علم القراءات: هو علم تعرف به كيفية أداء، ونطق الكلمات القرآنية، واختلافها، بسندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أشرف العلوم الشرعية؛ لتعلقه بكلام الله تعالى.
قام به أئمة أعلام، أجمعت العامة والخاصة على قراءتهم، وتمسكوا بمذاهبهم، نسبت إليهم القراءات نسبةَ شهرة، لا نسبة إنشاء وابتداء.
قال ابن مجاهد في كتابه السبعة في القراءات (ص 49): (وَالْقِرَاءَة الَّتِي عَلَيْهَا النَّاس بِالْمَدِينَةِ، وَمَكَّة، والكوفة، وَالْبَصْرَة، وَالشَّام، هِيَ: الْقِرَاءَة الَّتِي تلقوها عَن أوليهم تلقياً، وَقَامَ بهَا فِي كل مصر من هَذِه الْأَمْصَار رجل مِمَّن أَخذ عَن التَّابِعين، أَجمعت الْخَاصَّة والعامة على قِرَاءَته، وسلكوا فِيهَا طَرِيقه، وتمسكوا بمذهبه، على مَا روى عَن عمر بن الْخطاب، وَزيد بن ثَابت، وَعُرْوَة بن الزبير، وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر، وَعمر بن عبد الْعَزِيز، وعامر الشّعبِيّ). اهــ.
وقراءة القرآن سنة، يأخذها الآخر عن الأول، وهذا ما أجمع عليه الأئمة الكبار، قال زيد بن ثَابت - رضي الله عنه -: الْقِرَاءَة سنة، فأقرؤوه كَمَا تجدونه.
فقام أئمة أعلام، طبقة بعد طبقة، وجيلًا بعد جيل، وتلقوا هذه الأحرف، والقراءات متواترة ندية، كأنها من السماء على قلب النبي صلى الله عليه وسلم غضة طرية، فنشأت الروايات، والطرق، والأوجه الزكية.
فكل ما نقل عن إمام رواية، وما علّمه أصحابَه قراءة، وما تفرع من رواية طريق، وكلٌ مسندٍ في كلِّ حرف حدثه، وكلِّ أداء علمه.
ونبغ واشتهر في هذا المضمار أجلاء، انقطعوا عن الدنيا رجاء الآخرة، وأخلصوا، وعن ساعد الجِدِ اجتهدوا وشمروا، ولِمَ لا، وهم يعيشون في جنة الله في أرضه، ومنشغلون بذكره عما سواه؟! فوفقهم للخير، وحفظ بهم قرآنه وكتابه.
وممن برع الإمام أبو عمرو الداني (ت: 444هـ) صاحب التيسير، جمع فيه السبعة، محدثًا فيه، ومسندًا، قال عنه ابن الجزري: (لا تجد بارزًا من أهل الفضل، والعلم ممن كثر تطوافه في البلاد، وجاب الشرق والغرب إلا ذا مشايخ وتلاميذ كثر، ومن اطلع على مرويات الداني في كتبه علم كثرة مشايخه).
وسار على ضربه الشاطبي (ت: 591 هـ) وأهدى الأمة قصيدته اللامية، والتي بلغ عدد أبياتها (1173) بيتًا، نظم فيها الشاطبي القراءات السبع المتواترة، عن الأئمة: نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي.
والشاطبية من أوائل القصائد التي نظمت في علم القراءات، إن لم تكن أولها على الإطلاق، وهي من عيون الشعر، فضلًا عن أنها حوت القراءات السبع المتواترة؛ بما اشتملت عليه من عذوبة الألفاظ، ورصانة الأسلوب، وجودة السبك، وحسن الديباجة، وجمال المطلع، والمقطع، وروعة المعنى، وسمو التوجيه، وبديع الحكم، وحسن الإرشاد، فهي بحق - كما قال العلامة ابن الجزري في غاية النهاية (285).-: "ومن وقف على قصيدته علم مقدار ما آتاه الله في ذلك، خصوصًا اللامية التي عجز البلغاء من بعده عن معارضتها، فإنه لا يعرف مقدارها إلا من نظم على منوالها، أو قابل بينها وبين ما نظم على طريقها.
ولقد رزق هذا الكتاب من الشهرة والقبول ما لا أعلمه لكتاب غيره في هذا الفن، بل أكاد أن أقول: ولا في غير هذا الفن، فإنني لا أحسب بلدًا من بلاد الإسلام يخلو منه، بل لا أظن أن بيت طالب علم يخلو من نسخة به" اهــ.
وتبعهم العالم الجليل المحقق الجهبذ ابن الجزري (محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجزري، ت: 833) - رحمه الله -
فاتجهت نفسه الكبيرة إلى علوم القراءات، فتلقاها عن جهابذة عصره، من علماء الشام، ومصر، والحجاز، إفرادًا وجمعًا بمضمن كتب كثيرة، كالشاطبية، والتيسير، والكافي، والعنوان، والإعلان، والمستنير، والتذكرة، والتجريد، وغيرها من أمهات الكتب، وأصول المراجع، ولم يكن الإمام ابن الجزري عالمًا في التجويد، والقراءات فحسب، بل كان عالمًا في شتى العلوم، من تفسير، وحديث، وفقه، وأصول، وتوحيد، وبلاغة، ونحو، وصرف، ولغة، وغيرها.
وألف في القراءات كتاب النشر في القراءات العشر في مجلدين، ومختصره التقريب، وتحبير التيسير في القراءات العشر.
ونظم كثيرًا في العلوم: فنظم غاية المهرة في الزيادة على العشرة قديمًا، ونظم طيبة النشر في القراءات العشر، والجوهرة في النحو، والمقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه، والدرة المضية في القراءات الثلاث المرضية, وغير ذلك في فنون شتى.
طيبة النشر
وهذا مبتغانا الذي من أجله سردنا المقدمة، وتحدثنا عن قافلة العلماء من أولها إلى صاحب الطيبة.
والطيبة ألفية الإمام ابن الجزري في القراءات العشر الكبرى، وهي مؤلفة من أبيات شعرية على بحر الرجز، تزيد أبياتها عن ألف ومائة بيت، جمع فيها الإمام ابن الجزري ما اختلف فيه القراء، وما ورد عنهم من أصح الطرق التي انتقاها.
قال شارح الطيبة النويري - رحمه الله -: (وكتاب: «طيبة النشر في القراءات العشر» للإمام العلامة شمس الدين ابن الجزري المذكور؛ لأنهم بمقتضاها قد قرؤوا، وعلى فهمها ما اجترؤوا، وإن تركت هي وسبيلها لم يقدروا على تحصيلها، واجتمعوا عليّ من كل فج، وادّعوا أنه تعيّن كالحج، فالتفتّ إليه فوجدته بكرًا لا يستطاع، ولا يتعلق بذيله الأطماع، جامعًا لفروع هذا الفن وقواعده، حاويًا لنكت مسائله وفوائده، مائلًا عن غاية الإطناب إلى نهاية الإيجاز، لائحًا عليه مخايل السحر، ودلائل الإعجاز، بحيث إنه من شدة الإيجاز كاد يعد من الألغاز، ففي كلّ لفظ منه روض من المنى، وفي كلّ سطر منه عقد من الدّرّ). اهـــ.
قال في النشر: (وَإِنِّي لَمَّا رَأَيْتُ الْهِمَمَ قَدْ قَصُرَتْ، وَمَعَالِمَ هَذَا الْعِلْمِ الشَّرِيفِ قَدْ دُثِرَتْ، وَخَلَتْ مِنْ أَئِمَّتِهِ الْآفَاقُ، وَأَقْوَتْ مِنْ مُوَفَّقٍ يُوقِفُ عَلَى صَحِيحِ الِاخْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ، وَتُرِكَ لِذَلِكَ أَكْثَرُ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَنُسِيَ غَالِبُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْمَذْكُورَةِ، حَتَّى كَادَ النَّاسُ لَمْ يُثْبِتُوا قُرْآنًا إِلَّا مَا فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا قِرَاءَاتٍ سِوَى مَا فِيهِمَا مِنَ النَّزْرِ الْيَسِيرِ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيّ التَّعْرِيفُ بِصَحِيحِ الْقِرَاءَاتِ، وَالتَّوْقِيفُ عَلَى الْمَقْبُولِ مِنْ مَنْقُولِ مَشْهُورِ الرِّوَايَاتِ، فَعَمَدْتُ إِلَى أَثْبَتِ مَا وَصَلَ إِلَيَّ مِنْ قِرَاءَاتِهِمْ، وَأَوْثَقِ مَا صَحَّ لَدَيَّ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ، مِنَ الْأَئِمَّةِ الْعَشَرَةِ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، وَالْمُقْتَدَى بِهِمْ فِي سَالِفِ الْأَعْصَارِ، وَاقْتَصَرْتُ عَنْ كُلِّ إِمَامٍ بِرَاوِيَيْنِ، وَعَنْ كُلِّ رَاوٍ بِطَرِيقَيْنِ، وَعَنْ كُلِّ طَرِيقِ بِطْرِيقَيْنِ: مَغْرِبِيَّةٍ وَمَشْرِقِيَّةٍ، مِصْرِيَّةٍ وَعِرَاقِيَّةٍ، مَعَ مَا يَتَّصِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الطُّرُقِ. اهـــ.
وقال الإمام ابن الجزري في النشر: (وجُمْلَةُ مَا تَحَرَّرَ عَنْهُمْ مِنَ الطُّرُقِ بِالتَّقْرِيبِ نَحْوُ أَلْفِ طَرِيقٍ، وَهِيَ أَصَحُّ مَا يُوجَدُ الْيَوْمَ فِي الدُّنْيَا وَأَعْلَاهُ، لَمْ نَذْكُرْ فِيهَا إِلَّا مَنْ ثَبَتَ عِنْدَنَا، أَوْ عِنْدَ مَنْ تَقَدَّمَنَا مِنْ أَئِمَّتِنَا عَدَالَتُهُ، وَتَحَقَّقَ لُقِيُّهُ لِمَنْ أَخَذَ عَنْهُ، وَصَحَّتْ مُعَاصَرَتُهُ، وَهَذَا الْتِزَامٌ لَمْ يَقَعْ لِغَيْرِنَا مِمَّنْ أَلَّفَ فِي هَذَا الْعِلْمِ. اهـــ.
الطرق الثمانون:
وأما طرق الطيبة التي جمعها ابن الجزري: فقال الإمام في منظومته:
بِاثْنَيْنِ في اثْنيَنِ وَإلاَّ أَرْبَعُ فَهْي زُهَا أَلْفِ طَرِيقٍ تَجْمَعُ
ضَمَّنْتُهَا كِتَابَ نَشْرِ الْعَشْرِ فَهْيَ بِهِ طَيِّبَةٌ فِي النَّشْرِ
قال في النشر (1/86) عن الطرق الثمانين:- جَمَعْتُهَا فِي كِتَابٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَسِفْرٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، لَمْ أَدَعْ عَنْ هَؤُلَاءِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ حَرْفًا إِلَّا ذَكَرْتُهُ، وَلَا خُلْفًا إِلَّا أَثْبَتُّهُ، وَلَا إِشْكَالًا إِلَّا بَيَّنْتُهُ وَأَوْضَحْتُهُ، وَلَا بَعِيدًا إِلَّا قَرَّبْتُهُ، وَلَا مُفَرَّقًا إِلَّا جَمَعْتُهُ وَرَتَّبْتُهُ، مُنَبِّهًا عَلَى مَا صَحَّ عَنْهُمْ وَشَذَّ، وَمَا انْفَرَدَ بِهِ مُنْفَرِدٌ وَفَذٌّ، مُلْتَزِمًا لِلتَّحْرِيرِ وَالتَّصْحِيحِ، وَالتَّضْعِيفِ وَالتَّرْجِيحِ، مُعْتَبِرًا لِلْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ، رَافِعًا إِبْهَامَ التَّرْكِيبِ بِالْعَزْوِ الْمُحَقَّقِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ، جَمَعَ طُرُقًا بَيْنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، فَرَوَى الْوَارِدَ وَالصَّادِرَ بِالْغَرْبِ). اهـــ
.
وقال في موضع آخر (1/190):- وَاسْتَقَرَّتْ جُمْلَةُ الطُّرُقِ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْعَشرَةِ عَلَى تِسْعِمِائَةِ طَرِيقٍ وَثَمَانِينَ طَرِيقًا؛ حَسْبَمَا فُصِّلَ فِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ كُلِّ رَاوٍ رَاوٍ مِنْ رُوَاتِهِمْ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ تَشَعُّبِ الطُّرُقِ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ، مَعَ أَنَّا لَمْ نَعُدَّ لِلشَّاطِبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمْثَالِهِ إِلَى صَاحِبِ التَّيْسِيرِ، وَغَيْرِهِ، سِوَى طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ، وَإِلَّا، فَلَوْ عَدَدْنَا طُرُقَنَا وَطُرُقَهُمْ لَتَجَاوَزَتِ الْأَلْفَ، وَفَائِدَةُ مَا عَيَّنَّاهُ وَفَصَّلْنَاهُ مِنَ الطُّرُقِ، وَذَكَرْنَاهُ مِنَ الْكُتُبِ، هُوَ عَدَمُ التَّرْكِيبِ، فَإِنَّهَا إِذَا مُيِّزَتْ وَبُيِّنَتِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ). اهـــ.
ن للقرآن وعلومه