( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير )
[ ص: 324 ] هذا انتقال من أحكام الطلاق إلى أحكام الرضاعة ، وكلاهما من أحكام البيوت ( العائلات ) الهادية إلى كيفية التعامل بين الأزواج من المعاشرة بالمعروف وتربية الأطفال ، فمن ثم عطف على ما قبله ، وللمفسرين في قوله : ( والوالدات ) ثلاثة أقوال :
( القول الأول ) أنه خاص بالمطلقات لوجوه : ( أحدها ) أن الكلام السابق في أحكامهن وهذا من تتمته . ( ثانيها ) إيجاب رزقهن وكسوتهن على الوالد ، ولو كن أزواجا لما كان هناك حاجة إلى هذا الإيجاب; لأن النفقة على الزوج التي في العصمة واجبة للزوجية لا للرضاع . ( ثالثها ) أن المطلقة عرضة لإهمال العناية بالولد وترك إرضاعه; لأنه يحول دون زواجها في الغالب ، ولما فيه من النكاية بالرجل ولا سيما الذي لم يتيسر له استئجار ظئر تقوم مقام الوالدة ، وهنا وجه ( رابع ) لترجيح هذا القول ظهر لي الآن ؛ وهو تعليل الحكم بالنهي عن المضارة بالولد ، وإنما تضار بذلك المطلقة دون التي في العصمة ، فبين أن للمطلقة الحق في إرضاع ولدها كسائر الوالدات ، وأنه ليس للمطلق منعها منه وهو عرضة لهذا المنع .
( القول الثاني ) أنه خاص بالوالدات مع بقاء الزوجية ، قال الواحدي في هذا القول : هو الأولى; لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة ، وأقول : إن هذا الترجيح مرجوح لا يلتفت إليه; لأنه مبني على الاحتجاج بقول الفقهاء على القرآن وهذا القول أضعف الأقوال .
( القول الثالث ) أنه عام في جميع المطلقات ، وقال كثيرون : إنه أولى عملا بظاهر اللفظ; فهو عام لا دليل على تخصيصه ، ويكون الرزق والكسوة - أي النفقة - خاصا ببعض أفراد العام وهن الوالدات المطلقات . وقال بعضهم : إن استئجار الأم للإرضاع صحيح ، وعبر عن الأجرة بالرزق والكسوة ، وقيل : إنه ليس في الآية ما يدل على أن الرزق والكسوة لأجل الرضاع ، وأنت ترى أن هذا خلاف المتبادر من الآية ، ونحن لا نستفيد من جعل الآية عامة زيادة عما نستفيد بجعلها خاصة ، إلا أنه يجب على غير المطلقة من إرضاع الولد مطلقا أو بشرط ما يجب على المطلقة بالنص ، وأنه من حقوقها أيضا ، وهذا يؤخذ من الآية إذا حملت على التخصيص بالطريق الأولى ، على أن القائلين بالعموم لم يقولوا بهذا الوجوب مطلقا كما يأتي ، ولا أذكر عن الأستاذ الإمام ترجيحا أو اختيارا في هذه المسألة .
قوله تعالى : ( والوالدات يرضعن أولادهن ) أمر جاء بصيغة الخبر للمبالغة في تقريره [ ص: 325 ] على نحو ما تقدم في قوله : ( والمطلقات يتربصن ) ( 2 : 228 ) وزعم بعضهم أنه خبر على بابه; أي : إن شأن الوالدات ذلك ، وأنت ترى أنه لا فائدة في الإخبار عن الواقع المعلوم للناس في مقام بيان الأحكام ، وكأن صاحب هذا القول أراد أن يقوي به قول الفقهاء الذين يرون أنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها إلا إذا تعينت مرضعا بأن كان لا يقبل غير ثديها كما يعهد من بعض الأطفال ، أو كان الوالد عاجزا عن استئجار ظئر ترضعه ، أو قدر ولم يجد الظئر ، على أن هؤلاء الفقهاء لم يروا جعل الخبر بمعنى الأمر مانعا من حكمهم هذا ، فقد حملوه على الندب في حال الاختيار ، قالوا : لأن لبن الأم أنفع للولد من لبن الظئر ، وخاصة إذا لم يكن ولد الظئر في سنه ، والظاهر أن الأمر للوجوب مطلقا; فالأصل أنه يجب على الأم إرضاع ولدها ، واختاره الأستاذ الإمام; يعني إن لم يكن هناك عذر مانع من مرض ونحوه ، ولا يمنع الوجوب جواز استنابة الظئر عنها مع أمن الضرر; لأن هذا الوجوب للمصلحة لا للتعبد ، فهو كالنفقة على القريب بشرطها ، فإذا اتفق الوالدان على استئجار ظئر، ورأيا أنها تقوم مقام الوالدة فلا بأس كما في مسألة الفصال الآتية .
وكما يجب على الأم إرضاع ولدها يجب لها ذلك بمعنى أنه ليس للوالد أن يمنعها منه ، ولأن يمنع الرجل مطلقته من إرضاع ولدها منه إن أبيح له ذلك أقرب من أن تمتنع هي عن إرضاعه ، وكان الذي يتبادر إلى فهمي أن المقصود من الجملة أولا وبالذات هو أن من حقوق الوالدات أن يرضعن أولادهن ، وما المطلقات إلا والدات فيجب تمكينهن من إرضاع أولادهن المدة التامة للرضاع ، وهي كما حددها فيرضعنهم ( حولين كاملين ) والحول : العام والسنة ، وهو في الأصل مصدر حال يحول إذا مضى وإذا تغير وتحول ، فالعام والحول يطلقان على صيفة وشتوة كاملتين ، وأما السنة فهي تبتدئ من أي يوم عددته من العام إلى مثله - اهـ ملخصا من المصباح . وقد حددت مدة الرضاعة التامة بسنتين كاملتين مراعاة للفطرة بالنسبة إلى ضعف الأطفال في أقل البيوت أو البيئات استعدادا للعناية بالتربية ، واللبن هذا الغذاء الموافق لكل طفل في هذه المدة ، وهذه المدة هي التي تثبت بها حرمة الرضاعة في النكاح ، ومن العجب أن ترى الفقهاء اختلفوا في مدة الرضاعة بعد تحديد الله سبحانه لها فقال بعضهم : هي ثلاثون شهرا ، وقال بعضهم : ثلاث سنين ، ولكن الجماهير على أن مدتها التامة لا تزيد على حولين كاملين ، وقد تنقص إذا رأى الوالدان ذلك; لأن قوله تعالى : ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) أجاز الاقتصار على ما دون الحولين ولم يحدد أقل المدة ، بل وكله إلى اجتهاد الوالدين الذي تراعى فيه صحة الطفل ، فمن الأطفال السريع النمو الذي يستغني عن اللبن بالطعام اللطيف قبل تمام الحولين بعدة أشهر ، ومنهم القميء البطيء النمو الذي لا يستغني عن ذلك ، وقد استنبطوا من قوله تعالى في سورة الأحقاف : [ ص: 326 ] ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) ( 46 : 15 ) أقل مدة الحمل بناء على أن الحولين أكثر مدة الرضاعة ، فإن ما يبقى بعد طرح شهور الحولين من ثلاثين شهرا هو ستة أشهر وهي أقل مدة الحمل . روي هذا عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وقالوا : لعل الحكمة في تحديد المدتين - أكثر الرضاعة وأقل الحمل - هي انضباطهما دون ما يقابلهما . وقد يقال : إننا نطرح مدة الحمل الغالبة وهي تسعة أشهر من مجموع مدة الحمل والفصال وهي ثلاثون شهرا ، فالباقي وهو واحد وعشرون شهرا ينبغي أن يكون أقل مدة الرضاعة ، والظاهر أن معنى قوله : ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) ذلك لمن أراد إتمامها; ولذلك قلنا : إن الأمر موكول إلى اجتهاد الوالدين ، فاللام متعلق بمحذوف ، وقيل : إنه متعلق بقوله : ( يرضعن ) أي : أنهن يرضعن هذه المدة لمن أراد إتمامها من المولود لهم وهم الآباء ، فيكون الأمر لهم في ذلك خاصة ، وسيأتي ترجيح الأول في قوله : ( فإن أرادا فصالا ) .
( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) المولود له هو الأب ، ووجه اختيار هذا التعبير على لفظ الوالد والأب هو الإشعار بأن الأولاد لآبائهم ، لهم يدعون وإليهم ينسبون ، وأن الأمهات أوعية مستودعة لهم كما قال المأمون :
وإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء
وهذا الذي قاله المأمون لا يصح إلا على العرف الجاهلي ، وهداية الإسلام أن الولد لوالديه يتقاسمان تربيته بحسب فطرة كل منهما، وحقوق الزوجية التي تقدم بيان حظ كل منهما فيها ، فالتعبير بالمولود له مقابل التعبير بالوالدات ، واختير للتنبيه على علة وجوب النفقة كأنه يقول : إن هؤلاء الوالدات قد حملن وولدن لك أيها الرجل ، وهذا الولد الذي يرضعنه ينسب إليك ، ويحفظ سلسلة نسبك من دونهن ، فعليك أن تنفق عليهن ما يكفيهن حاجات المعاش من الطعام واللباس ليقمن بذلك حق القيام ، فاختيار لفظ ( المولود له ) هنا على لفظ الأب والوالد هو الذي تقضي به البلاغة قضاء مبرما ، وبه يستفاد ما لا يستفاد بهما ، وأين نجد هذه الدقة في غير القرآن العزيز ؟
والمراد بكون هذه النفقة بالمعروف أن تكون كافية لائقة بحال المرأة في قومها وصنفها ، لا تلحقها غضاضة في نوعها ولا في كيفية أدائها إليها ، وتقدم أن هذا يرجح أن المراد بالوالدات المطلقات منهن ، وقد عبر عن النفقة هنا بالرزق والكسوة الواجبين للمرأة بمقتضى الزوجية دون الأجرة حتى لا يتوهم أن كل والدة تجب لها الأجرة على إرضاع ولدها; لأن الكلام بدئ بلفظ ( ( الوالدات ) ) وأما في سورة الطلاق فقد عبر بلفظ الأجرة إذ قال : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) ( 65 : 6 ) لأن الكلام هناك في المطلقات لا يحتمل غيره ، فلا إبهام في اختيار اللفظ الأخير ، ولو توجه الذهن إلى فهم الآية غير مثقل [ ص: 327 ] بأقوال الفقهاء لما فهم غير هذا منها ، ومن فهمها مجردة غير محمولة على مذهب معين لا يحتاج إلى الكلام في جواز استئجار الأم للرضاع مطلقا وعدمه وهي في النكاح أو العدة; إذ المتبادر من الآية أن الأم يجب عليها إرضاع ولدها عند عدم المانع الشرعي ، ويجب لها ذلك أيضا - كما تقدم آنفا - وأن المطلقات إذا كن والدات يجب أن ينفق عليهن مدة الإرضاع لما تقدم ، وهن في هذه المدة إما بائنات - ولعله الأكثر لندرة طلاق أم الطفل ولا خلاف في جواز استئجارهن حينئذ - وإما معتدات تجب لهن النفقة لعدم خروجهن من عصمة النكاح ، وقد استشكلوا استحقاق هؤلاء الأجرة على الإرضاع ، ولا إشكال في وجوب الشيء بسببين ، ولا تكرار في نصي الوجوب; لأن كل واحد منهما جاء في موضعه ، وله صورة ينفرد بها ، إذ المعتدة قد تكون والدة وغير والدة ، والمرضع تكون بائنة ومعتدة ، وكل منهما مشغولة بمصلحة الرجل المطلق شغلا يمنعها من زواج يغنيها عن نفقته; لأن المرضع قلما يرغب فيها وقلما ترغب هي في الزواج ، ثم إنها لا تستحق ولدها إذا تزوجت .