يشعر بالخشوع! تشعر بالسكينة..
يشعر باليُمن.. تشعر بالقرب!
يا رب بحبك أوي، خليك معايا يا رب.
جُمل من مثل هذا النوع لا تكاد تخلو منها صفحات التواصل الاجتماعي، خصوصًا الفيس بوك.
يحرص الكثيرون على تحديث حالاتهم كل برهة، وإجابة ذلك السؤال العتيد الذي يتوسط شاشة صفحاتهم.. بم تفكر الآن؟ ما هي حالتك؟ ما الذي تشعر به؟
من هنا تبرز تلك المشاعر المعلنة على تلك الصفحات وتصير مشاعًا بين الناس، فلا يُستغرب أن يلقى أحدهم صاحبه منزعجًا ويسأله باهتمام ما الذي جعلك تشعر بالحزن أمس؟
ولم يعد مثيرًا للدهشة أن تتصل بصديقتها فجأة لتستفهم منها عن سر كآبتها؟!
من أين عرف وكيف علمت؟ من الفيس طبعًا!
كل هذا لا إشكال فيه، بل قد يرى البعض أن له جوانب إيجابية حيث يعين الناس على الاطمئنان على بعضهم البعض، ومن ثم يتحقق الهدف الأصلي لتلك المواقع: التواصل.
لا مانع إذًا من التغاضي عن كون الحياة الخاصة لم تعد خاصة، وأن المشاعر والأحاسيس ربما شابها التكلف حين صارت مشاعًا، وأن الكثير من الناس قد صار كل ما يشغل بالهم هو كيفية التعبير عن تلك المشاعر في منشور على الفيس، أو صورة على إنستجرام، أو تغريدة على تويتر، فكل ذلك قد يقبل النقاش والأخذ والرد..
ما لا أجد له مبررًا ولا أستوعب سببه: هو أن تكون تلك الوسائل والمواقع والصفحات هي المحل الرئيسي لعلاقة البعض بربهم، أن تتحول بالتدريج إلى محاريب التعبد وساحات التنسك، أن تكون هي المكان الذي يناجي فيه الخلق مولاهم ويدعونه!
دعونا نصارح أنفسنا..
إن ترجمة المشاعر إلى كلمات، وسهولة نشرها على هيئة يقرأها الناس، وتستجلب إعجاباتهم وتعليقاتهم ومشاركاتهم، لها لذتها بلا شك، تلك اللذة التي أنست البعض اللذة الحقيقية، التي ينبغي أن يسعوا إليها..
لذة الصلة بالله، لذة المناجاة والدعاء، لذة أن يكون بينك وبين ربك سر وعلاقة لا يعلمها غيره.
أما أن تنقلب الآية فتصير لذة الإعلان هي الغاية بينما تكون المشاعر والعبادات والأدعية هي مجرد وسائل لنيل تلك اللذة! فتلك مصيبة حقيقية.
أعلم جيدًا أن البعض سيرفض وصف الأمر بالمصيبة، وسيبرره بأشياء ربما تحمل وجاهة كتذكير الناس مثلاً وحثهم على الدعاء، أو طلب تأمينهم على ذلك الدعاء، فلعل فيهم صالحًا أو صالحة يجيب الله تأمينه.
وهذا كما قلت له وجاهته ومشروعيته، وليس هو ما أستهجنه أو أنتقده، بل أفعله أحيانًا، المصيبة التي أتحدث عنها في الاقتصار على ذلك ونسيان الأصل، ذلك الأصل في العلاقة التي تكون بينك وبين ربك، والذي يتلخص في كلمة واحدة: الخصوصية.
تلك الخصوصية التي تظهر واضحة جلية في إجابة الله لمن يناجيه بسورة الفاتحة في الصلاة، فيقول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، حينئذ وكما في الحديث القدسي الصحيح يرد المولى جل وعلا: «هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل».
تأمل: «بيني وبين عبدي» خصوصية وسرية وصلة وقرب!
وفي سورة البقرة تكرر ذكر أشياء سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت دائمًا الإجابة دائمًا مبتدأة بفعل الأمر {قُلْ}، {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة من الآية:217]، {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة من الآية:219]، {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة من الآية:189]، وهكذا..
إلا في موضعٍ واحدٍ حين سألوه عن الله جل وعلا، فجاءت الإجابة بغير وسيط، أي وسيط حتى لو كان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فكان الموضع الذي ليس فيه {قُلْ} بل أجاب ربنا عنه مباشرة بنفسه قائلًا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، هو قريب إذًا.
وهو سميع بصير خبير، يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين.
لذا فالأمر لا يحتاج دومًا إلى أن تبحث عن هاتفك الذكي لتحدث مشاعرك، أو تكتب دعاءك وتعلن نجواك.
يكفيك فقط أن ترفع يديك وتناجيه، أو تتوجه له بروحك وتناديه.
وسيسمعك ويجيبك فهو السميع القريب المجيب، العليم بذات صدرك ومكنون نفسك، وهو وحده يعلم إن كان فلان أو فلانة حقًا.. يشعر بالخشوع