قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "أحبِب حبيبَك هَوْنًا ما؛ عسى أن يكون بغيضَك يَوْمًا ما، وأبغِض بغيضَك هَوْنًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما".
أزعُم أنِّي قد خَبَرْتُ طباعَ البشر، ومشاعرَهم بشيء من العُمق، وقد يستطيع كلُّ أحد أن يزعم ذلك، ولكن لا أحدَ يستطيع أن يزعُم أنه قد أحاط بها علمًا، فضلاً عن أن يتعامل معها التعامُل الصحيح.
ذلك أنَّ النفسَ البشريَّة شديدةُ العمق، بعيدة الغور، كلما ظَنَنْتَ أنَّك قد كشفت عن مكنوناتِها، واستخرجت خبأها، انقلبتْ عليك، وأَرَتْك من الطباع والأخلاق، وأظهرت لك من المشاعر ما يَفْجَؤُك، فيبهتك ويَسوءُك، أو يطربك ويسرُّك.
وقد يتعامل إنسانٌ مع آخر في أمرٍ مَا، وتتشابك علاقاتُهم وأمورهم وأحوالهم؛ بل أموالهم، وهو في كلِّ موقف أو حديث يظن أنه قد ألَمَّ بحال صاحبِه وخُلُقه وصفاته، وما يَخرج منه، وما يؤثِّر فيه، وما يستعمله من أساليب، مع طول مُلازمة ومعاشرة، ثم في موقفٍ من المواقف، أو لفتة من اللفتات، أو حديث، أو كلمة عابرة، يدرك أنَّه لم يكن يعرف صاحبه - كما ظن قبلُ - حقَّ المعرفة؛ بل ربَّما لم يكن يعرفه أَلْبَتَّة.
وصدق الشاعر الذي قال:
وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِلاَّ لِنَسْيِهِ
وَمَا الْقَلْبُ إِلاَّ أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ
وقد ورد في الأثر: إنَّ النفس أشد تقلبًا من القِدْر، إذا استجمعت غليانًا.
وأشد ما يَجد الإنسان من ذلك من قرابته، فهم يتعايشون معًا الزمنَ الطويل، ويظُنُّ أحدُهم أنَّ صاحبه لن يَخذلَه، أو يُخرج له مكنونًا من الأخلاق يحذره، ويظلُّ يُسكِتُ هاجسَ نفسه أنَّ صاحبَه لن يُخرج له هذا الخُلُقَ المحذور، وهذه الخُلَّة المخوفة، حتى إذا نَسِيَ ذلك، وسكت الهاجس، خرج الخُلُق المحذور في أفحشِ صُورة وأقبحها، فيكون ذلك أشدَّ على النفس من حزَّة السكين، أو طعنة السيف.
وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً
عَلَى النَّفْسِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ
وذلك أنَّ شدة القُرْبِ، أيًّا كان القرب، وليس الأمرُ مُقتصرًا على قرابة النسب - تَحمل الإنسانَ على تغيُّر الأخلاق بصُور متعددة تأثرًا وتأثيرًا، ولكن ما نقصده هنا أنَّ كثرة الاختلاط والمباشرة تُبدي ما كان مَخفيًّا في النفوس.
والمرءُ قد يتزيَّن لصاحبه يومًا وأيامًا، أو شهرًا وشهرين، أو سَنَةً وسنتين، أمَّا إذا قَارَبَه وصاحبه كالصَّديق لصديقه، والزوج لزوجه، والأخ لأخيه، فإنه يصعُب مع طول المدة ألاَّ يُظهِر خُلُقه الحقيقي، مع ما جُبِلَ عليه الناس الآن من لبس الأقنعة الخادعة، التي يزيفون بها حقائق دواخلهم، وشيئًا فشيئًا لا يتحمَّل استدامةَ القناع الجميل فوق وجهه المثقل، وسُرعان ما يذوب القناع؛ ليكشف عن الوجه الحقيقي، وغالبُ الناس يكون على هذه الصورة، إلاَّ مَن رحم الله.
وأفذاذُ البشر وصالحوهم مَن إذا عاشرتَه، وجدته خيرًا مما ظننت، ولَعَمْري إنَّهم لقلة من قليل، ولعلك قد سَمِعت أو قرأت قصةَ ابنة سعيد بن المسيب؛ إذ رُوِي أنَّه زوَّجها أحدَ تلامذته الفُقراء، قال التلميذ في كلامه عنها: "فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظهم لكتاب الله، وأعرفهم بحق زوج..."، فكانت خيرًا مما كان يظن.
نعود فنقول: إنَّ القُرْب يُظهر ما كان مَخفيًّا بالبُعد، وأظن أن قيسًا لو تزوج ليلى لانكَسَر شوقُه، ولخفَتَ وَجْدُهُ، ولكنها لبُعدها وبَيْنِها، كانت في قلبه كالمثال.
إنْ كان علم منها خُلُقًا، أو حادثها شيئًا، أو سرق منها نظراتٍ، فقد أضاف خيالُه عليها شكلاً يكاد يصل إلى حَدِّ الأسطورة، أو المثال المطلق الكامل للبشر، حتى إنَّه كان ليُغشى عليه؛ إذ يسمع مناديًا يُنادي في الطريق: (يا ليلى) كما جاء في كتب الأدب.
والعبد الصالح يظلُّ مُشتاقًا لربه - سبحانه - ولله المثلُ الأعلى - حتى بعد دخوله الجنة؛ لأنَّه لا إحاطةَ به - سبحانه - ولا إدراكَ إلاَّ بقدر الرُّؤية والنظر، كما ثَبَتَ أنَّ المؤمنين يرون ربَّهم في الجنة، وبهذا كانت هذه النظرة لوجه الرب - سبحانه - هي أعلى النعيم، وشفاء السقيم، ومَنْهل الظَّامئين من المؤمنين.
وبهذا كانت مَحبة الله - عزَّ وجلَّ - ومَحبة رسوله هي أعلى المحبات وأرفعها، ولا تُدانيها مَحبة أخرى من المحبات، ولم يَكشفِ الله - عزَّ وجلَّ - عن تَمام صفاته، وعن ذاته للناس؛ لاستحالة ذلك على هؤلاء البشر الضِّعاف، فالأمرُ فوق العقل والقدرة، فأظهر لهم - فقط - ما تناسبه قدراتُهم؛ حفظًا لهم وصيانة، والعبد إذا زاد في شيء إلى حد الإفراط والغُلُوِّ المذموم، انقلبتِ الحالُ في كثير من الأحيان إلى ضِدِّه، ألاَ ترى الإنسان إذا زادت فرحتُه بكى!
وقد حكم أهل السنة بالضلال على من قال من أهل الأهواء: إنا (نعشق) الله، ونحبه حبًّا ذاتيًّا، حتى قال قائلهم: إن كنت أعبدك خوفًا من نارك، فأدخلني فيها، وإن كنت أعبدك طمعًا في جنتك، فأخرجني منها!
فلم ينضبطوا بالاعتدال؛ بل أفرطوا، ففرطوا، والعبد المؤمن يُحِبُّ الله مع الخوف والرجاء مختارًا عاقلاً.
وأما على مستوى البشر، فالعرب تقول: "زُرْ غِبًّا، تزددْ حبًّا".
يعني لا تزر أصحابَك، وأحبابك، ومعارفك كثيرًا، فيملُّوك، ويزهدوا في مَحبتك؛ بل باعد بين زياراتك؛ ليشتاقوا إليك، وهذه من أحكمِ النَّصائح؛ لأنَّ الإفراطَ مَذموم ولو كان في المحبة، وهو مذموم في البُغض أيضًا، استمع لقول النمر بن تولب:
وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ بُغْضًا رُوَيْدًا
إِذَا أَنْتَ حَاوَلْتَ أَنْ تحْكُمَا
أي: إذا أردت أن تكون حكيمًا عاقلاً.
وأفضل ما يُمدَح به العباد العقلُ، وأعقلُ الناس وأحزَمُهم من تأتمر مشاعرُه بأمره، ولا تنبو عن رَبطه وقيده، وأصل العقل الرَّبْط والإمساك، مأخوذٌ من عَقَلْتُ البعيرَ: إذا جمعت قوائمه، ويقال: اعتقل لسانه إذا امتَسَك، وعقَله عن حاجته، وتعقَّله، واعتقله؛ أي: حبسه.
والذي يرى أحوالَ الناس اليومَ على ما هُم عليه من البُعد عن التديُّن، والبعد عن التخلُّق بأخلاق الإسلام في الجملة - يرى بُعدَهم عن العقل والحكمة، فتجد البعضَ إذا أبغض، أفرط، حتى لا يَجد لمن يُبغضه حسنة واحدة، وإذا أحبَّ، غالى، حتَّى ما يتحمل عن مَحبوبه كلمة من ثلب أو نقد.
ولقد راعني وآلمني أنْ وَجَدْتُ بعضَ إخواني يتباغضون ويتتاركون، بعد أنْ كان الواحدُ منهم لا يتحمَّل مُفارقة إخوانه، مُستعدًّا لبذلِ النفسِ، والمال، والولد، والوقت من أجل أخيه، فكيف انقلبَ الحالُ إلى ضِدِّه، وكيف صار المحبوب مُبغضًا في طرفة عين، وأي شيء قد يجعل الإنسان يتحوَّل مثل هذا التحوُّل؟
لقد ذكر أهلُ العلم علاماتِ المحبَّة، وأخلاق الأُخُوة، وما ينبغي أن تكون عليه، وأفاضوا في ذلك، وذكروا قصصَ السَّلف، وأخلاقهم، ومُعاملاتهم، ولكن...
أين نحن من السلف؟
أين نحن من أخلاقهم وفعالهم؟
ولا أقول ذلك تَيْئيسًا وتَخذيلاً، ولكن ضبطًا للمسار.
إذا كان العبد يُريد أنْ يتخلقَ بآدابِ السَّلف وأخلاقهم، فليعلمْ أنَّ الأمرَ ليس كاللباس يلبسه الإنسان، فيتغير شكلُه سريعًا، ولكن لا بُدَّ أن يتدرج في ذلك، ويضع منها في قلبه شيئًا بعد شيء، خُلُقًا بعد خلق، ويُديم ذلك الخلق ويُعالجه، ويُروِّض نفسه عليه، وهكذا حتى يستوثق من نفسه، ويتثبت من خُلقه، وعلى مثل ذلك سار السَّلف، ويسير العقلاءُ، حتى لا يُفاجِئ صاحبَه، أو يفاجئ نفسه التي بين جنبيه بتصرُّف أو سلوك عجيب عليه، غريب عنه!
وتالله ما أحكمَ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ دلَّنا على ذلك - بأبي هو وأمي - فقد ورد عن بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - قال: خرجت ذات يوم أمشي في حاجة، فإذا أنا برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَمشي، فظننته يريد حاجة، فجعلت أكُفُّ عنه، فلم أزل أفعل ذلك حتى رآني، فأشار إليَّ، فأتيتُه فأخذ بيدي، فانطلقنا نَمشي جميعًا، فإذا أنا برجلٍ بين أيدينا يُصلي يُكثِر الركوع والسُّجود، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تَرى هذا يُرائي؟))، فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: فأرسل يده وطبَّق بين يديه ثلاثَ مرَّات يرفع يديه، ويصوبهما ويقول: ((عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا، فإنه من يشاد هذا الدين، يَغْلِبْهُ))؛ "صحيح الجامع".
والمقصود أنَّك لا تغالي، ولا ترهق نفسَك، ولا تتحمل من الأعمال ما لا تطيقُ؛ حتى لا يحملك ذلك على الترْك.
واعلم أنَّ طريق الحق يضيع بين الغُلُوِّ والجفو؛ الغلو فيه: الإفراط والزيادة عما أمر، والجفو عنه: التقصير والنقص، وأول شِرك وقع كان سببُه الغُلُو.
وهكذا المحبة: إذا أنت أحببت إنسانًا - "وأشد الضَّرر ما يَحدث بين الإخوان في الله!" - وأعجبك ما عنده من أخلاق، وأحْسَسْت بحلاوة مَعشره - "وللنُّفوس أغوارٌ في انتقاء الأحباب والأصحاب" - فقد يكون لحظِّ نفسه مِنْ مَدْحٍ أو نشوةٍ وإعجاب، أو طمعًا في شيء، أو خوفًا من شيء، فإذا صفتِ المحبة فلْيَحملِ العاقل نفسه على صَونِها، وفي ظني أنَّ أكثر ما يصون المحبة الاقتصاد فيها، والهون منها.
وقد أوردوا من ذلك في كتبِ الأدب والآداب الكثيرَ، من ذلك وصيةُ عبدالله بن شداد بن الهاد لولده، كما في "أمالي القالي":
أيْ بُنَيَّ، لا تُوَاخِ امرأً حتى تُعاشِرَه، وتتفقَّد مَواردَه ومَصادرَه، فإذا استطعت العشرة، ورضيت الخبرة، فوَاخه على إقالة العثرة، والمواساة في العُسرة، وكن كما قال المقنع الكندي:
ابْلُ الرِّجَالَ إِذَا أَرَدْتَ إِخَاءَهُمْ
وَتَوَسَّمَنَّ فِعَالَهُمْ وَتَفَقَّدِ
فَإِذَا ظَفِرْتَ بِذِي اللَّبَابَةِ وَالتُّقَى
فَبِهِ الْيَدَيْنِ قَرِيرَ عَيْنٍ فَاشْدُدِ
وَإِذَا رَأَيْتَ وَلاَ مَحَالَةَ زَلَّةً
فَعَلَى أَخِيكَ بِفَضْلِ حِلْمِكَ فَارْدُدِ
وما أحسنَ هذا الهَدْيَ في معاملة الإخوان والأصحاب!
ثم قال: أيْ بُنَي، إذا أحببتَ فلا تفرط، وإذا أبغضتَ فلا تشطط؛ فإنَّه قد كان يقال: "أحبِبْ حبيبَك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بَغيضك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما".
وكن كما قال هدبة بن الخشرم العذريُّ:
وَكُنْ مَعْقِلاً لِلْحِلْمِ وَاصْفَحْ عَنِ الْخَنَا
فَإِنَّكَ رَاءٍ مَا حَيِيتَ وَسَامِعُ
وَأَحْبِبْ إِذَا أَحْبَبْتَ حُبًّا مُقَارِبًا
فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَتَى أَنْتَ نَازِعُ
وَأَبْغِضْ إِذَا أَبْغَضْتَ بُغْضًا مُقَارِبًا
فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَتَى أَنْتَ رَاجِعُ
وانظر - يا أخي - لقولهم: أحْبِبْ حبيبك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما؛ عسى أن يكونَ حبيبَك يومًا ما، "وقد صَحَّ ذلك عن عليٍّ كما سبق"، فإنَّها كلمةٌ ستظلُّ تقطر حِكمةً ما عاش الناس، ولو ظلَّ العلماء يستخرجون منها ما انقطعوا.
وهذه العبارة الحكيمة وَصْفة صحيحة من خبير بالبشر مُجرِّب، خَبَرهم وعَلِمَ أنَّ أخلاق الناس تضطرب، وتتقلب، ولا تثبت على حال، فالخيرُ بعد التغافر، والصفح والعفو والحلم في الاقتصاد، وقد ورد عن معاوية - رضي الله عنه - قوله: "لو كان بيني وبين الناس شَعرَة، ما قطعتُها".
وهذا دليل على الحكمة والتعقل، الذي هو ضابط الأخلاق، وإلا انفلتت كالجواد الجموح؛ لتعيث يَمينًا وشمالاً؛ لتخرج العجب العجاب.