السر الدفين
السر الدفين :
وهي وصية النبي :
« من استطاع منكم أن يكون له خبيء من عمل صالح فليفعل » .
فلابد نعم لابد لكل مريض أن يكون له عبادة سرية مع الله لا يعلم بها أحد سواه ، إنه دواء فوق الدواء ، وضمانٌ للشفاء ، وتكثيرٌ للحسنات ، ودليل الإخلاص ونقاء النيات ، وقد حثَّنا الله ورسوله عليه في كل عبادة :
ففي الذكر : « ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه » ، وقول ربنا في الحديث القدسي : « عبدي .. إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خاليا ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم وأكبر » .
وفي الصدقة : « ورجل تصدق بصدقة حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ». عن محمد بن واسع قال : " لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالا يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جانبه ".
وفي الدعاء : قول ربنا : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [ الأعراف : 55 ] ، وقال عقبة بن عبد الغافر : " دعوة في السر أفضل من سبعين في العلانية ، وإذا عمل العبد في العلانية عملاً حسناً وعمل في السر مثله قال الله لملائكته : هذا عبدي حقا " .
وفي الصوم : قال عيسى بن مريم عليه السلام : " إذا كان يوم يصوم أحدكم ؛ فليدهن لحيته ، ويمسح شفتيه ، وليخرج إلى الناس حتى كأنه ليس بصائم " .
وفي الصلاة : « صلاة الرجل تطوعا حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسا وعشرين » ، وقال : « تطوع الرجل في بيته يزيد على تطوعه عند الناس كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده » .
الخلوة سلاح ذو حدين
ومن لوازم عبادة السر وجود الخلوة ، فالمطلوب منك كي تضاعف أثر دوائك أن تخفيه ، وذلك في خلوة من الناس ، فإن قضيت خلوتك في معصية الله ؛ فقد حوَّلت الدواء إلى وباء ، وجعلت من العسل علقما ، والله الذي يطلع على الأسرار يفضح من يفعل ذالك من الأبرار والفجار. قال حكيم زمانه وواعظ عصره يحيى بن معاذ الرازي[ ت : 258 ] : " من خان الله في السر هتك سره في العلانية " .
يا كاتم السر ومخفيه أين من الله تُواريه
بارزت بالعصيان رب العلى وأنت من جارك تُخفيه
يقول الإمام ابن القيم في تفسير قوله تعالى : يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [ الطارق : 9 ] :
" في التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة ، وهو أنَّ الأعمال نتائج السرائر الباطنة ، فمن كانت سريرته صالحة ، كان عمله صالحا ، فتبدو سريرته على وجهه نورا وإشراقا وحياء ، ومن كانت سريرته فاسدة ، كان عمله تابعا لسريرته ، لا اعتبارا بصورته ، فتبدو سريرته على وجهه سوادا وظلمة وشينا ، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته ، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته ، ويكون الحكم والظهور لها " .
وفي المقابل ينشر الله المسك والريحان والنور والإيمان لكل من أطاعه في السر ، واسمع خبر محمد بن أسلم :
" وقيل لأحمد بن نصر : يا أبا عبد الله!! صلى عليه ألف ألف من الناس ، وقال بعضهم : ألف ألف ومائة ألف من الناس ؛ يقول صالحهم وطالحهم : لم نعرف لهذا الرجل نظيرا ، فقال أحمد بن نصر : " يا قوم أصلحوا سرائركم بينكم وبين الله ، ألا ترون رجلا دخل بيته بطوس فأصلح سره بينه وبين الله ، ثم نقله الله إلينا فأصلح الله على يديه ألف ألف ومائة ألف من الناس " .
وخبر معروف في هذا الشأن معروف ، فقد قال عنه ابن الجوزي :
" فهذا معروف ؛ كان منفردا بربه ، طيِّب العيش معه ، لذيذ الخلوة به ، ثم قد مات منذ نحو أربعمائة سنة ، فما يخلو أن يُهدي إليه كل يوم ما تقدير مجموعة أجزاء من القرآن ، وأقله من يقف على قبره فيقرأ : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ويُهديها له ، والسلاطين تقف بين يدي قبره ذليلة ؛ هذا بعد الموت ، ويوم الحشر تُنشر الكرامات التي لا توصف " .
ويشرح وهب بن منبِّه العلاقة الوطيدة بين السر والعلانية ؛ والصلة الخفية بين الخلوة والجلوة ، ويبيِّن قدر كل منهما ودرجته بالنسبة إلى أخيه في قوله :
" ولا تظن أن العلانية هي أنجح من السريرة ، فإنَّ مثل العلانية مع السريرة ، كمثل ورق الشجر مع عرقها ، العلانية ورقها ، والسريرة عرقها ، إن نُخِر العرق هلكت الشجرة كلها ، ورقها وعودها ، وإن صلحت صلحت الشجرة كلها ، ثمرها وورقها ، فلا يزال ما ظهر من الشجرة في خير ما كان عرقها مستخفيا ، لا يُرى منه شيء ، كذلك الدين لا يزال صالحا ما كان له سريرة صالحة ، يصدق الله بها علانيته ، فإن العلانية تنفع مع السريرة الصالحة ، كما ينفع عرق الشجرة صلاح فرعها ، وإن كان حياتها من قبل عرقها ، فإن فرعها زينتها وجمالها ، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين ، فإنَّ العلانية معها تزين الدين وتجمله ، إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عز وجل " .
للخلوة ست فوائد
والخلوة من أنجع الوسائل في رؤية عيوب النفس ومعرفة آفاتها. قال ابن الجوزي :
" فعليك بالعزلة والذكر والنظر في العلم ، فإن العزلة حمية ، والفكر والعلم أدوية ، والدواء مع التخليط لا ينفع ، وقد تمكنت منك أخلاط المخالطة للخلق والتخليط في الأفعال ، فليس لك دواء إلا ما وصفت لك ، فأما إذا خالطت الخلق وتعرَّضت للشهوات ، ثم رمت صلاح القلب رُمتَ الممتنع" .
والخلوة تكون بذلك بابا من أبواب التوبة ، وقد لمح هذا المدخل مقتفي الأثر الماهر أبو الفرج ابن الجوزي حيث أدهشنا في كتابه المدهش ( المدهش ) بهذا الفضل فقال :
" خلق قلبك صافيا في الأصل ، وإنما كدرته الخطايا ، وفي الخلوة يركد الكدر " .
ولذا جعلها يحيى بن معاذ من أبرز علامات التوبة الصادقة والمميزة لها عن التوبة الكاذبة ، فقال : " وعلامه التائب : إسبال الدمعة ، وحب الخلوة ، والمحاسبه للنفس عند كل همة " ، وأوصى بها وريث الأنبياء ودرة الأتقياء الحسن البصري آمرا كل تائب : " وابكِ في ساعات الخلوة لعل مولاك يطلع عليك ، فيرحم عبرتك ، فتكون من الفائزين " .
والخلوة وسيلة إلى اقتناص خواطر الخير وصيد الأفكار الجيدة التي لا ترد في الزحام وبين الناس ؛ كما حكى تجربته في ذلك الإمام أبو سليمان الخطابي [ ت : 388 ] فقال :
إذا خلوتُ صفا ذهني وعارضني خواطرٌ كطراز البرق في الظلم
وإن توالى صياح الناعقين على أذني عرتني منه لكنة العجم
والخلوة ميزان دقيق يقيس به العبد إيمانه ويعرف صدقه وإخلاصه. قال ابن القيم : " من فقد أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف ، ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول ، ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود ، ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله " .
والخلوة طريق موصل إلى محبة الله كما قال ذلك ابن القيِّم في الوسيلة الثامنة من أصل عشرة لنيل هذا الشرف :
" الثامن : الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه ، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة " .
ونصيب كل منا من هذا الحب حسب مقدار خلوته وإخلاص نيته ، وفي ذلك فليتنافس المحبون. قال ابن الجوزي :" الخلوة شرك لصيد المؤانسة ، فأخفى الصيادين شخصا وأقلهم حركة أكثرهم التقاطا للصيد ، ما صاد هرَّا صاح " .
والخلوة عند بعض أطباء القلوب من بعض ثمن الجنة ، فقد قال يحيى بن معاذ وقد سُئل يوما : ما العبادة؟! فقال :" حرفة حانوتها الخلوة وربحها الجنة " .
والخلوة تكون أسهل في اعتكاف رمضان أو في رحلة عمرة أو حج ، لكنها تحتاج إلى مجاهدة أشد واهتمام أكبر في أي وقت غير هذا ؛ لأنك عندها تنتزع نفسك من وسط أعبائك واهتماماتك وأموالك وعيالك لتجمع همك على الله وحده ، وقد يمل الإنسان الخلوة ، وهو ما نقله العلامة الخطابي عن أحد الحكماء وهو يشرح لماذا يمل الإنسان من الجلوس وحده ، فقال
" قال بعض الحكماء : إنما يستوحش الإنسان بالوحدة لخلاء ذاته ، وعدم الأفضلية من نفسه ؛ فيتكثر حينئذ بملاقاة الناس ، ويطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم ، فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة ، ويتفرغ الاستخراج الحكمة "