يوصف بأفكار غير مرغوبة تطفّليّة ومقلقة ومتكررة، وغير مبررة ومستمرّة، ويصعب على الفرد السيطرة عليها، هذه الأفكار المزعجة معنيّة عادةً بالتّلوّث، وخوف وقوع الضرر على النفس أو المقربين، وعدم صحة العمل أو عدم قبوله وبالأخص الأعمال الدينية...
(يصيب حوالي 2% من السكان معظمهم من المراهقين والأطفال).
يوصف بأفكار غير مرغوبة تطفّليّة ومقلقة ومتكررة، وغير مبررة ومستمرّة، ويصعب على الفرد السيطرة عليها، هذه الأفكار المزعجة معنيّة عادةً بالتّلوّث، وخوف وقوع الضرر على النفس أو المقربين، وعدم صحة العمل أو عدم قبوله وبالأخص الأعمال الدينية، هذه الأفكار يعلم المصاب بأنها غير طبيعية وهي من بنات أفكاره وليست موضوعة في رأسه من الغير -كما هي الحال في مرض فصام العقل (الشيزوفرينيا)- وتستلزم هذه الأفكار والصّور أو المشاهد المعاناة والحزن والتعب الشديد، فهي ليست سارة على الإطلاق فيخرج بذلك منها دوافع الشهوات المحرمة بأنواعها.
وتؤدي هذه الأفكار إلى رغبات متسلّطة وملحّة ومستمرّة، يدافعها صاحبها لأنه يستحي أن يراه الآخرين وهو يستجيب لها، ويتعذر عليه السيطرة عليها وردّها فتحثّه لممارسة سلوك معيّن يهدف لإراحة نفسه والتخلص من القلق، ولكن بصفة مؤقتة لأنها تعاوده مرة أخرى.. ومثالا لذلك: قد يكون لدى الفرد فكرة أن يديه متسخة أو ملوثة من جراء مصافحته شخصًا آخر فيؤدي ذلك إلى الرغبة الملحّة لغسل يديه فيتولد لديه سلوك الغسل، أو شخص آخر قد تراوده أفكار مزعجة وبصورة متكرّرة بأن بيته سيحترق لوسوسة نفسه له بوجود ما يسبب ذلك، فيتولد عنده الرغبة الملحة والمقلقة لتفحص هذه الأسباب كالأجهزة الكهربائية أو مواقد الغازٍ..
ومع أن أكثر هذه السلوكيات شيوعًا هي الغسل أو التفحص، إلا أن هناك سلوكيات أخرى قد تتضمّن العدّ، أو الترتيب، أو الشك في انتقاض الوضوء، أو عدم غسل أحد أعضاء الوضوء، أو الشك في تحرير النية قبل بدء الصلاة أو عدم النطق بتكبيرة الإحرام، عدم نطقها بالطريقة الصحيحة أو الشك في عدد الركعات ونحو ذلك..
وتكرر مثل هذه الأفكار والسلوكيات قد يؤول بالمصاب إلى أن يتجنب الأحوال التي قد تؤدي إليها، فينتج عن ذلك إضرار به وبحياته ومستقبله وحياة أفراد أسرته، وكمثال على ذلك: فانه قد يتجنب الخروج من البيت إذا كان كثير التصور بأن البيت سيحترق أو سيسرق، وقد لا يسمح لأبنائه بمغادرة المنزل حتى ولو إلى المدرسة لكونه كثير التصور بأنه سيحدث لهم مكروه -حادث مثلا- الى آخره.
العلاج:
تعتمد إستراتيجيّة العلاج على تعريض الفرد للفكرة التي تولّد لديه القلق أو التعب وذلك بشكل تدريجي، معّ تشجيع الفرد لمقاومة الرّغبة المتسلّطة المتولدة عن تلك الفكرة، والامتناع اختياريًّا عن أداء السلوك الغير مرغوب فيه.
الخطوة الأولى في بناء هذه الإستراتيجية: هي مساعدة الفرد كي يخطّط لبرنامج متدرّج لمهامّ التعرض للمؤثرات، التي من الممكن أن يجربها بطريقة منتظّمة، فيضع قائمة بهذه المؤثرات التي تسبب له الرغبات المتسلطة، المؤدية إلى السلوكيات المؤلمة بحيث تكون المهمّة الأولى في القائمة هي الفكرة التي تولد قلق أقل، بينما المهمّة الأخيرة في القائمة تكون الفكرة الأكثر ألما وإزعاجًا. ويمكن أن نعطي مثال للتطبيق العملي لهذه الإستراتيجية: بامرأة لديها مخاوف مقلقة من التلوث بالجراثيم مما يحدوها لغسل يديها بعد كل ملامسة لبعض الأشياء، فيمكن لخطّة البرنامج المتدرج أن تكون على النحو التّالي:
1- إفراغ غسّالة أطباق نظيفة بدون غسل اليدين بعدها.
2- نشر الغسيل على الحبل بدون غسل اليدين بعدها.
3- استعمال التليفون بدون غسل اليدين بعدها.
4- جمع الخطابات من صندوق البريد بدون غسل اليدين بعدها.
5- التسوّق في السوبر ماركت ثمّ وضع الطعام في الدولاب والثّلّاجة بدون غسل اليدين بعدها.
6- إفراغ صناديق القمامة المنزليّة ووضعها في صندوق القمامة بالخارج بدون غسل اليدين بعدها.
في كل حاله من الحالات أعلاه يوجه الفرد إلى مقاومة رغبة الغسل الملحة مع بيان صعوبتها، ولكن لا بد أن يحاول ويكرر حتى ينجح، وعليه أن يبدأ أولا بالهواجس والسلوكيات المتسلطة الأقل شدة ثم إذا نجح ينتقل إلى الذي أشد وهكذا، وهناك بعض الأدوية التي لا تلزم في كثير من الحالات، وحتى لو استخدمت فإنها لا تنفع لوحدها، بل لا بد من العلاج النفسي الذهني المذكور أعلاه.
النظرة الإسلامية للوسواس: التعريف:
وَسْوَسَ الشيطانُ إليه وله، وفي صدره وَسْوَسَةً ووِسْوَاساً: حدَّثه بما لا نَفْعَ فيه ولا خير. ويقال: وَسْوَسَت النفْسُ. وتكلَّم بكلام خفيّ مختلط لم يبيِّنه. واعترته الوساوسُ. وهَمَسَ. يقال: وَسْوَسَ الصائدُ، ووسوستْ كلابُه. وهو صوَّت في خفاء. يقال: وسوست الريح، ووسوس الحَلْيُ والقَصَب. ووسوس فلانٌ فلاناً: كلَّمه كلاماً خفيًّا. (وُسْوِسَ): اختَلَطَ كلامُه ودُهِش. و في حديث عثمان: لمَّا قُبِضَ رسولُ الله صَلى الله عليه وسلم: "وُسْوِسَ ناسٌ، وكنتُ فيمن وُسْوِس" الوَسْوَاسُ: الشيطانُ. و مَرَضٌ يَحدُث من غلبة السَّوداءِ، يختلط معه الذِّهن.
الآيات الواردة في الوسواس:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ . مَلِكِ النَّاسِ . إِلَهِ النَّاسِ . مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ . مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [سورة الناس]. {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا...} [الأعراف: 20]. {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16].
الأحاديث الواردة في الوسواس:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ما من مولود إلا على قلبه الوسواس فإن ذكر الله خنس وإن غفل وسوس وهو قوله تعالى: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}" (مستدرك الحاكم صفحة 590- جزء 2). عن ابن عباس قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه الشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة» ( صحيح ابن حبان صفحة 360- جزء 1).
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجدون من الوسوسة، وقالوا: يا رسول الله إنا لنجد شيئًا لو أن أحدنا خر من السماء كان أحب إليه من أن يتكلم به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذاك محض الإيمان» (مسند أحمد صفحة 154- جزء 7).
حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ وَاللَّفْظُ لِهَارُونَ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ» قال أبو هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا، حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته» ( صحيح البخاري صفحة 1194- جزء 3).
عن عبد الله قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال: «تلك محض الإيمان» ( صحيح مسلم صفحة 119- جزء 1). عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، فإذا قضي أقبل فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضي أقبل حتى يخطر بين الإنسان وقلبه، فيقول اذكر كذا وكذا حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعًا، فإذا لم يدر ثلاثا صلى أو أربعًا سجد سجدتي السهو» ( صحيح البخاري صفحة 1196- جزء 3).
عن أبي العلاء أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثًا، قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني» ( صحيح مسلم صفحة 1728- جزء 4).
يقول ابن القيم -رحمه الله- في إغاثة اللهفان: "لا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس: فأهله قد أطاعوا الشيطان ولبوا دعوته، واتبعوا أمره ورغبوا عن أتباع سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته".
قال الشيخ أبو محمد ابن قدامة المقدسي في كتابه (ذم الوسواس): "ثم أن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان حتى اتصفوا بوسوسته، وقبلوا قوله وأطاعوه، ورغبوا عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، حتى أن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء الرسول عليه الصلاة والسلام أو صلى كصلاته فوضوءه باطل، وصلاته غير صحيحة ويرى أنه إذا فعل مثل فعل الرسول عليه الصلاة والسلام في مؤاكلة الصبيان وأكل طعام عامة المسلمين أنه قد صار نجساً يجب عليه تسبيع يديه وفمه، كما لو ولغ فيهما كلب أو بال عليهما هر".
ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلي ما يشبه الجنون ويقارب مذهب السوفسطائية، الذين ينكرون حقائق الموجودات، والأمور المحسوسات، وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات، وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلاً يشاهده ببصره ويكبر، ويقرأ بلسانه بحيث تسمعه أذناه، ويعلمه بقلبه، بل يعلمه غيره منه ويتيقنه، ثم يشك: هل فعل ذلك أم لا؟ وكذلك يشككه الشيطان في نيته وقصده التي يعلمها من نفسه يقيناً، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله، ومع هذا يقبل قول إبليس في أنه ما نوى الصلاة ولا أرادها، مكابرة منه لعيانه، وجحداً ليقين نفسه، حتى تراه متلدداً متحيراً، كأنه يعالج شيئاً يجتذبه، أو يجد شيئاً في باطنه يستخرجه، كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس، وقبول وسوسته، ومن انتهت طاعته لإبليس إلي هذا الحد فقد بلغ النهاية في طاعته.
ثم أنه يقبل قوله في تعذيب نفسه ويطيعه في الإضرار بجسده، تارةً بالغوص في الماء البارد، وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك، وربما فتح عينيه في الماء البارد، وغسل داخلهما حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلي كشف عورته إلي الناس، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزئ به من يراه.
ذكر أبو الفرج بن الجوزي عن أبي الوفاء بن عقيل: "أن رجلا قال له: أنغمس في الماء مراراً كثيرة وأشك، هل صح لي الغسل أم لا؟ فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخ اذهب، فقد سقطت عنك الصلاة، قال: وكيف؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رُفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ» ومن ينغمس في الماء مراراً ويشك هل أصابه الماء أم لا، فهو مجنون".
قال: "وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ويشغله بوسوسته في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى، وربما فوت عليه ركعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا، ثم يكذب" قلت: "وحكي لي من أثق به عن موسوس عظيم رأيته أنا يكرر عقد النية مراراً عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة، فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة، فلم يدعه إبليس حتى زاد، ففرق بينه وبين امرأته، فأصابه لذلك غم شديد!"
العلاج الشرعي: نبدؤه بكلام نفيس لابن قيم الجوزية رحمه الله:
"فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله، وليعزم على سلوك طريقته، عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم، وأن ما خالفه هو من تسويل إبليس ووسوسته، ويوقن أنه عدو له لا يدعوه إلى خير {..إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}" [فاطر: 6].
فإنه لا يشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على الصراط المستقيم، ومن شك في هذا فليس بمسلم، ويقول لنفسه: "ألست تعلمين أن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الصراط المستقيم؟ فإذا قالت له: بلى، قال لها: فهل كان يفعل هذا؟ فستقول: لا، فقل لها: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار؟ وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان؟ فإن اتبعت سبيله كنت قرينه، وستقولين: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38]. ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فليقتد بهم، وليختر طريقهم فقد روينا عن بعضهم أنه قال: "لقد تقدمني قوم لو لم يجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته".
وقال زين العابدين يوماً لابنه: "يا بني اتخذ لي ثوباً ألبسه عند قضاء الحاجة، فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب، ثم انتبه فقال: ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا ثوب واحد، فتركه". وكان عمر -رضي الله تعالى عنه- يهم بالأمر ويعزم عليه، فإذا قيل له لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى، حتى إنه قال: "لقد هممت أن أنهي عن لبس هذه الثياب، فإنه قد بلغني أنها تصبغ ببول العجائز، فقال له أُبي بن كعب رضي الله عنه: مالك أن تنتهي، فان رسول الله عليه الصلاة والسلام قد لبسها ولُبست في زمانه، ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: صدقت".
ثم ليعلم أن الصحابة ما كان فيهم موسوس، ولو كانت الوسوسة فضيلة لما أدخرها الله عن رسوله وصحابته، وهم خير الخلق وأفضلهم، ولو أدرك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الموسوسين لمقتهم، ولو أدركهم عمر -رضي الله عنه- لضربهم وأدبهم، ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم.
وصفات علاجية نبوية :
1- المداومة على ذكر الله في كل حين وعدم الغفلة عنه، ومن ذلك جميع أنواع العبادات وعلى رأسها توحيد الله وعدم الإشراك به، والصلاة والصيام والزكاة والحج، وتلاوة القرآن وأذكار الصباح والمساء والنوم والاستيقاظ، وعند الأكل والشرب وبعد الانتهاء منهما، والأذكار دبر الصلوات وسائر أذكار اليوم والليلة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ما من مولود إلا على قلبه الوسواس فإن ذكر الله خنس وإن غفل وسوس، وهو قوله تعالى: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} ( مستدرك الحاكم صفحة 590- جزء 2).
2- الوسوسة في الذات الإلهية أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن ذلك صريح الإيمان. فإذا علمت ذلك اطمأن قلبك وهدأت نفسك وزال همك، ومن العلاج في هذه الحالة الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والتوقف الفوري و بإرادة قوية عن ذلك التفكير، وليقل آمنت بالله.
عن ابن عباس قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه الشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة» ( صحيح ابن حبان صفحة 360- جزء 1). حدثني زهير بن حرب حدثنا جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: "جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال: «وقد وجدتموه» قالوا نعم قال: ذاك «صريح الإيمان» (صحيح مسلم حديث رقم: 188).
أما معاني الأحاديث وفقهها فقوله صلى الله عليه وسلم: «ذلك صريح الإيمان، ومحض الإيمان» معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققًا، وانتفت عنه الريبة والشكوك، وقيل: "معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن آيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة، بل يتلاعب به كيف أراد" فعلى هذا معنى الحديث: سبب الوسوسة محض الإيمان، أو الوسوسة "علامة محض الإيمان". وهذا القول اختيار القاضي عياض.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجدون من الوسوسة، وقالوا: يا رسول الله إنا لنجد شيئًا لو أن أحدنا خر من السماء كان أحب إليه من أن يتكلم به؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم: «ذاك محض الإيمان» ( مسند أحمد صفحة 154- جزء 7).
قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته» (صحيح البخاري صفحة 1194- جزء 3). ثبت في مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه في هذا الحديث: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا، خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله»
3- الوسوسة أثناء أداء الصلاة هي من مهام شيطان يقال له خنزب وهو متخصص في ذلك بحيث أنه له قدرات أكثر من غيره في التلبيس على المصلين، وعلاجه النبوي هو الاستعاذة بالله من الشيطان والتفل -نفث هواء الفم مع ما يخالطه عادة من القليل من اللعاب- وذلك إلى اليسار في اتجاه القدم اليسرى ثلاث مرات، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط فإذا قضي أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضي أقبل حتى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول اذكر كذا وكذا حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا فإذا لم يدر ثلاثا صلى أو أربعا سجد سجدتي السهو» ( صحيح البخاري صفحة 1196- جزء 3).
عن أبي العلاء أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا» قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني" (صحيح مسلم صفحة 1728- جزء 4).
4- في حال الوسوسة في الوضوء:
أ- بتوهم خروج قطرة من البول بعد انتهائه منه فقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علاجه، بنضح القبل بقليل من الماء بعد نهاية الوضوء حتى يقطع دابر الوسوسة فيعزو إحساسه بالرطوبة إلى الماء المنضوح وليس إلى خروج قطره من البول، ثم يقطع بعد ذلك تسلسل تفكيره وينقله إلى أمر آخر ينفعه في دينه ودنياه، عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد بن حارثة، عن النبي صلى الله عليه و سلم: «أن جبريل عليه السلام أتاه في أول ما أوحي إليه فعلمه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه» ( مسند أحمد صفحة 165- جزء 5).
و حدثني عن مالك عن الصلت بن زيد أنه قال: "سألت سليمان بن يسار عن البلل أجده فقال: انضح ما تحت ثوبك بالماء واله" (موطأ مالك: حديث رقم:80).
عن الحكم بن سفيان الثقفي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضأ ثم أخذ كفًا من ماء فنضح به فرجه" (صحيح – المشكاة: 361، صحيح أبي داود: 159، تمام المنة). عن أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما إسباغ الوضوء؟ قال فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حضرت الصلاة، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فغسل يديه، ثم استنثر ومضمض، وغسل وجهه ثلاثاً، ويديه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه وغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم نضح تحت ثوبه فقال: «هكذا إسباغ الوضوء» ( مسند أبو يعلى الموصلي: صفحة 470- جزء 11). عن الحسن بن عبيد الله النخعي عن أبي الضحى قال: "رأيت ابن عمر توضأ ثم نضح حتى رأيت البلل من خلفه في ثيابه" (مصنف عبد الرزاق صفحة 153- جزء 1).
عن عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن سعيد بن جبير وغيره عن ابن عباس، قال: "شكا إليه رجل، فقال: "إني أكون في الصلاة فيخيل إلي أن بذكري بللاً، قال: قاتل الله الشيطان إنه يمس ذكر الإنسان في صلاته ليريه أنه قد أحدث، فإذا توضأت فأنضح فرجك بالماء، فإن وجدت، قلت هو من الماء ففعل الرجل ذلك فذهب" (مصنف عبد الرزاق صفحة 151- جزء 1). عن عبد الرزاق عن داود بن قيس قال: "سألت محمد بن كعب القرظي قلت: إني أتوضأ وأجد بللاً، قال: إذا توضأت فأنضح فرجك فإن جاءك فقل هو من الماء الذي نضحت، فإنه لا يتركك حتى يأتيك ويحرجك" ( مصنف عبد الرزاق صفحة 152- جزء 1).
ب- وسوسته بخروج الريح من دبره أثناء الصلاة، فعلاج ذلك هو ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب عدم قطع الصلاة إلا إذا سمع الموسوس صوتًا أو شم ريحًا، مما يصعب جدًا، بل يستحيل أن يتيقن منه الموسوس.
حدثنا علي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب حدثنا عن عباد بن تميم عن عمه: "أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: «لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا»" (صحيح البخاري حديث رقم: 134).
عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته، فيأخذ شعرة من دبره فيمدها، فيرى أنه قد أحدث، فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» ( مسند أحمد صفحة 525- جزء3). ولنعلم جميعًا أن الطهارة يقين فلا تذهب بالشك بل لا بد من اليقين لكي نحكم بانتقاضها ولعل أقرب تمثيل لها هو إمكانية حلفك على انتقاضها مما يدل على اليقين، فإن استطعت أن تحلف فتطهر مرة أخرى وإلا فلا.
ونقطة أخيرة إن كنت ممن ابتلي بالوسواس فلا تعير لهذه الأفكار والهواجس أية أهمية، ولا تقودك لزيادة أو إعادة، فإنك إن لم تفعل أجرت وإن فعلت وزرت لأنك أطعت الشيطان.
أسأل الله العظيم الجليل أن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا ومن شر الشيطان ووسوسته وشركه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.