لمَّا ذكر اللهُ تعالى أحكامَ الصيام وفِقْهَه، وعَزائِمَه ورُخَصَه، أمر عبادَه إذا أكملوا عِدَّةَ الشَّهرِ وأتمَّوا صيامَه أن يكبِّروه شُكراً على ما هداهم إليه من الصيام وغيره من الطاعات، وكذلك أمرهم إذا قَضَوا مَناسِكَهم...
قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة من الآية:185].
لمَّا ذكر اللهُ تعالى أحكامَ الصيام وفِقْهَه، وعَزائِمَه ورُخَصَه، أمر عبادَه إذا أكملوا عِدَّةَ الشَّهرِ وأتمَّوا صيامَه أن يكبِّروه شُكراً على ما هداهم إليه من الصيام وغيره من الطاعات، وكذلك أمرهم إذا قَضَوا مَناسِكَهم، فقال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ . ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:198-200].
وقال في الْهدّيِ: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:36-37].
وهكذا أمر اللهُ تعالى مَنْ هَدى مِنْ عِباده أن يشكروه على ما هداهم؛ لأَنَّه أعطاهم ما لم يُعْطِ غيرَهم، وفَضَّلهم واختصهم، كما قال تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
وقال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142]، وقال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105].
والمراد بهذه الهداية التي أمر اللهُ المهتدين بشكرها هدايةُ التَّوفيق التي معناها خَلْقُ قُدْرةِ الطاعة، لأَنَّ الهداية أنواع:
هدايةٌ عامة: وهي هدايةُ المخلوقات كُلِّها لما هي ميسَّرةٌ له كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3].
وهدايةُ البيان والدلالة والإرشاد، والمراد بها دلالةُ الإنسان على طريق الخير والشر، وتعريفُه الحقَّ والباطل، والهُدى والضَّلال، والغيَّ والرَّشاد، كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وقال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3].
ولهذه الهداية بعث اللهُ الرُّسلَ وأنزل الكُتُبَ فقال تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد من الآية:7]، وقال في حَقِّ الأنبياء: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء من الآية:73].
وقال في حَقِّ القرآن الكريم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء من الآية:9].
وقال في حَقِّ التوراة: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ . هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الأَلْبَابِ} [غافر:53-54]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة من الآية:44].
وقال في حَقِّ الإنجيل: {وَقَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} [المائدة من الآية:46].
والنوع الثالث هدايةُ التَّوفيق، وهو خَلْقُ قُدرَةِ الطَّاعةِ والإعانةُ على الاستجابة وهذه هداية خاصة: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:16].
وهذه الهداية لا يملكها إلاَّ اللهُ وحده ولذلك كانت من دلائل الألوهية كما قال موسى عليه السلام: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، وقال الخليل إبراهيم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78].
وأمر خليلَه محمداً أن يُقيم الحُجَّة على المشركين بقوله: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:35].
فالتَّوفيقُ للطَّاعة والإعانةُ عليها لا يملكه إلاَّ اللهُ ولذلك قال الله تعالى لنبيِّه: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة من الآية:272]، وقال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، مع أنَّ اللهَ تعالى قال له: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى من الآية:52].
فَعُلِمَ أنَّ الهدايةَ الثانية المثبتَة غيرُ الهداية المنفيَّة عنه، فالمثبتةُ هي هدايةُ البيان والدِلالة والإرشاد التي تَتِمُّ عن طريق الدَّعوة كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون:73]، أما التوفيق لقبول الدعوة والانتفاع بهدايتها فذلك للهِ وحده دون غيره، ولذلك أمرهم أن يستهدوه فقال في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ» (رواه مسلم: [2577/1994/4]).
والإنسانُ محتاجٌ إلى الهداية أشدَّ من حاجته إلى الطعام والشراب؛ لأَنَّه لو فقد الطعام والشراب فمات وكان من المهتدين دخل جنَّاتِ النعيم: {فِيها أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد من الآية:15].
أمَّا إذا فقد الهدايةَ فقد شَقِيَ في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرعد:34].
ومعنى ذلك أَنَّ الهداية إلى الحقِّ والرَّشاد خيرٌ من الدنيا وما فيها، فمن هُدي إلى صراط الله المستقيم فقد أُوتي خيراً كثيراً ووجب عليه أن يفرح بما أُوتي كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس من الآية:58].
"وقد تنوَّعت عباراتُ السَّلف في تفسير الفضل والرحمة والصحيحُ أَنَّهما الهُدى والنعمة، فَضْلُه هداه ورحمتُه نعمتُه" (الفوائد لابن القيم: [133])، ووجب على من هُدي إلى صراط مستقيم أن يشكر الهادي كما أمر سبحانه، فإِنَّ الشكر من موجبات الزيادة كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم من الآية:7].
وقد اختلفت عباراتُ العلماء في معنى الشُّكر، وخُلاصة القول:
أَنَّ الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، فأمَّا الشُّكرُ بالقلب فهو الاعتقادُ والاعتراف، والمحبَّة والانقياد والخضوع، بمعنى أن يكون القلبُ معتقداً ومعترفاً بأنَّ ما بالعبد من نعمة فمن الله وحده لا شريك له، لذلك يُحبُّ المُنْعِمَ مَحَّبةً تستلزم الخضوعَ والانقيادَ والتسليمَ لأمره.
وأمَّا شكر اللسان فيكون بالاعتراف بالنعم والتَّحدُّثِ بها والثناءِ على الله من أجلها، كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، وقال: "التحدُّث بنعمة الله شُكر، وتركها كُفر" (حسن: ص. ج: [3011]).
وأن يكثر العبد من قول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف من الآية:43]، وأَمَّا الشكر بالجوارح فهو: أن يُسَخِّرَها في طاعة الله وينهاها عن معصيته فيكون نظرُه في آيات الله المنظورة والمقروءة، وسَمْعُهُ لآيات الله المسطورة والمكتوبة، ويدُه في الخير ممدودةٌ وعن الشَّرِّ مقصورة، ورِجْلُه إلى الخير تسعى وهكذا، وعلى العبد أن يستعين بالله على شكره، كما أثنى الله تعالى بذلك على سليمان فقال: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19].
وقال عن الإنسان: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» (صحيح: ص. ج: [7846]، وأحمد: [774/54/4]، وأبو داود: [1508/384/4]، والنسائي: [53/3]).
وقد جرتْ سُنَّةُ اللهِ تعالى بجعل قَبُوِل هدايةِ الأنبياء سبباً لهداية التوفيق فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9].
فلمَّا سمعوا دعوةَ الرسول إلى الإيمان فآمنوا هداهم اللهُ ووفَّقهم وشرح صدورَهم للإسلام وحبَّب إليهم الإيمان وزيَّنه في قلوبهم وكرَّه إليهم الكُفْرَ والفُسوقَ والعِصيان وجعلهم من الراشدين، ولذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17]، وقال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم من الآية:76].
وأَمَّا الذين سمعوا الهدى وصَمُّوا آذانهم وعاندوا واستكبروا فإِنَّ الله يُعاقِبُهم بالحرمان من الانتفاع بما سَمِعُوا من الهدى قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16].
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [النور:54].
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ باللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ عز وجل غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى، وَلَعَمْرِي لَوْ أَنَّ كُلَّكُمْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ، مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ الرَّجُلَ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الصَّفِّ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ فَيَعْمِدُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّي فِيهِ فَمَا يَخْطُو خَطْوَةً إِلاَّ رَفَعَ اللَّهُ لَهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً" (رواه مسلم: [654-257/ 453/1]، وأبو داود: [546/254/2]، وابن ماجة: [777/255/1]، والنسائي: [108/2]).
فيا أيها الرَّاغِبُ في الهداية الحريصُ عليها احرص على السُّنَّةِ واستمسك بها، فكلما فعلت سُنَّةً ازددت هدى، وكلما ازددتَ اتِّباعاً ازددت هدى، وعلى قدر ما تتركُ من السُّنَّة تنقص هدايتك، فأَهْدَى الناس سبيلاً هم أتباعُ النبي المستمسكون بُسَّنته، وأضَلُّ الناس سبيلاً هم أهلُ الأهواء والبدع قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].
فمن قامت عليه الحُجَّةُ بهداية البيان والدِلالةِ والإرشاد فآمن زاده اللهُ هدى، ومن بلغته الدعوةُ فعاند أضلَّه الله وختم على قلبه كما قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10].
وقال تعالى: {يَا بَنِي ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف:35]، وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:133-137].
وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]، وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
و قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16]، ولذلك قال مؤمنو الجن بعد أن هداهم الله: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30].
فمن أجاب محمداً فقد اهتدى، ومن أعرض عنه فقد ضَلَّ وغوى، ولذلك قال الله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَءَامِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:31-32].
كما جرت سُنَّتُه تعالى بجعل أعمال البرِّ سبباً للهداية وجَعْلِ أعمال الفُجور سبباً للضلالة قال تعالى: {الم . ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:1-5]، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة من الآية:26].
فيا أيها الرَّاغبُ في النَّجاة الحريصُ على الهداية جاهد نفسَك على فعل الخير وأعمال البِّر التي جعلها اللهُ سبباً للهداية فإِنَّ الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، واعلم أَنَّ الله غَنَيٌّ عن العالمين ولذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6].
وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:5-6].
وَفِرَّ إلى الله تعالى بالدُّعاء وأَلِحَّ عليه في السؤال: «اللهم اهدني فيمن هديت» (صحيح: ص. د: [1263]، أبو داود: [1412/300/4]، والترمذي: [463/289/1]، والنسائي: [248/3]، وابن ماجة: [1178/372/1]).
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» (رواه مسلم: [2721/2087/4]، والترمذي: [3555/184/5])، فإِنَّه من استهدى اللهَ هداه، واعلم أَنَّ حاجتك إلى الهداية شديدةٌ وما لم يحصل لك منها أضعافُ أضعافِ ما حَصَّلتَ فأنت بحاجة دائماً إلى سؤال الله الهداية، ولذلك فرض اللهُ على من هداهم للصلاة أن يسألوه في كل ركعة الهدى وعلَّمهم أن يقرءوا في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وليس المرادَ ثِّبتْنا ولكنه اهدنا لما لم نهتد إليه بعد، فإِنَّ درجات الهداية متباينة، وكلما انتهى الإنسانُ إلى درجةٍ كانت فوقها درجات.
والحمد لله ربِّ العالمين.