خَبِرْتُ معنى الهجر فلقيتهُ مؤلم شـديد الوطأة وذُقت طعم البعد فوجدّته مرّا ولعِقت علقم الصد فكان كالزّقوم لكنني لم أتخيّل مطلقا مذاق الفراق ولم أتصوّر شكيمة غوائله على النفس ولم أتوقّع قبح تأثيره، ولا وضراوة حربه ولا بشاعة وفجاجة محنتهِ ولا فظاظة نكبتهِ وعندما كُتب علي أن أفارق من أحبّني وأحْببت ظننتني جلدا صبور، حليما جسورا، أقوى على الفراق وما هي سـوى وهلة حـتى إنقلب جـلدي وصبري على عقبيهما، فإذا بي جزوعا هلوعا لا أحتمل لظـى الفـراق ولا أجد إلى الرَوِيَّة والتعزّي سبيلا ولم تُلهـم نفسي حينها معنى السكينة ولم تألف روحي طبيعة الوحدة والوحشة ونسيت فضائل الحلم، ومناقب ومكارم الوقار فصرت كطفل مدلالا فقد صدر أمه الرؤوم ولم يعوّض فقدها شفوق عطوف، ولا باذل كريم فكان يبكي ليلا وينتحب نهارا, مناجيا بقايا الأطلال ويسأل في لهفة المقهورين: أين أنتِ يا أمّاه؟ ذلك لأنّ فراق الأحبّة أفظع محنةٍ، وأشنع فتنة، وأترح رزيئة، وأكمد نكبة فكيف لا يحصل لقلبي كل هذا الفزع والجزع والوحشة وقد فارقت من تطابق طباعه طباعي، وأخلاقه أخلاقي؟ يقرأني كما أنا، وأفهم مزاجه دون عناء أشعر بحزنه قبل أن أرى دمعه ويفرح لفرحي دون أن أشعره أشتاق إليه شوق العصفور إلى الشجرة ويتوق لرؤيتي توق الصائم على سنة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أذان المغرب. رتم صوته يتردد في جنبات روحي مبتسما حينا وعابسا حينا فغضبه ورضاه سيّان عندي لإنّي قد تعهدّت وتكفّلت بأن أفعل ما يرضيه وليس عليه أن يفعل ما يرضيني فهو عين رضائي ونبع سرور ونهر سعادتي وسماء أحلامي وبلسم أسقامي وكم جاهدت نفسي على نسيانه أو تناسيه فلم أفلح فكلّما أغمضت عينيّ فرارا من أحلام اليقظة تألّق خياله وضوحا, وطيفه جلاءا وأثيره بروزا وما إن يخطر على قلبي التسلّي أو التجاهل حتى يجلب عليّ الماضي الجميل بخيله ورجله فإذا نجوت من هلوسات الصوت والصورة تقاذفتني الذكريات بشقّيها السعيد والتعيس وإذا هممت بمقاومة إضطهاد الفراق جاشت في نفسي أجمل لحظات الصفاء وتعاقبت على خَلـَدي ألذّ سويعات الوئام تواترت على مخيّلتي ثواني الخصام فعزّت عليّ السلوى ومزّقت فؤادي حراب الوجد وحطّمت أنسي فؤوس الاشتياق وأناخت بباب لبي ركاب التوقان فعدمت التأني وفارقت التسلى وتجنّبت دروب التلهِّي وتجشّمت طرق الصوفيّة الولهين فلا صبر على فراقه ولا طاقة بفقده ولا حيلة بيدي فأخلد وأخلِّده معي دون فراق. ولأنّ الإنْفِصَال حتميُ فما فتئت أسأل عنه الربى والغدران والنخل والوديان، والأفلاج ذات الجريان وكم بثثت الشكوى إلى نسمة الأثير والشاطئ الفضّي، والقمر المنير فلم أتلقى جوابا شافيا وفي غمرة اليأس عمدت إلى الهتاف: أين أنت يا مورّد الخدّين؟ أين أنت يا حياة قلبين؟ قلبي وقلبك فما أسرع ما أجابني بصوته الرخيم وقد أشرقت ملامحه على جناني: أنا هنا، أنا معك، أنا في أعماق قلبك يستحيل فراقك، ويستعصي عليّ فقدك ذلك لأنّه إنّما فارقني جسده ولم تفارقني روحه فيا شاكي الفراق جِدْ المحبوب في أعماق روحك إنّهُ غصن مُزهرٌ في لُبِ فؤادك فقط إذا كنت تحبّه حقاً وصدقا وأوفي بالتعهدات فلا بد أنّ بينكما ميثاق غليظ |
|