ها نحن في موسم الحج، وهو موسم عظيم رائع جليل تغفر فيه السيِّئات، ويُتجاوز فيه عن الخطيئات، وتقال فيه العثرات، ويعود فيه أناس كثيرون إلى الله تعالى سواء حجوا إلى البيت العتيق أم حرموا من ذلك الأجر العظيم والشرف الرفيع. وهو مناسبة عظيمة للإختلاء بالنفس ومراجعة الحال، فنحن طوال السنة في ركض وانشغال، لا نكاد نستفيق من زحمة هذه الأشغال إلاّ لنقع في أعمال أخرى وهكذا، فأتانا الله تعالى بهذا الخير العظيم والفرصة المباركة حتى نرجع فنراجع، ونسمو بنفوسنا وأرواحنا. أمّا غير الحجّاج، فيوم عرفة وصيامه يُهيِّئ النفس لهذه الخلوة المطلوبة، خاصة أنّه يوم إجازة من العمل في معظم البلاد الإسلامية. وأمّا الحجّاج، فالخلوة في حقّهم آكد، والحاجة إليها أعظم، وهي متوافرة في أيام الحج لطبيعة هذه العبادة ولإنشغال أكثر الناس بأنفسهم وما فرغوها له. وفوائد الخلوة كثيرة، منها: 1- أنّها تُهيِّئ النفس للمراجعة والتوبة، والعزم على التغيير الجاد بعد أداء العبادة، وردّ المظالم لأهلها، وهذا من أهم الأُمور التي لو وفق فيها العبد لكان قد وفق إلى شيء عظيم. 2- تعود الشخص على الإقلال من الخلطة والكلام أثناء أداء هذه العبادة العظيمة، مما يعود عليه إيجاباً بعد الفراغ من موسم الحج، إذ ليس أضر على الإنسان من كثرة الكلام والهذر مما يوقعه في الكثير من الأخطاء والخطايا، وكان شريح – أحد التابعين – إذا أحرم صار كأنّه حيّة صمّاء، لا يتكلّم. نعم، نحن لا نريد أن نكون هكذا، لكن نريد أن نستغل الموسم إستغلالاً حسناً يعود علينا بالآثار الإيجابية الحسنة، ومنها القوّة على ضبط اللسان والإقلال من الكلام. 3- الخلوة مهمة للإزدياد من العبادة والتقرُّب، فقد كان مسروق – أحد كبار التابعين – إذا حجّ لم يزل ساجداً حتى يرجع، يعني أنّه كان يُكثر من الصلاة، وهنا الأمر – أي الإزدياد من العبادة والتقرُّب – نحن في أمسّ الحاجة إليه بعد أن غزانا الجفاف الروحي وصرنا أسرى لشهواتنا ومحبوباتنا. 4- الخلوة مهمة للإزدياد من ذكر الله تعالى، خاصة أنّ الحج عبادة شُرعت للإكثار من الذِّكر، فعن معاوية بن الحكم السلمي أنّ رسول الله (ص) قال: "إنّما شُرع الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله". 5- وذِكر الله تعالى عبادة رائعة جليلة، أجرها عظيم وثوابها كبير والجهد المبذول لها قليل، كما قال النبي (ص): "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". وقال النبي (ص): "سبق المفردون"، قيل: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيراً والذاكرات". وقال (ص): "أحبّ الكلام إلى الله أربع لا يضرّك بأيّهنّ بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". وقال (ص): "لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليَّ ممّا طلعت عليه الشمس". وليحافظ الحاج على أذكار الصباح والمساء، ففيهما حفظ له وصيانة، ويترتب عليهما أجر كبير، فقد قال (ص): "ما من عبد مسلم يقول صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع إسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، فلا يضره شيء". وأخيراً، الخلوة هي طريقة النبي (ص)، سبق بها الأديان والمذاهب والأفكار والتجارب في هذا المجال سواء السبق الزماني، أو في الكيفية والأداء، إذ غلا معظم هؤلاء وأوجبوا على أتباعهم خلوة تذهب بمصالح دنياهم، أو تضرّهم في أجسادهم أو نفوسهم، أو عقولهم. أمّا النبي (ص)، فقد ضبطها ضبطاً عظيماً، فقد كان يخلو بنفسه في العشر الأواخر من رمضان، وهي مدة لطيفة لها شروطها وضوابطها، ولها آثارها الإيجابية على الإنسان، فمن استطاع أن يخلو العشر الأواخر – وهو الإعتكاف – كان حسناً، ومَن لم يستطع فعليه أن يعوض شيئاً ما بخلوته في المواسم، كالحج مثلاً. وهي خلوة جزئية شعورية، إذ الناس محيطون به، لكن خلوته هنا تعني إنقطاعه عن مشاغل الحياة الدنيا لأيام يسيرات، وتفرُّغه الذهبي والقلبي والعاطفي لما هو مقبل عليه من رحلة الخلود الطويلة، وإقلاله إلى الحد المستطاع من التعلق بالآخرين حديثاً وجدالاً وإقبالاً، فإن صنع ذلك حقق المراد من حجّه، ورجع بالمغفرة من ربّه، واستقامت حياته بعد ذلك، وهذا هو المراد من العبادة. والعالم الإسلامي اليوم مليء بمشكلات لابدّ لها من حلول، وأعداؤنا يتربّصون بنا ويحيطون بنا إحاطة السوار بالمعصم، فليس هناك مخرج إلا أن نُغيِّر من طرائق حياتنا ونقبل على مولانا العظيم، ونخرج من خطايانا وذنوبنا، ونستقبل حياة جديدة، إذ قد حان الوقت للإستفادة من العبادة، وعدم تأديتها على وجه إعتيادي مكروه لا يعود على صاحبها بالتأثير المناسب أو الأثر المرجو، وهذا الذي عانى منه العالم الإسلامي طويلاً، فالمسلمون يصومون ويصلّون ويحجّون، لكن الملاحظ أنّ أثر هذه العبادات عليهم محدود أو ضعيف، والسبب أنّهم لم ينظروا إلى الحكمة من فرض هذه العبادة، ولم يسلكوا بها المسالك الحميدة التي سلكها أسلافهم فصار أكثر المسلمين أشبه بغثاء السيل لا قيمة لهم ولا وزن في الحياة، والله المستعان |
|
|