تعتبر الكهرباء من المؤثّرات المهمّة والرئيسيّة في حياتنا اليوميّة العمليّة وغيرها، فالكهرباء كشريان الدم الّذي يُغذّي أعضاء الجسم، ومن أبسط استعمالاتها مصباح ضوء المنزل، ومصباح جهازك الخليوي، ولكن السؤال الّذي يجب أن يُطرح من اخترع الكهرباء؟ وكيف استغلّ هذه الطّاقة المفيدة وسخّرها لخدمة البشريّة؟
يكون الجواب على ما سبق بأنّ مخترع الكهرباء هو العالم توماس ألفا إديسون (1847-1931)، وهو مخترع ورجل أعمال أمريكي. اخترع العديد من الأجهزة التي كان لها أثرٌ كبيرٌ على البشريّة حول العالم؛ مثل تطوير جهاز الفونوغراف، وآلة التصوير السينمائي، بالإضافة إلى المصباح الكهربائي المتوهّج العملي الّذي يدوم طويلاً.
أطلق مراسلٌ في إحدى الصحف على إديسون لقب "ساحر مينلو بارك" The Wizard of Menlo Park)، ويعتبر إديسون من أوائل المخترعين الّذين قاموا بتطبيق مبدأ الإنتاج الشامل، والعمل الجماعي على نطاقٍ واسع لعمليّة الاختراع؛ لذا كان يُعرف بأنّه أوّل من أنشأ مختبراً للأبحاث الصناعيّة.
يقول إديسون : إنّ أمّي هي التي صنعتني؛ لأنّها كانت تحترمني وتثق بي، أشعرتني أنّي أهمّ شخصٍ في الوجود، فأصبح وجودي ضروريّاً من أجلها، وعاهدت نفسي ألّا أخذلها كما لم تخذلني قط.
ويقول توماس الصّغير: وقفت أمام صورة لطفل في الرّابعة، عيونه خضراء رماديّة، لا ترى فيها شيئاً، رأسه الكبير يوحي بمشكلة تكوينيّة إذا أضفتها إلى عدم استطاعته الكلام لشخصيّته في الحال على أنه متأخّر نوعاً ما!! ثمّ انطلق لسانه فجأة فكان لا يتحدّث إلا سائلاً مع أديسون: لا تستطيع أن تقفز مرحلة الطّفولة إلى الشباب فهو لم يكن طفلاً عاديّاً؛ ربّما لأنّه كانت له أم غير عاديّة.
أقوال أمّهات الكتب عن حياة إديسون نحن فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وهي – أمّه - مدرسة تهتمّ بالأدب والقراءة .... وتوماس الصغير ذهب إلى المدرسة ذات الفصل الواحد مع 39 طفلاً، ولكنّه ليس ككلّ الأطفال، إنّه لا يكفّ عن الملاحظة والسؤال، ويلفت انتباهه أشياء غريبة جداً، وبعد 4 شهور لم تكتمل أعلن مدرّسه أنّه طفل غير طبيعى متأخر . . .!!
لم تغب عن الأم المشكلة فقامت بسحب توماس من المدرسة وبدأت تعلّمه بنفسها في البيت وتنمّي بداخله حب الدّراسة ، واقتصر دور أبوه على منحه 10 سنتات عن كل إنجاز .
أليس عجيباً أن نتحدّث عن إنجازات طفل فى الحادية عشرة ؟؟ أعجب من العجب ، والأغرب هو اختيار نوع الإنجاز، لقد بدأ آل (اسمه بالكامل توماس ألفا أديسون ) الصغير مشروعه الأوّل: قراءة كلّ كتاب فى المبنى، وهذا المبنى كان بيتهم الّذي يحتوي على مكتبة كبيرة، وقامت الأم بالمراقبة بتوجيهه في القراءة إلى التّاريخ والعلوم الإنسانيّة حتّى أحبّ توماس الشّعر جدّاً والأدب، ولولا أنّ صوته كان حادّاً أو بالتعبير الدارج " مسرسع " ربّما اتجه إلى التّمثيل، وكانت هذه بداية الطريق إلى التعليم الذاتي .
عند بلوغه الثانية عشرة كان أديسون قد انتهى من مجموعة قيّمة جدّاً من أمهات الكتب من بينها قاموس العالم للعلوم والكيمياء التطبيقيّة .
ورغم كلّ الحب والرّغبة فى العطاء الّذي حاولت أمّه منحه إيّاه فقد بدأ فضول الصبيّ اليافع يتعدّى إمكاناتها حين تعجّب من بعض أسس قواعد الفيزياء الّتي وضعها نيوتن، فما كان منها إلا ان انتدبت له مدرّساً ليعلّمه، ولكنّه لم يستطع هذا المعلم أن يجاري رأس توماس وسرعة منطقه فى تفنيد النظريّات ورحل تاركاً عند تلميذه العقيدة الأكيدة والتي تقول بأنّ أفضل شيء هو التّجريب والخطأ،فبدأ أديسون الحقيقي يظهر ويظهر نبوغه.
لم يكن هناك على وجه البرية ما يُعجز توماس أديسون ولم يمانع قط في بذل أي مجهود لكسر أيّ تحدٍّ مهما كان .
ما زلنا نتحدّث عن صبي الثانية عشرة الذي بدأ يفقد السمع تدريجيّاً، نعم يفقد حاسّة السمع فهل كان هذا عائقاً ؟ بالطّبع لا !! فكان يجد لنفسه دائماً وسيلةً للتغلّب على أي مشكلة أو الاستفادة منها.
اقنع توماس والديه أن يسمحوا له بالعمل، فكان يبيع الجرائد والحلوى في محطّات القطار، ولم يكتف بذلك؛ بل بدأ مشروعه الخاص ببيع الخضار والفاكهة للناّس فكان يحتاج دائماً للمال ليجرّب ما يفكّر فيه ، ولم يكن يستطع رغم دخل أبيه المعقول أن يطلب منه دائماً نقوداً.
هل ترونه معي، فتى فى الثانية عشرة، رأسه كبير، صوته رفيع، لا يكاد يسمع، لم يتعلّم في أي مدرسة !!
ماذا تفعل لو عمرك 14 سنة واندلعت فى موطنك حرباً أهليّة وأنت تعمل كبائع للجرائد والحلوى في قطار ؟ فيم تفكّر ؟ ربّما في الاعتزال خوفاً من المعارك، ربّما في البحث عن عمل آخر فى مكان أكثر أمناً، فهل تعرف كيف استغلّ توماس الفرصة ؟!!
إنّ محطّة القطار فيها مقر التلغراف الرئيسي الّذي يتمّ إرسال الأخبار إليه والمراسلات، فقام توماس بطباعة منشور بسيط فيه أحدث تطوّرات الأزمة يوماً بيوم ويبيعه للركّاب، فكانت أوّل جريدة من نوعها في العالم تكتب وتطبع وتوزّع في قطار، وعمره فقط 14 سنة !!
حين انتصر إبراهام لينكولن، قام أديسون بجمع معلومات عنه وطبعها يى كتيّب صغير وزّعه على ركّاب القطارات.
إنّ المرء يكاد يلهث وراء قدراته على التّفكير واستغلال المتاح ، ولكن أديسون صاحب ال1093 اختراع منفّذ، وصاحب اختراعات أخرى لم يمهله العمر لتنفيذها، نتيجة لخطأ غير مقصود تسبّب في حدوث شرارة نار أحرقت إحدى عربات القطار كان جزاء ذلك صفعةً قويّةً على الرأس أدّت إلى صمم كامل في إحدى أذنيه، والأخرى فقدت السمع بنسبة 80%، مع حرمانٍ من صعود القطارات ليقتصر بيعه على المحطة فقط .
ما أتعس حظّك أيّها الفتى، لا بدّ أنّك ظللت تبكي وتندب هذا الحظ العاثر، أبداً لقد اعتاد توماس على تقبّل قدره في الحياة والتكيّف معه، ولقد اعتبر هذا الصمت من حوله فرصةً لتنمية قدراته على التركيز ، وكل ما أحزنه أنّه لم يعد يستمتع بصوت العصافير .
حدث أنّه فى إحدى لحظات تواجده فى محطة القطار رأى طفلاً يكاد يسقط على القضبان فقفز المراهق الشاب لينقذه من دون حتى أن يعلم أنّه ابن رئيس المحطّة ، وكمكافأة لهذه الشجاعة النّادرة عيّنه الرجل في مكتب التلغراف، وعلّمه قواعد لغة مورس، وهذا يُعدّ فتحاً كبيراً، وكأنّك علّمت طفل الرابعة عشرة (حالياً) أعقد وأحدث لغات الكمبيوتر .
كانت فرصة أديسون الكبرى في أن يجرّب تطوير هذا الشيء الّذي بين يديه ممّا نتج عنه أوّل اختراعاته وهو التلغراف الآلي؛ أي الّذي لا يحتاج إلى شخص في الجهة الأخرى لاستقباله، بل يترجم العلامات بنفسه إلى كلماتٍ مرّة أخرى .
في الخامسة عشرة أظلمت الدّنيا في بيته الصّغير، فأفلس والده ومرضت أمه، فقبل العمل في شركة ويسترن يونيون وسافر ابن الـ15 عاماً ليبدأ ويجرّب !!
في لقطة فيلميّة غريبة اشتدّ الألم على أمّه في إحدى الليالي ، وقرّر الطّبيب أنّها تحتاج لجراحة، ولكن عليها الانتظار للصّباح .فكان ردّ إديسون: لكن يا سيّدي إنّها لا تحتمل الألم قد يقتلها من شدّته قبل الصباح. فردّ الطبيب وماذا أستطيع أن أفعل يا بني أحتاج إلى إضاءة
سطّر توماس في مفكرته أنّه لا بدّ من إيجاد وسيلةٍ لحصول الضوء ليلاً أقوى من ضوء الشّموع. توماس أديسون كان له في كلّ لحظةٍ مشروع؛ ذلك لأنّه كان دائم النظر حوله، والاستفادة من كلّ الناس، وكان مراقباً جيّداً يتابع ويراقب ويجرب .
أجرى أديسون ألف تجربة فاشلة قبل الحصول على مصباحٍ حقيقيّ، وكان تعليقه في كلّ مرة .. هذا عظيم.
إنّ توماس أديسون الّذي مات في الرّابعة والثمانين كان مؤسّس التطوّر الحديث الّذي نعيشه، وإذا كان العالم يذكره على أنّه مخترع المصباح الكهربائي فإنّ البطاريّة الجافّة، وماكينة السينما المتحرّكة ليستا بأقلٍّ منها أهميّة، فنقول ذلك لعلّنا نتعلّم منه.