رياض القرآن – روضة السعداء
نسأل الله أن يجعلنا من السعداء في الدنيا والآخرة وأن يملأ قلوبنا وحياتنا سعادة ورضى بما عندنا وبما رزقنا الله سبحانه وتعالى. (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴿١٠٥﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴿١٠٦﴾ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴿١٠٧﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴿١٠٨﴾ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ﴿١٠٩﴾ هود) هذه الآيات في سورة هود تملأ القلب سعادة وانشراحًا وهي تصور لنا صفات السعداء عن الله سبحانه وتعالى وهي تشير أن السعيد هو من عرف الحق واتّبعه وأن الشقيّ هو من عرف الحق فضلّ عنه وتركه ومع بساطة هذه المعادلة إلا أنه عند التأمل في تفاصيلها تحتاج إلى عمل وتحتاج إلى بذل وتحتاج إلى صبر. من هدايات الآيات: أولًا: السعداء وتحقق السعادة للسعداء. الناس في فهم السعادة أصناف وبعض الناس يظن أن السعادة في كثرة الأموال وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك وفي رغد العيش وفي وفرة النعيم ونرى نحن أشخاصًا لديهم هذه المقومات ولكنهم يفتقرون إلى السعادة. ولذلك ذكرها الله سبحانه وتعالى بلفظ الزينة قال (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) آل عمران) (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (46) الكهف) (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (32) الأعراف) فأتى بلفظ الزينة ولم يأت بلفظ السعادة لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً (97) النحل) والحياة الطيبة التي نبحث عنها لا بد أن تجمع بين أمرين: أمر الإيمان الحقيقي ثم بعد ذلك يُتبعه ذلك الإيمان العمل. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى هنا (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) التوبة). أيضًا طلب السعادة آخرون بكثرة الأولاد ونسوا أن من هؤلاء الأولاد ما يكون سبب شقاوة الإنسان ولذلك كان قديمًا وحديثًا يتفاخر بعض المشركين بكثرة الأبناء قال تعالى (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴿١١﴾ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ﴿١٢﴾وَبَنِينَ شُهُودًا ﴿١٣﴾ المدثر) ويقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) التغابن) بعضهم يطلب السعادة اليوم في الاختراعات وفي كثرة التقنيات التي تتيحها الحياة اليوم ويظنون السعادة فيها ورأينا من يبالغ في ذلك. على سبيل المثال خرجت تقنية تستطيع أن تراقب شقتك التي في الدولة الفلانية تكلف مبالغ هائلة فاشتراها ولما سئل ما الفائدة منها قال استطيع أن أشغّل المكيف وأنا هنا في شقتي التي في البلد الآخر حتى إذا سافرت وصلت البيت فوجدته مكيّفًا، هل هذا الإنفاق الضخم جدًا من أجل هذه الخدمة البسيطة؟! هناك لهاث وراء التقنيات وشراء هذه التقنيات رغم كلفتها ظنّا أن الإنسان سيسعد بامتلاكها. من أسباب السعادة حسن الظن بالله، فالإنسان إذا أحسن الظن بالله سبحانه وتعالى سيجد السعادة بشكل كبير جدًا، الله سبحانه وتعالى يقول (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) البقرة) من القصص الجميلة التي حدثت أن دكتور حسام جمعة وهو دكتور في جامعة الملك عبد العزيز كان يسبح في البحر فمكث أربعين ساعة في البحر بعد أن تاه عن من كان في القارب وأخذ يسبح فرأى من بعيد فوجد أعمدة مياه التحلية في جدة فلما نظر إليها استبشر أنه وصل وحاول الوصول وإذا بالموج يدفعه في الإتجاه المعاكس وكرر المحاولة فقال وسوس لي الشيطان بأن يعتمد على قوته وأن الله تخلى عنه، فلما خرج قال ذهبت وسألت مدير التحلية فقال من لطف الله فيك أن أبعدك عنا لأن تحت هذه الأعمدة عبارة عن شفّاطات أي شيء يقترب يُشفط ويهلك فمن لطف الله بك. فالإنسان يحسن الظن بالله ويقول إذا أبعدني الله عن أمر فهو خير لي فسيشعر بالسعادة ويعيش سعيدًا دائمًا. مفهوم السعادة في القرآن الكريم وكيف صوّر القرآن الكريم حقيقة السعادة: الله سبحانه وتعالى يعبر عن السعادة في القرآن الكريم أحيانًا بالحياة الطيبة. يقول سبحانه وتعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً (97) النحل) هذا وعد وقسم من الله سبحانه وتعالى الذي يملك الدنيا والآخرة أن من آمن وعمل صالحًا فلنحيينه حياة طيبة. تارة يعبر عنها بانشراح الصدر وكل الناس بحثون عن سعة الصدر وانشراح الصدر يقول الله سبحانه وتعالى (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ (125) الأنعام) السعادة في القلب ليست في المال ولا غيره كما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية عندما دخل السجن: قال جنتي وبستاني في صدري، سجني خلوة ونفيي سياحة. والمؤمن جنته في صدره، البعض يقول السعادة في المال ويأتيه أموال ولكن قد يصاب بمرض فيعيش تعيسًا فلا نتسرع في اعتبار هذه الأشياء التي هي زينة الحياة أنها هي السعادة، السعادة في قلبك فإن كنت منشرح الصدر فهذه هي السعادة التي تبحث عنها. وعبّر القرآن الكريم عن السعادة بطمأنينة القلب وقال (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الرعد) لا تطمئن القلوب إلا بذكر اللهمهما بحثت عن وسيلة لطمأنينة القلب بغير ذكر الله أتحداك أن تجدها لأن هذا دلالة قول الله تعالى (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) فيها دلالة على حصر وسيلة الطمأنينة بالذكر ذكر الله سبحانه وتعالى أيضًا عبّر الله سبحانه وتعالى عن السعادة بالسكينة فقال (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) الفتح) في إشارة إلى أن هذه السكينة هي من جنود الله سبحانه وتعالى ينزلها في قلب المؤمن ولذلك تجد المؤمن الصادق في غاية السعادة مهما كان في حال من الفقر والجوع والخوف ولذلك لاحظ أن الله سبحانه وتعالى أنزل السكينة على الصحابة رضي الله عنهم وهم في مواجهة الأعداء، هذا ليس وقت سعادة في العادة هم ينتظرون إما أن يقتُلوا أو يُقتَلوا لكن الله أنزل السكينة في قلوب المؤمنين لما في قلوبهم من الإيمان الصادق. أيضًا عبّر الله سبحانه وتعالى عنها بالأمن فقال (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82) الأنعام) التوحيد وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى من مصادر وأسباب السعادة والشرك من أعظم أسباب التعاسة والتشتت وذهاب النفس. ومفهوم التوحيد لا يقتصر فقط على عدم عبادة الأصنام وإنما التوحيد أنك في داخل قلبك لا تُشرك مع الله أحدًا سواء الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، الإنسان قد يعتريه تعظيم غير الله سبحانه وتعالى من مال أو غير ذلك. من أصرح الآيات التي تحدثت عن السعادة آيات سورة هود وهي قول الله سبحانه وتعالى يؤكد فيها أن السعادة في قيمتها يوم يرضى عن عباده المؤمنين فيبوئهم الجنة (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴿١٠٨﴾) ويؤكد سبحانه وتعالى أن كل من قطع صلته بالله سبحانه وتعالى فإنه يناله من الشقاء بحسب بُعدهم قال الله سبحانه وتعالى (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) طه) دلّ هذا على أن من لم يتبع الهدى فإنه يضل ويشقى. في أول سورة طه عندما قال الله سبحانه وتعالى (طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)) ما أنزلناه عليك إلا لكي تسعد وتسعد أمتك ولهذا نقول أن من أعظم تحصيل وسائل السعادة القرب من القرآن الكريم، حفظ القرآن الكريم، فهم القرآن الكريم، تعلم القرآن الكريم، أن تصحبه معك في السفر والحضر أن يكون جليسك وأنيسك كل يوم تقرأ وتتأمل وتتدبر وتجالس وتجعل لكم حلقة في البيت، ما أجمله من أسلوب أن يجعل رب الأسرة كل يوم أو أسبوع مجلسًا له ولأسرته وأولاده وبناته يتدارسون فيه القرآن يسمّعون لبعض يسال أبناءه ماذا يحفظون من القرآن ماذا يفهمون من هذه السورة؟ أطفالي الصغار في الابتدائية والمتوسطة أسألهم عن بعض الآيات فإذا لم يعرف الجواب أسأله كيف يمكن أن تعرف الجواب؟ قال لا أعرف، فأقول له ابحث في كتب التفسير فيبحث في كتاب تفسير الناشئة وكتب غريب القرآن ويسأل إخوانه وأخواته حتى يعرف كيف يصل إلى تفسير الآية وهناك طرق كثيرة الآن ولله الحمد مجرد أن تقرّب هذه الكتب لأبنائك وبناتك، هناك كتاب نفسير يشرح معنى آية أو كتاب غريب القرآن يشرح معاني الكلمات، هناك برامج في الجوال أو الكمبيوتر يستطيع من خلالها أن يصل إلى التفسير، هذا في حد ذاته تربية وأنت تعطي أبناءك واسرتك مفاتيح السعادة شيئًا فشيئًا في بداية حياتهم ونحن لا نعمل ذلك مع القرآن الكريم من باب التجربة وإنما نحن على ثقة أن الالتزام بالقرآن الكريم هو مصدر من مصادر السعادة في الدنيا والآخرة وإنه إذا صحب الإنسان القرآن الكريم بحقه فإنه لا يزال القرآن الكريم يقوده حتى يحله أعلى الدرجات في الجنة. ولست أرى السعادة بجمع مال ولكن التقي هو السعيد هارون الرشيد عندما انتقل من قصره إلى قصر آخر قرب نهر دجلة واصبح قصرًا مشيدًا ودخل عليه الشعراء يثنون على هذا القصر ومن بين هؤلاء الشعراء أبو العتاهية عندما دخل عليه قال: عش ما بدا لك في ظل شاهقة القصور فقال: هه، زد فإذا النفوس تحشرجت إلى أن قال: فهناك تعلم موقنًا ما كنت إلا في غرور. فعند ذلك ترك قصره وعاد إلى قصره القديم لأنه أراد أن يوصل له رسالة بأن السعادة ليست في الأموال ولا في الدور ولا في القصور إنما السعادة إذا خرجت القلوب كانت هذه السعادة التي يبحث عنها الإنسان. أيضًا من علامات السعادة التي إذا وفّق الله تعالى العبد إلى السعادة الحقيقية أن من علامات السعادة التواضع والكرم والإنفاق وبذل العلم هذه من علامات سعادة الإنسان. بعض الناس يظن أن السعادة في القبض والإمساك ووالله إن السعادة الحقيقية في العطاء وليست في الأخذ، في البذل في الجود في الكرم. يقول الخليفة المأمون: لو يعلم المذنبون بما أجده في العفو لبالغوا في الذنوب لأن المأمون كان يستمتع بالعفو والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستمتع بالعطاء والذي ينظر إلى الجواد وهو ينفق يظن أنه مجنون كيف يفرّط في هذه الأموال ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر؟! ولا يعلم أن السعادة التي يشعر بها الجواد تفوق ما يشعر به البخيل وهو يمسك ماله ولذلك يقول أبو تمام: أرى الناس خلّان الجواد ولا أرى بخيلًا له في العالمين خليل ولم أر كالمعروف أما مذاقه فحلو وأما وجهه فجميل فالسعادة تظهر علاماتها على الإنسان من بسطه وبذله وجوده وكرمه وعطائه وتواضعه للناس وأن هذا من علامات سعادته في الدنيا وإن شاء الله هذا مؤشر على أن الله سبحانه وتعالى سوف يسعده في الآخرة جعلنا الله من السعداء في الدنيا والآخرة وأن يوفقنا لأسباب السعادة في الدنيا والآخرة.