ام مكية
قدَّر اللهُ لـ (محمد بن عبدالرحمن المخزومي المكي) أن يُولدَ دميماً جداً لا رقبةَ له، وينشأَ قصيراً أيضاً ومنكباه خارجان كأنهما زُجَّان[1].
وكانت أمُّه ترقبُ نشأتَه، وتتابعُ حركتَه، وتتخوف عليه مِن كلمةٍ قد تَسْبِقُ إلى لسانِ أحدِ الناس، وفي الناس مَنْ لا يقدِّر الكلمة، ولا يأبه لها.
وصبرتْ تلك الأم حتى وجدت ابنَها شبَّ وتفتَّح وعيُه وبدأ يُدرِك أبعاد ما يُقال له، وكأننا بها وهي تَستجمعُ قواها، وتغالبُ عاطفتَها لتقولَ لابنها هذا في خلوةٍ بينهما:
(يا بُني، إنَّك خُلِقَتَ خلقةً لا تَصلُحُ معها لمعاشرة الفتيان، ولعلك لا تكون في قومٍ إلا كنتَ المضحوكَ منه، المسخورَ به، فعليك بالدِّين، فإنَّه يُتَمِّمُ النقيصةَ، ويرفعُ الخسيسةَ، وعليك بطلب العلم فإنَّه يرفعُك).
قالت الأمُّ هذه الكلمات القليلة، وسكتتْ وشعرتْ أنَّ عبئاً ثقيلاً قد تغلبتْ عليه، وأزاحتْه عن كاهلها، إنّها تعلمُ أنه قد تكون أوجعتْ قلبَ ابنها، ولكن أنْ توجعه هي بكلمةٍ خيرٌ مِنْ أنْ يوجعه الناسُ في حياته كلها.
وسمع محمدٌ كلامَ أمِّه، وأوقع اللهُ في قلبه أنه من قلبٍ محبٍ ناصحٍ مُشفق، وقرَّر أن يستجيب.
ومن ذلك اليوم لم يُر محمد إلا في حلقات الدرس، يَستمعُ إلى العلماء ويأخذُ عنهم، ويسألهم ويستزيد منهم، حتى عُرف بالعلم والفهم والاتزان.
ومات قاضي مكة، واحتاج الناسُ إلى قاضٍ فقيه، يفصلُ بين الخصوم، ويحلُّ المشكلات، ويُرضي الأطراف، ووقعَ الاختيارُ على "محمد".
إنَّ النظرة الآن إلى شخصيته "العلمية" لا إلى صورته "الجسدية"، وإنَّ الناس يُوزَنون بشخصياتهم لا بعاهاتهم.
ودخل (محمد) في طورٍ جديدٍ فهل سينجح؟
لقد أثبتت التجاربُ أنّه قاضٍ ناجح، فرَضَ هيمنتَه على المنصب بواسع علمه، ودقيق حكمه.
والدليلُ أنه ظل قاضياً في مكة - ومكة مكة - عشرين سنة.
وكان الخصم إذا جلس بين يديه يظل يرتعدُ حتى يقوم... ذلك أنه يَنظرُ إلى قوة الحق والعدل فيه ولا يَنظرُ إلى ما ابتلاه الله به من عَوَق.
وحين حجَّ الخليفةُ العباسي المهدي وأمر بعمارة المسجد الحرام، وأمر أنْ يُزاد في أعلاه، ويُشترى ما كان في ذلك الموضع من الدور، وَضَعَ الأموالَ اللازمة لذلك عند "محمد" هذا، وهو قاضي أهل مكة يومئذٍ، وقام بذلك أحسنَ قيام.
ويؤكِّد هذا كلُّه ما صار إليه "محمد" من منزلة اجتماعية.
وغيرُ بعيدٍ أنه في أحد مجالسه، رجعتْ به الذاكرةُ سنين طويلة إلى الوراء فتذكرَ أمَّه "أم أبان بنت عبد الحميد" وتذكَّر ما قالتْهُ له، وراح يروي لجلسائه حديثها، وختَمَ حديثه عنها بقوله: (فنفعني اللهُ بقولها، فتعلمتُ الفقه، فصرتُ قاضياً).
لقد صدق الذي وصَفَ تلك المرأة بأنّها (كانت عاقلة) فقد صدَّقت الأيامُ ظنَّها، وارتفع ابنُها على أقرانه الأصحاء، وبقي اسمُه مذكوراً في دنيا الناس مع أنَّ الموت غيَّبه وطواه في سنة 169 هـ.
وها نحن بعد /1266/ سنة نذكرُه، ونذكرُ قصته، ونذكرُ أمَّه، تلك المرأة العاقلة التي عرفتْ كيف تخرجُ بابنها مِن أزمتهِ، وتسمو به على عاهتهِ، وتوصله إلى مصاف الكُبَراء[2].
المقال فصل من كتاب (اثنا عشر كوكباً)