قال الله تعالى:
* أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * (التكاثر:1-2)
نلاحظ في هذه الآية الكريمة مسائل منها :
1 – قوله تعالى :
* ألهاكم التكاثر * ولم يذكر في أيّ شيء كان التّكاثر ؟
2 - قوله تعالى :
* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ
* لماذا جاء استعمال لفظ (الزّيارة) مع المقابر ؟
ولماذا جاء فعل (زرتم) بصيغة الماضي ؟
الجواب :
قوله تعالى :
* ألهاكم التكاثر * و(التكاثر) :المكاثرة، ولم يذكر هنا في أي شيء كانت المكاثرة التي ألهتهم ، فالإطلاق هنا أفاد أمرين:
أ - أنّ المذموم هو نفس التّكاثر بالشّيء لا المتكاثر به
ب - أنّ المطلق أبلغ في الذّم فيشمل كلّ ما هو صالح للتّكاثر به من مال وولد وجاه وعمران وغراس وغير ذلك
وسبب نزول الآية :
أنّ حيّين من قريش وهما (بنو عبد مناف) و(بنو سهم)
تفاخروا أيّهم أكثر عددا فقال (بنو عبد مناف) :
"نحن أكثر سيّداً وأعظم نفراً"
،وقال (بنو سهم) مثل ذلك،فعدّدوا سادتهم وأشرافهم فكان
(بنو عبد مناف) أكثر عدداً فقالت
(بنو سهم) : "إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات"
،فذهبوا إلى المقابر وعدّدوا أموات كل منهما فصار
(بنو سهم) أكثر من (بني عبد مناف) فنزلت الآية
ومعنى قوله تعالى :
* أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ *
أي : ألهاكم التّكاثر فتكاثرتم بالأحياء حتّى إذا استوعبتم
عددهم صرتم
إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات
وقوله تعالى :
* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * فيه تعجيب من حالهم لأنّ زيارة القبور هي مظنّة لترقيق القلوب وإزالة القساوة كما قال
النّبيُّ : ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلاَ فَزُورُوهَا ،
فَإِنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ، وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ، وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ،وَلاَ تَقُولُوا هُجْرًا ))
(رواه الحاكم في المستدرك ) ،
وأولئك إنّما زاروا المقابر للتّفاخر
بالأنساب والمكاثرة والإستغراق في حبّ ما لا طائل تحته وليس
للاتّعاظ والاعتبار
هذا هو المعنى الظّاهر في الآية الكريمة والموافق لسبب النّزول
غير أنّ السّياق يحتمل معنى آخر وهو أن يكون المقصود بزيارة المقابر
(إنتهاء الآجال والدّفن فى القبور بعد الموت) ، والقاعدة
الأصولية تقول
(العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب)
وعلى هذا يصير المعنى : (( شغلكم حبّ الدنيا ونعيمها وزهرتها عن
طلب الآخرة وابتغائها ، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر وصرتم من أهلها))
تأمّل كيف عبّر عن مدّة لبثهم فى القبور ب(الزيارة) أي أنّها إقامة مؤقتة فقط وليست دائمة ، وقد روي أنّ أعرابياً لمّا سمع هذه
الآية قال : " بُعث القوم للقيامة وربّ الكعبة ، فإنّ الزائر منصرف لا مقيم ..
وعن ميمون بن مهران قال:
"كنت جالسا عند عمر بن عبد العزيز فقرأ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * فلبث هنيهة فقال:
"يا ميمون،ما أرى المقابر إلا زيارة،وما للزائر بد من أن يرجع إلى منزله
فالقبر ما هو إلاّ مرحلة انتقالية فاصلة بين الدنيا والآخرة يعقبها بعث ونشور فناسبها لفظ (الزّيارة)
وجاء التّعبير فيها بصيغة الماضي*زُرْتُمُ* لِتَنْزِيلِ الْمُسْتَقْبَلِ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي لِأَنَّهُ مُحَقَّقٌ وُقُوعُهُ لا محالة، كما قال تعالى : * أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ
تَسْتَعْجِلُوهُ * (النّحل آية : 1) ..
تـنـبـيـه :
كثيراً ما نسمع في عصرنا هذا خاصّة في الإعلام والصّحافة عند التّعزية جملة : (فلان رحل إلى مثواه الأخير) أي القبر !!
وهذا خطأ عظيم لأنّ القبر ليس إلاّ مرحلة برزخية إنتقالية وليس مستقرّاً دائماً،قال تعالى : *ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ *
(سورة عبس آية : 21 - 22) ...
أمّا المثوى الأخير فهو إمّا أن يكون الجنّة أو النّار كما قال تعالى: * فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ * (الشورى آية : 7)
والله أعلم
اللّهمّ اجعلنا من أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب
آمين
والحمد لله ربّ العالمين