك، وكان الفتح سنة ثمان بلا شك، فحديث ابن عباس بعد حديث شداد بسنتين وزيادة، فحديث ابن عباس ناسخ» اهـ
ومما يلحق بالحجامة ولا يؤدي إلى إفطار الصائم خروج الدم من الصائم كدم الرعاف والاستحاضة، وسحب الدم بغرض التحليل أو التبرع بالدم، والأحوط ترك ذلك بالنهار
حكم استعمال البخاخة والأقراص التي توضع تحت اللسان
يجوز استعمال بخاخة القلب والربو؛ وذلك لأن الغاز الموجود بها والذي يساعد على فتح الشعب الهوائية ليقدر المريض على التنفس لا ينعقد جِرْمًا داخل الجوف، فلا يفسد الصوم، أما الأقراص التي توضع تحت اللسان فإن كانت تذوب في اللعاب وتنزل إلى المعدة فهي مفطرة، وإن كانت تذوب في الغشاء المخاطي المبطن للفم وتصل إلى الدم عن طريق الأوعية الدموية فلا تفطر الصائم
الثالث الاستقاءة المتعمدة
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال
«من ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض»
أبو داود وصححه الألباني
وعن معدان بن طلحة أن أبا الدرداء حدثه أن رسول الله قاء فأفطر، فلقيت ثوبان مولى رسول الله في مسجد دمشق، فقلت إن أبا الدرداء حدثني أن رسول الله قاء فأفطر، قال صدق، وأنا صببت له وضوءه أبو داود وصححه الألباني ومن ثَم فمن تعمد القيء وهو صائم أفطر، أما إن غلبته نفسه فخرج منه القيء دون قصد فلا شيء عليه
الرابع خروج دم الحيض أو النفاس
يفطر بإجماع أهل العلم، ولو نزل دم الحيض أو النفاس قبل غروب الشمس بلحظات لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال
«أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم»
متفق عليه
الخامس الجماع وإنزال المني في اليقظة عمدًا
أما الجماع فلقوله عز وجل
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ
البقرة ،
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال بينما نحن جلوس عند النبي ،
إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله، هلكت قال ما لك؟ قال وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله
«هل تجد رقبة تعتقها؟»
قال لا قال «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟»
قال لا فقال فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال لا قال فمكث النبي ، فبينما نحن على ذلك أتى النبي بعرق فيها تمر، والعرق المكتل، قال أين السائل؟ فقال أنا قال خذها فتصدق بها فقال الرجل أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها يريد الحرتين أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك النبي حتى بدت أنيابه،
ثم قال «أطعمه أهلك»
متفق عليه
فالجماع المتعمد يؤدي إلى فساد الصوم، ويوجب الكفارة على الترتيب الوارد بالحديث السابق، وتجوز القُبلة والمباشرة للصائم، سواء كان شيخًا أو شابًّا، بشرط أن يملك نفسه، فلا ينزل منه شيء، ولا يقع في الجماع؛ لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه وإربه أي حاجته
وأما إنزال المني فقد يكون بالاستمناء وهو محرم؛
لقوله تعالى
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ
المعارج ،
ويؤدي إلى فساد الصوم، وقد يكون بمسّ المرأة بشهوة أو إدامة النظر إلى المرأة فيؤدي إلى فساد صومه، أما الاحتلام فلا يفطر بالإجماع؛ لأنه مغلوب عليه، وكذا خروج المني دون قصد لا يؤدي إلى فساد الصوم
الوقفة الثالثة حكم من تلبَّس بشيء من المفطرات، وهو ناسٍ أو مخطئ أو مكره
من تلبَّس بشيء من المفطرات؛ فإما أن يكون قد تلبس به ناسيًا أو مخطئًا أو مكرهًا، فإن كان ناسيًا فقد رفع الله عنه النسيان
بقوله تعالى
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ،
وبقوله
«إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»
ابن ماجه وصححه الألباني ،
ولقوله أيضًا
«من نسي وهو صائم فأكل أو شرب؛ فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه»
متفق عليه
وإن كان جاهلاً بتحريم هذه المفطرات فيفرق بين حالتين إن كان قريب عهد بإسلام أو نشأ ببادية معينة بحيث يخفى عليه كون هذا مفطرًا؛ لم يفطر، قياسًا على الناسي يجامع رفع الإثم، وإن كان مخالطًا للمسلمين بحيث لا يخفى عليه تحريمه أفطر لأنه مقصر، وإن كان مكرهًا على الإتيان بهذه المفطرات أو بواحدة فلا فطر عليه؛ وذلك لقوله
«من ذرعه القيء فليس عليه قضاء»
صحيح سبق تخريجه
فدل على أن كل ما حصل بغير اختيار المرء لم يجب به القضاء، ولو أكل ظانًّا غروب الشمس فباتت طالعة أو ظانًّا أن الفجر لم يطلع فبان طالعًا، فعليه القضاء إن لم يتحر لتقصيره، وإن تحرى وسأل فلا شيء عليه؛ لأنه لم يقصر
والله الموفق
منقول للفائده
رمضان كريم