سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله
سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله
محمد بن شاكر الشريف
الدعوة إلى الله - تعالى - عبادة من أشرف العبادات، وعمل من أجل الأعمال لا يقوم به على وجهه الصحيح إلا أولو العزم من
الرجال لما يكتنفه من مشاق ومسؤوليات وخاصة في زمان غربة الدين.
والدعوة إلى الله مهمة رسل الله إلى الناس من لدن آدم - عليه السلام - إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - الذين جعلهم الله - تعالى - واسطة بينه وبين خلقه يبلـغون عنه شرعه إليهم، ويكفي في بيان شرف هذا العمل قوله - تعالى -:{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]
أي: لا أحسن من ذلك على الإطلاق لكن الدعوة عمل، والعمل لا يؤتي ثماره المرجوة منه إلا أن يؤدى على وجه من الإتقان والكمال، وهذا هو ما يحبه اللـه - تعالى - كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ» حسنه الألباني في صحيح الجامع، والإتقان في الدعوة أجلٌّ وأخطر من أي عمل آخر لأن الدعوة يعوَّل
عليها في تحقيق الغاية من الخلق. قال - تعالى -: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] فكان في عدم إتقان الدعوة والخطأ فيها سبيل من سبل الصد عن دين الله وهو ذنب جسيم.
والمسلم في الدعوة إلى الله - تعالى - يقابل بيئات مختلفة، ويتعامل مع أصناف شتى من الناس في ظل ظروف متباينة لذا كان المسلم في حاجة ماسة إلى المعرفة بسياسة الدعوة في دعوته الناس إلى دين ربهم العزيز الحميد، السياسةَ التي يكون هدفها العمل على
تحقيق الغاية من الخلق بالطرق المناسبة لتحقيق الهدف في ظل مراعاة البيئات المتعددة وأصناف الناس والظروف المحيطة بالداعية والمدعو،
وهذا هو الإصلاح الحقيقي الذي يعمد إلى تحقيق المقاصد الحميدة بأقصى قدر ممكن في ظل الأوضاع والظروف القائمة من غير أن تتدخل تلك الظروف أو الأوضاع فتحرف مسار المقاصد والأهداف فإن السياسة الحقة هي عمل ما فيه الصلاح، ولذلك كانت دعوات الرسل جميعهم دعوة للإصلاح كما قال نبي الله شعيب عندما دعا قومه إلى توحيد الله وعبادته والالتزام بما شرعه لهم من الأحكام: { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ} [هود: 88]
فالإصلاح هو منهج الرسل وأتباع الرسل،
بعكس الإفساد الذي هو منهج المنافقين ومعارضي رسل الله رغم تبجحهم بزعم الصلاح. قال الله - تعالى - عن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ *أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } [البقرة: 11 - 12]. ومن هنا فإن الله ينهى عن طاعة المسرفين أصحاب الفساد في الأرض إذ يقول: {وَلا تُطِيعُوا أَمرَ الـمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفسِدُونَ فِي الأَرضِ وَلا يُصلِحُونَ} [الشعراء: 151 - 152].
والإصلاح أمر حسن جميل تدركه النفوس بما أودع الله في فطرتها من حب الجمال والحسن حتى إن الإنسان ليدركه قبل أن تصل إليه في ذلك شريعة. قال الرجل الذي هو من قوم موسى - عليه السلام - قبل أن تأتي موسى الرسالة: {إنْ تُرِيدُ إلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الـمُصلِحِينَ} [القصص: 19]، ولا أحد أحسن في سلوك طريق السياسة النافعة أو الإصلاح من رسل الله الذين أرسلهم لقيادة العالمين في طريق الهداية والخير،
وفي هذا المقال نستعرض بعضاً من الملامح العامة لأساليب وطرائق السياسة الشرعية التي اتبعها الرسول - صلى الله عليه وسلم -
في الدعوة إلى الله - تعالى - لتكون نبراساً للدعاة يقتفون أثرها، وينهجون على منوالها فمن ذلك:
1 - مراعاة الظروف المحيطة وأحوال البيئة التي تتم فيها الدعوة:
فينبغي على الداعية دراسة البيئة دراسة جيدة فيعرف عادات الناس وأخلاقهم ونقاط الضعف والقوة لديهم، كما يعلم عقائدهم وعباداتهم وما يتعلق بهم، حتى تكون خطواته الدعوية متناسقة مع تلك الأوضاع للحصول على أكبر قدر من
النتائج الحسنة في الدعوة، وليس معنى ذلك الانحناء أمام هذه الظروف والأحوال وجعلها تعرض نفسها أو معطياتها على الدعوة، بحيث تؤثر في مضمون الدعوة بالتغيير أو التمييع، ولكن الداعية يتصرف مع مراعاة الظروف فلا هـو يستسلـم لهـذه الظـروف ولا هو يغالبها ـ
إذا كانت أكبر من استطاعته - فتغلبه، ولنأخذ المثال التطبيقي على ذلك من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعندما أوحى الله إليه - صلى الله عليه وسلم - كانت البيئة المحيطة كلها بيئة شركية، فكانت مواجهته لهم في بادئ الأمر فيها نوع من المغالبة التي لا يستطيعها الإنسان بمفرده، هذا من جانب. ومن الجانب الآخر فقد يموت الداعية أو يُقتل قبل أن يتمكن من كسب أحد من الناس ليقوم بمهام
الدعوة من بعده، وهذا قد يؤدي في النهاية إلى إحباط المشروع الدعوي برمته ،
كما أن الإذعان لهذا الواقع والاستسلام لضغوطه بحيث تكون مهمة الداعية إجراء بعض الترقيعات على الواقع والتي قد لا تؤثر كثيراً، كان في هذا أيضاً انحراف بالدعوة عن طريقها فماذا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إزاء ذلك الوضع؟
لقد سلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - طريقاً وسطاً بحيث يحافظ على نقاء الدعوة وتوصيل الحق كـامـلاً غيـر منقـوص، فـي الوقـت الـذي لا يغالب فيه الواقع الذي هو فوق الطاقة المحدودة للفرد فقد لجأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الدعوة الفردية السرية،
فبدأ بدعوة من يأنس فيهم الرشد ورجاحة العقل في إدراك الحق، فحافظ بذلك على نقاء الدعوة مع أمنه
من مضايقات المشركين ومغالبتهم له في أول الأمر،
وليس في هذا تقصير من ناحية عدم تعميم الدعوة لأن هذا القدر كان هو الممكن، وكان هذا من السياسة الحكيمة التي اتبعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في توصيل الدعوة وتبليغها، وبعض الناس لا يفطنون لذلك، فيريد أن يبلغ الشريعة كلها من غير نظر إلى ما حوله، فيصطدم بما يعوقه عن تحقيق قصده، وربما صرفه ذلك العجز عن الدعوة نهائياً، وهو إنما أُتي من عدم علمه بالسياسة الشرعية
في الدعوة وظنه أن كل ما هو معلوم لديه ينبغي قوله وإذاعته.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - كلام نفيس في ذلك عما ينبغي على العالم أن يقوم من البيان والتبليغ، فيقول - رحمه الله تعالى -: (فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كمـا أخـر الـله - سبحانه -إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسليماً إلى بيانها يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]،
والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به. فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلاً وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما بعث به شيئاً فشيئاً ومعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة.
كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يُلقّن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال،
وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه.
ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل،
لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم فإن العجز مُسقط للأمر والنهي وإن كان واجباً في الأصل. والله أعلم.
ومما يدخل في هذه الأمور الاجتهادية علماً وعملاً أن ما قاله العالم أو الأمير أو فعله باجتهاد أو تقليد فإذا لم يرَ العالم الآخر والأمير الآخر مثل رأي الأول فإنه لا يأمر بـه أو لا يأمـر إلا بمـا يـراه مصـلحـة، ولا ينهى عنه إذ ليـس لـه أن ينهـى غيره عن اتباع اجتهاده، ولا أن يوجب عليه اتباعه فهذه الأمور في حقه من الأعمال المعفوة لا يأمر بها ولا ينهى عنها، بل هي بين الإباحة والعفو. وهذا باب واسع جداً، فتدبره)
لكن الدعوة السرية الفردية التي اتبعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر، وإن كانت مهمة لمرحلة الابتداء أو شرطاً في النجاح والاستمرار، لكنها لا تصلح أن تكون منهجاً عاماً إلى آخر المدى إذ لا يمكن لدعوة عالمية يرجى لها الذيوع والانتشار في مشارق الأرض ومغاربها أن تعتمد هذا الأسلوب فقط إلى النهاية فإن في هذا إضعافاً شديداً للدعوة بل وأداً لها
لذلك فما أن استجاب لهذه الدعوة نفر من الصحابة الأجلاء، وخرجت الدعوة عن حيز الانحصار في شخص واحد بحيث يؤمَن من وأدها والقضاء عليها،
وما أن وجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعواناً على الدعوة حتى بادر إلى الأسلوب الآخر أسلوب الإعلان والبوح وإظهار الدعوة والجهر بها بين الناس رغم ما في ذلك من تعرض للأذى والمضايقات إذ هذا الأسلوب هو الكفيل بنشر الدعوة وبلوغها للناس على نطاق واسع في زمن قليل جداً إذا قورن بزمن الأسلوب الأول، لكن ما أن جهر الرسول - صلى الله عليه وسلم -
بالدعوة حتى عاداه المشركون وصدوا الناس عن دعوته، ولم يكن هذا في الحقيقة نتيجة لأمر عارض كطريقة عرض الدعوة مثلاً،
ولكن كانت هذا المعارضة نتيجة تناقض حقيقي بين دعوة الإسلام ودعوة الشرك. فالإسلام قائم على عبادة الله وحده والعدل بين الناس، وأمـا الشـرك فهــو قائــم على عبادة غير اللــه والعلــو فـي الأرض بغــير الحـق، لكـن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعـدمـا اطمـأن علـى الدعـوة ظــل ســائراً فـي طريقه لم يثنه عن ذلك ما ظهر من معارضة المشركين لأن هذه المعارضة من طبيعة التناقض
التام بين دعوة الحق ودعوة الباطل. وعلى الدعـاة إلى اللــه - تعالى - علـى بصيــرة أن يستفيــدوا من هذه السياسة التي اتبعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله تعالى فعليهم أن يراعوا الظروف والأحوال في الدعوة مع الحذر من أمرين:
أحدهما: التفريط في مضمون الدعوة أو عرضها ناقصة أو مبتورة أو خلطها بأمور مخالفة بزعم ترويجها أو التخلص من بعض القيود.
وثانيهما: تعرض الدعوة للوأد أو القضاء عليها نتيجة للمغالبات التي تفوق طاقتهم. ومن البيِّن أن الأسلوب أو الطريقة التي تتبع في ذلك قد تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى آخر اعتماداً على أوضاع بيئة الدعوة وظروفها وإمكانات الدعاة وقوتهم.
ولا شك أن هناك أساليب كثيرة يمكن أن تتحقق بها الدعوة مع تفادي المحذورين المذكورين، ومن هذه الأساليب الأسلوب الذي اتبعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من باب السياسة الشرعية وليس من قبيل التشريع الدائم الذي ينبغي على الدعاة اتباعه وسلوكه في جميع الظروف والأحوال.
2 - مراعاة المصالح والمفاسد:
الشريعة كلها مبناها على المصالح فما أمرت به فهو المصلحة الخالصة أو الراجحة، وما نهت عنه فهو المفسدة الخالصة أو الراجحة. وإذا تعارضت المصالح والمفاسد في الأمر الواحد بحيث لا يخلو من أحدهما بل يجتمعان معاً فإنه يقدم الأرجح منهما فما كانت مصلحته أرجح من المفسدة عُمل به وعُوِّل عليه، وما كانت مفسدته أرجح من مصلحته تُرك ولم يعوَّل عليه. وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه المراعاة في موقفه من أذى المشركين له ولأتباعه في مكة حينما جهر بدعوته فقد بدأ المشركون في الصد عن دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحذير القادمين إلى مكة منه وحرصهم على ألا يجلس إليه أحد، كما بدؤوا في إيذاء المسلمين وإهانتهم وتعذيب الضعفاء منهم،
وقد كان في ذلك ظلم شديد للمسلمين والعربي نفسه أبية لا تحتمل الضيم ولا تقبله حتى قال قائلهم
ولا يقيم على ضيم يُسام به *** إلا الأذلاَّن: عير الحي والوتدُ
هذا على الخسف مربوط برمته *** وذا يشح فلا يرثي له أحدُ
فكيف إذا انضاف إلى ذلك الإسلام؟ ورد الظلم وإباء الضيم مصلحة {وَلَـمَنِ انتَصَرَ بَعدَ ظُلمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيهِم مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 41].
لكن كان في رد الظلم والانتصار للنفس في ذلك الظرف إلى جانب تلك المصلحة مفسدة كبيرة تربو عليها، فكانت السياسة الشرعية في ذلك الوقت منع المسلمين من الرد على المجتمع الجاهلي والأمـر بالصبـر
واحتمـال الأذى فـإن أحـداً لا يدري في تلك الظروف مع قلة المسلمين وضعفهم وقوة المجتمع الجاهلي ماذا يمكن أن تسفر عنه المواجهات بين المسلمين وعدوهم؟ فقد تتمخض عن معركة كبيرة يفنى فيها المسلمون أو أكثرهم،
أو قد تتدخل القبائل دفاعاً عن أبنائها (ولو كانوا مسلمين بدافع العصبية الجاهلية) مما يمكن أن تنشأ عنه ما يعرف بالحرب الأهلية مما لا يوفر ظروفاً مساعدة للدعوة، بل تتقوقع الدعوة في هذه الحالة وتنحصر أو غير ذلك من الاحتمالات التي تخسر فيها كل ما حققته من مكاسب، فكان احتمال الضيم على ما فيه من إيلام وقسوة على النفوس الأبية أهون شراً وأقل ضرراً
من محاولة دفع الظلم، لكن هذه المراعاة للمصالح والمفاسد لا تتم مع الاستكانة والشعور بالمذلة أو التعرض للإبادة الكاملة، لكنها تكون مع الاستعلاء بالدين والشعور بالعزة، ولذلك كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأجواء وهو يأمر أصحابه بالصبر يبشرهم بالعز والنصر والتمكين ويقسم على ذلك
ففي حديث خباب بن الأرت أنه قال:« شكونا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لهُ في ظلِّ الكعبةِ ، قلنا لهُ : ألا تستنصرُ لنا ، ألا تدعو اللهَ لنا ؟ قال : ( كان الرجلُ فيمن قبلكم يُحْفَرُ لهُ في الأرضِ ، فيُجْعَلُ فيهِ ، فيُجاءُ بالمنشارِ فيُوضَعُ على رأسِهِ فيُشَقُّ باثنتيْنِ ، وما يصدُّهُ ذلك عن دِينِهِ . ويُمْشَطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دونَ لحمِهِ من عظمٍ أو عصبٍ ، وما يصدُّهُ ذلك عن دِينِهِ ، واللهِ ليُتِمَّنَ هذا الأمرُ ، حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموت ، لا يخافُ إلا اللهَ ، أو الذئبَ على غنمِهِ ، ولكنكم تستعجلونَ» صحيح البخاري
وعلى ذلك فإن من السياسة الشرعية أن يراعي الدعاة والعاملون المصالح والمفاسد المترتبة على الأعمال والتصرفات فإن العمل لا يكفي فيه أن يكون ظاهره مشروعاً إذا عُلم أنه يترتب عليه مفسدة أكبر من المصلحة التي يحققها، وهذا يدخل في القاعدة الفقهية المعروفة
بـ (سد الذرائع) وهي أن العمل المشروع إذا كان ذريعة إلى مفسدة أكبر فإنه يمنع،
ومما ينبغي ملاحظته في هذا الباب أن المصالح والمفاسد المترتبة على بعض الأعمال لا تظل أبد الدهر هكذا فإن المصالح والمفاسد المترتبة على أوضاع تتغير بتغير تلك الأوضاع، ولذلك فإن المسلمين بعدما انتشرت دعوتهم وقويت شوكتهم أذن لهم في القتال،
ثم أمروا به، ولم يعد الرد على المشركين مفسدة ينبغي لأجلها تحمل الظلم والسكوت عن مواجهته.
ونظراً لاتساع رقعة بلاد المسلمين اليوم فإن المصالح والمفاسد المرتبطة بالأوضاع تختلف من مكان لآخر لاختلاف الأوضاع فما يكون مفسدة في مكان قد لا يكون مفسدة في مكان آخر، وما يكون مصلحة في مكان قد لا يكون مصلحة قي مكان آخر، والمصلحة والمفسدة إنما تقاس بمعيار الشرع وليس بمعيار المكسب والخسارة المادية فقط فقد دل غلامُ الأخدود الملكَ الكافر على كيفية قتله، وكان ذلك في ظاهره مفسدة
لتمكين الكافر من التسلط على نفس مسلمة، ولكنه كان بمقياس الشرع مصلحة راجحة لأن هذا التصرف كان سبباً ووسيلة إلى إحياء نفوس كثيرة بالإيمان، وكذلك إذا نزل الكافر الباغي المعتدي بأرض المسلمين
فإن التصدي له ومدافعته هو المصلحة وإن ترتب على ذلك مفسدة إهلاك للحرث والنسل لأن تركه وعدم مدافعته يؤدي إلى إهلاك الدين الذي هو مقدم على الحرث والنسل، ثم هو بعد ذلك لن يحافظ على الحرث والنسل.
3 - الحرص على هداية المدعوين أولاً:
الداعية له هدف عظيم هو هداية الناس إلى دين الله وهذا هو ما يحرص عليه ويسعى في سبيل تحقيقه، ويلتمس له الوسائل والطرق المناسبة رغبة في إخراج الناس من الظلمات إلى النور للفوز برضا خالقهم، وليس همٌّ الداعية محصوراً في إقامة الحجة على الناس وإن كان ذلك من مقتضيات دعوته فعندما يكون همٌّ الداعية إقامة الحجة وكفى فإنه لن يجتهد اجتهاد الحريص على هداية الناس وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته حريصاً على هداية الناس وكان يبذل لهم كل ما يدعوهم إلى الاهتداء،
ويحزنه حزناً شديداً عدم استجابة الناس للدعوة حتى خاطبه ربه في ذلك وقال له: {وَلا يَحزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفرِ} [آل عمران: 176]، وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إنْ لَّم يُؤمِنُوا بِهَذَا الـحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤمِنِينَ} [الشعراء: 3] باخع نفسك: أي مهلكها. فلم يكن همٌّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - محصوراً في مجرد إقامة الحجة عليهم، بل كان همه الأكبر هو في قيادهم إلى الإيمان،
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يسلك في ذلك كل طريــق مـن شأنـه أن يحقـق مـراده وهـذه عائشـة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تخبرنا أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -:« يا رسولَ اللهِ ! هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يومِ أُحُدٍ ؟ فقال ( لقد لقيتُ من قومِك . وكان أشدَّ ما لقِيتُ منهم يومَ العقبةِ .
إذ عرضتُ نفسي على ابنِ عبدِ يا ليلِ بنِ عبدِ كلالٍ . فلم يُجِبْني إلى ما أردتُ . فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي . فلم أَستَفِقْ إلا بقرنِ الثعالبِ . فرفعتُ رأسي فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتْني . فنظرتُ فإذا فيها جبريلٌ . فناداني . فقال : إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد سمع قولَ قومِك لك وما رَدُّوا عليكَ . وقد بعث إليك ملَكَ الجبالِ لتأمرَه بما شئتَ فيهم . قال : فناداني ملكُ الجبالِ وسلَّم عليَّ . ثم قال : يا محمدُ ! إنَّ اللهَ قد سمِع قولَ قومِك لكَ . وأنا ملَكُ الجبالِ . وقد بعثَني ربُّك إليك لتأمرَني بأمرِك . فما شئتَ ؟ إن شئتَ أن أُطبقَ عليهم الأخشبَينِ ) .
فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ( بل أرجو أن يخرجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبدُ اللهَ وحدَه ، لا يشركُ به شيئًا"صحيح مسلم
وعلى ذلك فإن من السياسة الشرعـية فـي الدعـوة إلـى الله - تعالى - أن تظهر من الداعية الرغبة الحقيقية والحرص على هداية الناس والتحسر على ما هم فيه من الضلال والبعد عن دين الله - تعالى -، ولا يكون موقفه منهم موقف المتشفي فيهم الذي وقف جهده وهمه على الإغلاظ عليهم، وهذه السياسة الشرعية في الحرص على هداية الناس ليست قاصرة على شريعتنا،
بل هذا ما أوصى الله به موسى وأخاه هارون عندما أرسلهما لدعوة فرعون إذ قال الله لهما: {فَقُولَا لَهُ قَولًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَى} [طه: 44]
فالموقف موقف دعوة وترغيب في الهداية، فكان المناسب لذلك هو القول اللين الذي من شأنه أن يقود إلى الاستجابة. وأما الإغلاظ في القول والشدة في التصرف في هذه الحالة يكون مدعاة للنفور والاستكبار. وهذا نوح - عليه السلام -
قال لقومه: {اعبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغفِرْ لَكُمْ مِّنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 3 - 4] إلى أن يقول: {ثُمَّ إنِّي دَعَوتُهُم جِهَارًا * ثُمَّ إنِّي أَعلَنتُ لَهُم وَأَسرَرتُ لَهُمْ إسرَارًا * فَقُلتُ اسْتَغفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرسِلِ السَّمَاءَ عَلَيكُمْ مِّدرَارًا} [نوح: 8 - 11]، كل ذلك حرصاً منه ورغبة في هدايتهم.
فالتماس الوسائل واتخاذ الطرق والأساليب المؤدية لذلك هو همٌّ الدعاة الحقيقي. وبعد هذا الجهد الكبير فهناك من يشرح الله
صدره ويهديه، ولكن مع ذلك تبقى بقية ظالمة فاجرة متكبرة لم يُرِدِ الله هدايتها فإذا وصلت فئة إلى هذا الحد وانقطع أمل الداعية في رجوعهم للحق فإن عليه أن يواجه الظالم الكفور بما يناسبه مع مراعاة ما تقدم ذكره من المصالح والمفاسد،
وليس من السياسة الشرعية تركه والحالة هذه يتمادى في غيه ويزيد من شططه إذا لم تكن هناك مصلحة ترتجى من وراء ذلك،
وقد قال الله - تعالى - في قصة موسى - عليه السلام - مع فـرعون لعنه الله ـ: {وَلَقَدْ آتَينَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَل بَنِي إسرَائِيلَ إذ جَاءَهُم فَقَالَ لَهُ فِرعَونُ إنِّي لأَظُنٌّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101]، فرد عليه موسى - عليه السلام - وقال له: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلاَّ رَبٌّ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ بَصَائِرَ وَإنِّي لأَظُنٌّكَ يَا فِرعَونُ مَثبُورًا} [الإسراء: 102]،
فبعد كل هذه الآيات البينات يلجٌّ فرعون في غيه، ويرفض الإيمان، ويتهم موسى بالسحر فما كان من موسى - عليه السلام - إلا أن واجهه بأنك تعلم يا فرعون علماً يقيناً أن هذا ليس بسحر وأن هذه آيات أنزلها رب السموات،
ثم يتهدده بقوله: وإنك يا فرعون لأظنك مثبوراً أي هالكاً ممقوتاً ناقص العقل، فليس من السياسة الشرعية في الدعوة أن نقف أبد الدهر عند قوله - تعالى -: {فَقُولَا لَهُ قَولًا لَّيِّنًا} [طه: 44]،
وليس من السياسة أيضاً أن نبدأ الدعوة بـ {وَإنِّي لأَظُنٌّكَ يَا فِرعَونُ مَثبُورًا} [الإسراء: 102]، وإنما السياسة الحقة هي مقابلة كل موقف بما يناسبه ففي موقف الدعوة [ ] وقبل استحكام العناد يأتي قوله - تعالى -: {فَقُولَا لَهُ قَولًا لَّيِّنًا} [طه: 44]، وفي موقف الجهاد والجِلاد يأتي قوله - تعالى -: {وَإنِّي لأَظُنٌّكَ يَا فِرعَونُ مَثبُورًا} [الإسراء: 102]، وقوله - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالـمُنَافِقِينَ وَاغلُظْ عَلَيْهِم} [التحريم: 9]،
وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ وَليَجِدُوا فِيكُمْ غِلظَةً} [التوبة: 123]، ومن ذلك هذا الذي نزل فيه قوله - تعالى -: {أَوَ لَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نٌّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 77 - 78]،
قال قتادة: (ذُكِرَنا لنا أن أُبَيَّ بن خلف أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعظم حائلٍ,، ففتَّه، ثم ذرَّاه في الريح، ثم قال: يا محمد! من يحيي هذا وهو رميم؟ قال: الله يحييه، ثم يميته، ثم يدخلك النار. قال: فقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد»[ تفسير بن جرير]، فقابله الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه الشدة في الجواب فهذا الذي يناسب موقف المعاندين المتجبرين.
- عدم التقيد بالأرض:
فقد تضيق أرض الأوطان على رحابتهـا بالدعــاة إلى اللـه بحـيث يحاصَرون مـن كل جهـة، فلا يتمكنون من الدعوة أو تبليغ الأمانة التي ائتمنهم الله - تعالى - على تبليغها لخلقه، وقد لا يقف الأمر عند حدود المنع والتضييق، بل يتعداه إلى أن يأتمر أهل الظلم والضلال بالدعاة ليقتلوهم أو يخرجوهم وينفوهم من ديارهم أو يحبسوهم رجاء فتنتهم وردهم إلى الجاهلية التي أنقذهم الله منها،
وقد سجل القرآن الكريم هذه الأساليب كلها في محاربة المشركين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول الله - تعالى -: {وَإذْ يَمكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَوْ يَقتُلُوكَ أَوْ يُخرِجُوكَ} [الأنفال: 30] الآية والإثبات هو الحبس والقيد والإخراج هو النفي والطرد والإبعاد،
والقتل معروف وإذا لم تسمح لهم الأحوال باتباع تلك الأساليب لمنع الداعية من الدعو إلى الله، أو لقوة الركن الذي يركن إليه من قبيلة أو عرف أو نظام، أو لعدم مواتاة الظروف لاتباع ذلك المنهج فإنهم يعمدون إلى فتنة الداعية بالإغراء كي
يحولوه عن طريقته، وقد سجل أيضاً القرآن الكريم هذا الأسلوب حيث يقول الله - تعالى -: {وَإنْ كَادُوا لَيَفتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوحَينَا إلَيكَ لِتَفتَرِيَ عَلَينَا غَيرَهُ} [الإسراء: 73] الآية
فماذا يفعل الداعية إزاء هذا الوضع الحرج؟ هل يستسلم لذلك ويركن إلى بعض القواعد الفقهية ويتكئ عليها بغير ضوابطها الصحيحة كما يفعل ذلك بعض الناس الذين صعبت عليهم تكاليف الدعوةحتى يسـوِّغ لنفسـه مداهنتهم وتـرك مدافعتهــم؟
إن للدعـاة فـي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسوة الحسنة في كل شأنهم: في العبادة، والدعوة، وفي السياسة وفي كل شيء.
لقد عانى الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أشد المعاناة من إيذاء المشركين له في مكة المكرمة حتى قاطعوه هو وعشيرته وحاصروهم في الشعب حتى لم يجدوا ما يأكلونه، وضيقوا عليه كل التضييق، وحاصروه أشد المحاصرة حتى يحولوا بينه وبين لقاء الوفود ودعوتهم إلى الله فماذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ كان - صلى الله عليه وسلم -
يسعى إلى مقابلة الحجيج وعُمَّار بيت الله وزواره، وكان يجتهــد في المحافظة علــى سـرية هذه اللقاءات حتــى لا يسعى المشركون في إفسادها،
ولم يستسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك، بل حاول في اتجاه آخر هو الخروج بالدعوة من الحصار الذي فرض عليها، فقام برحلته المشهورة إلى الطائف على رجليه والتي تبعد عن مكة قرابة ثمانين كيلو متراً كل ذلك في سبيل أن يكسر الطوق المضروب حول الدعوة، وهو ما يعني أن المسلم لا يجوز له أن يتضعضــع أمــام الواقـع ويســتسلم له
ولا يبحث عن مخارج أخرى، بل عليه السعي والبحث، وكلما لاح له بارق أمل فعليه أن يسلك السبيل إليه مهما كان في ذلك من مشقة، ولما بلغ الطغيان بالمشركين مبلغاً عظيماً يفوق قدرة بعض المسلمين أذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة إلى الحبشة، وبقي هو ومن يمكنه البقاء من المسلمين في مكة يواصلون مهمة الدعوة إلى الله إلى أن طفح الكيل بالكفار،
ولم يعودوا قادرين على تحمل بقاء الرسول - صلى الله عليه وسلم -
بين أظهرهم، فعزموا على قتله، ووضعوا الخطة لذلك وشرعوا في تنفيذها، عندها لم يعد البقاء في مكة والحالة هذه يرجى منه تحقيق نفع للدعوة،
وأصبح البقاء في هذه الحالة من قبيل الإلقاء باليد إلى التهلكة أو من قبيل تقديم حب الأوطان والديار على حب الله ورسوله والجهاد في ســبيله، وكِلا الأمرين ممنــوع في ديــن الله فقــد قال الله - تعالى -: {وَلَا تُلقُوا بِأََيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكََةِ} [البقرة: 195] كمــا قال - تعالى -: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَونَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]،
وهذا يبين لنا جانباً من سياسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عدم التمسك بالأرض والتقيد بالوطن على حساب الدعوة، وإذا نظرنا نظرة إجمالية في ذلك فسنجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظل يدعو في مكة ثلاث عشرة سنة، ولم يترك مكة مع أول صدود أهلها أو مع تأخرهم وإبطائهم في الاستجابة،
وهو ما يبين أن من السياسة الشرعية في الدعوة ألا يستعجل الداعية إيمان الناس واهتداءهم، بل عليه أن يبذل وأن يقدم ما دام هناك تقبل واستجابة ولو كان ذلك بطيئاً أو ضعيفاً فإن الداعية لو كان كلما استعصت عليه محلة تركها، وذهب إلى غيرها لم يكد يستقر به المقام ولم يكد يحقق شيئاً، وسيظل ينتقل من مكان إلى مكان من غير فائدة أو جدوى إذ غالبية
الناس تظل فترة على المتابعة والتقليد لما وجدوا عليه آباءهم، ولا يتحولون عن ذلك إلا بعد جهد جهيد ومتابعة ومثابرة من الدعاة، ولذلك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظل مثابراً على المقام في مكة وهو يواصل الدعوة بكل ما أمكنه من سبيل، ولم يخرج منها إلا مكرهاً كما بين ذلك بقوله عن مكة حرسها الباري: «واللَّهِ إنَّكِ، لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إليَّ، واللَّهِ لولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ، ما خَرجتُ"صححه الألباني
ومن الأمور التي ينبغي التفطن لها أن تكوين الرجال في مثل تلك البيئة المخالفة للدعوة المشاقة لها رغم صعوبته ومشقته، لكنه يأتي في الغالب الأعم بعظماء الرجال لأنه لا يصبر على تلك الأحوال أو لا يستجيب للدعوة في ذلك الحين إلا من رسخ الإيمان عنده حتى صار مثل الجبل في ثباته ورسوخه، ولك أن تقيس ذلك بما كان عليه إيمان المهاجرين الأولين وثباتهم في الدين، ويتبين هذا من أن النفا لم يظهر فيمن استجاب للدين في مكة بعكس من استجاب للدين عند ظهوره وفشوه
فقد ظهر فيهم النفاق لأنه في مثل هذه الحالة يدخله الصادق الذي يرجو الله والدار الآخرة كما يدخله المنافق الذي يطمع في الحصول على المميزات، وأما عند الشدائد فلا يدخل إلا الصادقون،
وقد نجحت تلك السياسة التي اتبعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحفاظ على الدعوة وعلى الدعاة.
أما الدعاة فلم يحمّلهم ما لا يطيقون، ولم يجعل ارتباطهم بالأرض والوطن مما يُحرص عليه إن أضر بدينهم، بل سمح لمن لا تسمح له أوضاعه القبلية بالحماية أو المنعة بالخروج إلى الهجرة أو الإسرار بالدين إلى حين الظهور والغلبة، وأما الحفاظ على الدعوة فبالمرابطة والتواجد وعدم إخلاء الساحة عند الشدة (ما لم تصل إلى حد القضاء على الدعاة وإفنائهم فالفئة التي لم تستطع تحمل الأذى خرجت إبقاء وحفاظاً عليهم، والفئة القادرة على التحمل بقيت للقيام بالواجب، إلى أن وجد المسلمون أرضاً تقلهم (المدينة) وجماعة تؤويهم وتحميهم (الأنصار) فانتقلوا إليها بكليتهم فالأرض كلها لله والمسلم يبذر بذرة في الأرض التي تقبلها حتى تؤتي أكلها:
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخرُجُ نَبَاتُهُ بِإذنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخرُجُ إلاَّ نَكِدًا} [الأعراف: 58]، فإذا ضُيِّق على الدعاة في أوطانهم ولم يعد لهم إمكانية الدعو لدين الله رغم توسلهم لذلك بمختلف السبل فإن أرض الله واسعة {وَمَنْ يَخرُجْ مِنْ بَيتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الـمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100].
وبهذا يتبين أن الهجرة في سبيل الله عندما تسد السبل على الدعاة، وكذلك البقاء والقيام بالدعوة عندما يكون هناك أمل أو احتمال في الاستجابة كلاهما يتكامل في بيان معنى من معاني الجهاد والاجتهاد في تحقيق مرضاة الله فليس المهاجر في سبيل الله الذي يترك وطنه ومسقط رأسه ليحافظ على دينه جناناً خوافاً خرج فاراً بنفسه تاركاً ما وجب عليه من الدعوة إلى الله،
وليس من بقي بين القوم يدعوهم إلى الله متهوراً هجاماً على الأمور لا يقدرها حق قدرها، غير أن ترك الأوطان والهجرة منها ليس قدراً محتوماً في مسير الدعوات، وأنه ينبغي على كل داعية أن يهاجر من بلده كما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ
وإنما هي سياسة جزئية يُلجأ إليها عند الحاجة، وإلا لو قُدِّر أن أهل البلدة استجابوا للدعوة لم يكن هناك ما يسوِّغ الخروج، بل الخروج في هذه الحالة يعد تفريطاً وتضييعاً للدعوة وإماتة لها، فلو أن أهل مكة آمنوا بالرسول لَـمَّا دعاهم إلى الله
من أول الأمر وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أُنزل معه لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليهاجر ويخرج من مكة، ويدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - الذي تقدم: «ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت».
5 - تقديم الأصول على الفروع:
ومن السياسة في الدعوة إلى الله تقديم الأصول على الفروع إذ الفرع الذي لا أصل له مقطوع مبتوت وإن طال به الزمن، وتقديم ما يلزم وجوده لصحة الأقوال والأفعال على الأقوال والأفعال نفسها، وهذا يتبادر لكثير من الناس أنه أمر منطقي لا ينبغي
الاختلاف حوله أو العمل بغيره، لكن عند التطبيق نجد هذا الأمر مهملاً في كثير من الحالات،
وقد أشار إلى هذه السياسة وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه - عندما أرسله إلى اليمن داعياً، فقال له: «إنك تَقدُمُ على قومٍ أهلِ كتابٍ، فليكُنْ أولَ ما تدعوهم إليه عبادةُ اللهِ، فإذا عرَفوا اللهَ، فأخبِرْهم : أن اللهَ قد فرَض عليهم خمسَ صلواتٍ في يومِهم وليلتِهم، فإذا فعَلوا، فأخبِرْهم أن اللهَ فرَض عليهم زكاةً من أموالِهم، وتُرَدُّ على فقرائِهم، فإذا أطاعوا بها، فخُذْ منهم،
وتَوَقَّ كرائمَ أموالِ الناسِ »صحيح البخاري ، وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم: «فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول اللهِ ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمه...»صحيح مسلم، الحديث ففيه تقديم عبادة الله وتوحيده والإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - على الصلاة والزكاة وسائر فروض الإسلام
إذ لا يصح شيء من أداء هذه الفرائض إلا بعد الإيمان، ومن هنا قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تعليمه لمعاذ في كيفية الدعوة أن يدعو أولاً إلى الأصل الذي تتوقف عليه صحة الأشياء قبل الأشياء نفسها إذ لا فائدة منها إذا لم تعتمد على الأصل الذي يصححها، وفي هذا السياق تقول عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القرآن:
«إنما نَزَلَ أولَّ ما نزَلَ منه سورةٌ مِن المُفَصَّلِ ، فيها ذكرُ الجنةِ والنارِ ، حتى إذا ثابَ الناسُ إلى الإسلامِ نزَلَ الحلالُ والحرامُ ، ولو نزَلَ أولُّ شيءٍ : لا تشربوا الخمرَ لَقالوا : لا نَدَعُ الخمرَ أبدًا ، ولو نزَل : لا تَزْنُوا ، لقالوا : لا نَدَعُ الزنا أبدًا ، لقد نزَلَ بمكةَ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإني لجاريةٌ ألعَبُ :{بَلِ السَّاعَةُ مَوعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدهَى وَأَمَرٌّ} [القمر: 46]،وما نزَلَتْ سورةُ البقرةِ والنساءِ إلا وأنا عندَه"صحيح البخاري
قال ابن حجــر - رحمه الله - في شرح الحديث قَوله: (نَزَلَ الحلال والحرام) أَشَارَت إِلَى الحِكمَة الإِلَهِيَّة فِي تَرتِيب التَّنزِيل، وَأَنَّ أَوَّل مَا نَزَلَ مِن القُرآن الدٌّعَاء إِلَى التَّوحِيد، وَالتَّبشِير لِلمُؤمِنِ وَالمُطِيع بِالجَنَّةِ، وَلِلكَافِرِ وَالعَاصِي بِالنَّارِ فَلَمَّا اِطمَأَنَّت النٌّفُوس
عَلَى ذَلِكَ أُنــزِلَت الأَحكَام وَلِهَذَا قَالَت: «وَلَو نَـزَلَ أَوَّل شَــيء: لَا تَشرَبُوا الخَمر لَقَالُوا: لَا نَدَعهُا» وَذَلِكَ لِمَا طُبِعَت عَلَيهِ النٌّفُوس مِن النَّفرَة عَن تَرك المَألُوف» اهـ.
فالالتزام بما جاء في الشرع عن الحلال والحرام والواجبات وغيرها يحتاج إلى قاعدة الإيمان لذلك تأخر تشريع ذلك حتى استمكن الإيمان في القلوب، وهذه السياسة مما ينبغي على الدعاة مراعاتها في الدعوة إلى الله، فإنسان مثلاً يدعو غير الله ويستغيث به وهو في الوقت نفسه واقع في بعض البدع فوجِّه همتك إلى نهيه عن الشرك واستغرق وقتك حتى يقلع عنه أو يتوب،
ولا تصرف جهدك إلى نهيه عن البدع مع إقامته على الشرك إذ ما الفائدة من تركه للبدعة وهو مقيم على الشرك؟
وإنسان تارك لبعض الواجبات لا تشغل نفسك بالحديث معه في بعض السنن، بل وجه همتك إلى الواجبات التي تركها فإنه لو أطاعك واستمع لنصحك لكنت بذلك قد رحمته وسعيت في الخير له، وإذا تزاحم عليك أمران بحيث لم تتمكن من الجمع بين بهما فقدم الدعوة إلى ما يُعَدٌّ أصلاً، ولا تشغل نفسك بالفرع، وإذا كان الأمران مما يعدان من الأصول فقدم أعلاهما منزلة،
وإذا كانا في المنزلة سواء أو قريباً من السواء فقدم ما لا يحتمل التأخير ويضيع بخروج الوقت عما لا يضيع بالوق أو كان وقته موسعاً،
وإذا كانا في ضيق الوقت وسعته سواء فقدم المتفق على حكمه بين أهل العلم عما اختلفوا فيه وهذا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب المسلمين وبينما هو على تلك الحالة إذ جاءه رجل فقال: «يا رسولَ اللهِ ! رجلٌ غريبٌ . جاء يسألُ عن دِينِه . لا يدري ما دِينُه قال فأقبل عليَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ . وترك خطبتَه حتى انتهى إليَّ فأتى بكرسيٍّ ، حسبتُ قوائمَه حديدًا . قال فقعد عليهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ . وجعل يُعلِّمني مما علَّمَه اللهُ . ثم أتى خطبتَه فأتَمَّ آخرها"صحيح مسلم .
فلما أخبر الرجل بأنه لا يدري ما دينه كان أولى ما يشتغل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو تعليم الرجل دينه، ولذلك ترك الخطبة وأقبل عليه يعلمه ولم يؤخر ذلك حتى ينتهي من الخطبة. قال النووي في شرح الحديث: «وَفِيهِ المُبَادَرَة إِلَى جَوَاب المُستَفتِي وَتَقدِيم أَهَمّ الأُمُور فَأَهَمّهَا، وَلَعَلَّهُ كَانَ سَأَلَ عَن الإيمان وَقَوَاعِده المُهِمَّة. وَقَد اِتَّفَقَ العُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَن جَاءَ يَسأَل عَن الإيمان
وَكَيفِيَّة الدٌّخُول فِي الإسلام وَجَبَ إِجَابَته وَتَعلِيمه عَلَى الفَور» اهـ.
وهكذا لا بد من مثل هذه الموازنات عندما لا يمكن تحقيق الجميع مرة واحدة، ولا يعني تأخير الحديث عن شيء أو السكوت عنه إباحة له وإنما لأن هذا هو المتاح أو المقدور عليه أو الذي يقود إلى ما بعده، وقد يظن بعض الناس أن من الحكمة أو الحنكة أو السياسة وحسن التصرف واللباقة موافقة القوم على بعض ما عندهم من الباطل وعدم مواجهتهم بما يكرهون لإزالة الوحشة ولجعل الناس تُقبل على الدعوة وتقبل ما فيها، ثم يقولون: وبعد أن يرسخ الإيمان في قلوبهم يمكن نهيهم عما سبق موافقتهم عليه من الأخطاء،
وهذا يعد من السياسة بمقتضى النظر العقلي الذي يتعارض مع النصوص الشرعية، ثم إنه قد يؤدي في النهاية وبمرور الزمن إلى ترسيخ تلك الأخطاء، وقد لا يجد الدعاة الفرصة المناسبة بعد ذلك لتصحيح تلك الأخطاء، فتظل عالقة بدعوتهم عند الناس، وهنا لا بد من التفريق بين السكوت عن النهي عن الشيء، أو السكوت عن الأمر به وبين الموافقة عليه وإقراره فإن السكوت مما يمكن تحمله إذا لم تكن ظروف الدعوة تسمح بالجهر، أما الإقرار والموافقة على الباطل أو الخطأ فليس هناك ما يسوغه من أدلة الشريعة، بل الأدلة كلها على خلاف ذلك.
6 - العناية بالأسباب مع عدم الاعتماد عليها:
الداعية إلى الله يقوم بتلك المهمة انطلاقاً من التزامه بما شرع الله وحباً لهداية الناس إلى الخير، فتدفعه شفقته ورحمته إلى بذل الجهد في ذلك لكنه مع ذلك قد تعترضه بعض العوائق التي تحول بينه وبين مراده أو قد تضعف من همته في متابعة ذلك،
وقد تكون بعض هذه العوائق مما يمكن التغلب عليها أو التقليل من تأثيرها عن طريق اتخاذ بعض السبل والوسائل التي تعين على ذلك، لكن هناك من الناس من يظن أنه ما دام يدعو إلى الله ابتغاء وجهه فإنه لا يحتاج إلى الأسباب وأن الله ناصر دعوته،
وكأن هذا الشخص يرى أنه يجب على الله - تعالى - نصره بمجرد الدعوة إليه ولو مع ترك الأسباب، وهذا تصور غير صحيح ومما يبين عدم صحة إهمال الأسباب سياسة الرسول في الدعوة إلى الله - تعالى - فمن ذلك كانت دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أولها سرية فقد ظل يدعو إلى الله في سرية ثلاث سنوات (ما يقابل 13% من سني الدعوة)
حتى لا يعرضها في أول أمرها إلى مواجهات حادة مع المشركين لا يستطيع تحملها كثير من الناس وفي ذلك أخذ بالأسباب وعدم إهمالها، وعندما كان يطوف على الناس في المواسم ويطلب النصرة ويقول: «من يُؤويني من ينصُرني حتى أُبَلِّغَ رسالةَ ربي"صحيح على شرط مسلم،
فكان يبحث عن الناصر وهذا من الأخذ بالأسباب ولم يقل إني أدعو إلى ربي على بصيرة،
ولا عليَّ إذا لم آخذ بالأسباب أو أبحث عن النصير. إن ترك تحصيل الأسـباب المقــدور عليهــا التي خلقهــا الله - تعالى - يعد تقصيراً يلام عليه العبد بحسب ما عنده من التقصير.
وعند النظر في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ بداية الدعوة وحتى وفاته - صلى الله عليه وسلم - نجد أن العناية بالأسباب والأخذ بها وعدم التفريط فيها كان ديدناً له - صلى الله عليه وسلم - فعندما جاءه الأنصار يبايعونه عند العقبة
أخذ عليهم: «وعلى أن تَنْصُروني فتمنعوني إذا قدمتُ عليكم مما تمنعون منه أنفسَكم وأزواجَكم وأبناءَكم" صحيح على شرط مسلم
ومن ذلك أيضاً عندما عزم على الهجرة مع أبي بكر - رضي الله عنه - استأجر دليلاً خِرِّيتاً (أي ماهراً عارفاً بالطُرُق) يقود بهم ويدلهم على الطرق التي يستطيعون بها الخروج من غير أن يلحق بهم المشركون، والأمثلة على ذلك كثيرة.
لكن العناية بالأسباب والأخذ بها لا يعني التوكل عليها أو الاعتماد فإن التوكل والاعتماد إنما يكون على خالق الأسباب الذي جعل الأسباب أسباباً، وهو ـ - سبحانه - ـ قادر على أن يمنع الأسباب من أن تنتج نتائجها إذا شاء ذلك، وفي قصة الهجرة المتقدمة وعلى الرغم من الأسباب التي أخذ بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا أن الكفار من تتبعهم للأثر ومن متابعة الرصد أوشكوا على التوصل إلى مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه وهنا يظهر عون الله خالق الأسباب ومسبباتها ودفاعه عن المؤمنين
إذ يمنع الكفار من التوصل إلى الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه - رضي الله عنه - وتفصيل القصة معروف. وكما في قصة إبراهيـم - عليه السلام - عندما أراد قومه أن يحرقوه فأبطل الله السبب،
ومنع النار من الإحراق: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]. وهذا موسى - عليه السلام - عندما أراد فرعون وجنوده أن يقتلوه هو ومن آمن معه،
ولما لم تكن به قدرة على مواجهته أخذ بالأسباب المقدورة له وهي الخروج بمن آمن معه من مملكة فرعـون، ولما تبعــه فرعــون وجنــوده ولم تعد لموسى - عليه السلام - حيلة في ذلك ألغى الله الأسباب، وجعله يُعبُرُ هو ومن آمن معه البحر بالآية التي جعلها له: {اضْرِبْ بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلٌّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ} [الشعراء: 63].
فالأخذ بالأسباب كان مَعلَماً بارزاً من سياسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله - تعالى -. ومع الأخذ بالأسباب وإحكامها وعدم التقصير فيها فلا بد من التوكل على الله والاعتماد عليه والاستعانة به واللجوء إليه فإن الأسباب لا تفعل من تلقاء نفسها، وإنما بجعل الله لها تلك الخاصية وهذا رسولنا الكريم في غزوة بدر بعدما أعد العدة ونظم الجيش لجأ إلى الله يدعوه ويكثر من الدعاء حتى أشفق عليه صاحبه أبو بكر من كثرة دعائه، وهذا عمر - رضي الله عنه - يقص علينا ما كان من خبر ذلك الموقف فيقول: «ما كان يومُ بدرٍ ، نظر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المشركين وهم ألفٌ ، وأصحابُه ثلاثمائةٍ وتسعةَ عشرَ رجلًا . فاستقبل نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ القبلةَ . ثم مدَّ يدَيه فجعل يهتف بربِّه ( اللهمَّ ! أَنجِزْ لي ما وعدتَني . اللهمَّ ! آتِ ما وعدتَني . اللهمَّ ! إن تهلِك هذه العصابةُ من أهلِ الإسلامِ لا تُعبدُ في الأرض ) فما زال يهتف بربِّه ، مادًّا يدَيه ، مستقبلَ القبلةِ ، حتى سقط رداؤُه عن منكبَيه . فأتاه أبو بكرٍ . فأخذ رداءَه فألقاه على منكبَيه .
ثم التزمه من ورائِه . وقال : يا نبيَّ اللهِ ! كفاك مُناشدتُك ربَّك . فإنه سينجز لك ما وعدك " صحيح مسلم
فإعداد العدة وأخذ الأهبة والتوسل بالأسباب لا يمنع من الدعاء واللجوء إلى الله مسبب الأسباب، وكذلك اللجوءُ إلى الله ودعاؤه، واعتقاد أن النصر من عنده، وأنه الخالق لكل شيء، وأن ما شــاء كان وما لم يشـأ لم يكـن لا يمنع من الاجتهاد في الأخذ
بالأسباب وإعداد العدد المناسبة لكل أمر يراد الدخول فيه، بل هما أمران يتكاملان في فهم المسلم وتصوره.