قصة عيسى وأمه ، وزكريا ويحيى عليهم السلام
كانت زوجة عمران - وهو من أكابر بني إسرائيل ورؤسائهم وذوي المقامات العالية عندهم - نذرت حين ظهر حملها أن تحرر ما في بطنها لبيت المقدس ، يكون خادما لبيت الله ، مُعَدًّا لعبادة الله ، ظنا أن الذي في بطنها ذكر ، فلما وضعتها قالت معتذرة إلى الله شاكية إليه الحال :
رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ال عمران 36
أي أن الذكر الذي له القوة والقدرة على ما يراد منه من القيام بخدمة بيت المقدس ،
وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ال عمران 36
فحصنتها بالله من عدوها هي وذريتها ، وكان هذا أول حفظ وحماية من الله - ص 265 - لها ، ولهذا استجاب الله لها في هذه الدنيا :
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ال عمران 37
فجمع الله لها بين التربية الجسدية والتربية الروحية ، حيث قدر أن يكون كافلها أعظم أنبياء بني إسرائيل في ذلك الوقت ؛ فإن أمها لما جاءت بها لأهل بيت المقدس تنازعوا أيهم يكفلها ؛ لأنها ابنة رئيسهم ، فاقترعوا وألقوا أقلامهم ، فأصابت القرعة زكريا رحمة به وبمريم ، فكفلها أحسن كفالة ، وأعانه على كفالتها بكرامة عظيمة منه ، فكانت قد نشأت نشأة الصالحات الصدِّيقات ، وعكفت على عبادة ربها ، ولزمت محرابها ، فكان زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا ، قال : أنى لك هذا ؟ فإنه ليس لها كافل غير زكريا ، قالت :
هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ال عمران37
أي : رزقه تعالى يأتي بطرق معهودة وبطرق أخرى ، والله على كل شيء قدير .
فحين رأى هذه الحالة ذكره ذلك لطف ربه ، ورجاه إلى رحمته ، فدعا الله أن يهب له ولدا يرثه علمه ونبوته ، ويقوم بعده في بني إسرائيل في تعليمهم وهدايتهم :
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا ال عمران 39
أي : عظيما عند الله ، وعند الخلق لما جبله الله عليه من الأخلاق الحميدة ، والعلوم العظيمة ، والأعمال الصالحة .
- ص 266 - وَحَصُورًا
أي : ممنوعا بعصمة الله وحفظه ، ووقايته من مواقعة المعاصي ؛ فوصفه الله بالتوفيق لجميع الخيرات ، والحماية من السيئات والزلات ، وهذا غاية كمال العبد ، فتعجب زكريا من ذلك وقال :
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا مريم 8-9
وهذا أعجب من حملها وهي عاقر على كبرك ، فمن فرحه ورغبته العظيمة في طمأنينة قلبه قال :
رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا مريم10
وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ال عمران41
وهذه آية كبرى ، يمنع من الكلام الذي هو أسهل ما يقدر عليه الإنسان ، وهو سويّ ، فلا يقدر أن يكلم أحدا إلا بالإشارة ، ومع ذلك لسانه منطلق بذكر الله وتسبيحه وتحميده ، فحينئذ تمت له البشارة من الله ، وعرف أنه لا بد أن يكون ، فولدت زوجته يحيى ، وأنشأه الله نشأة عجيبة ، فتعلم وهو صغير ، ومهر في العلم وهو صغير ، ولهذا قال :
وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا مريم 12و13و14
- ص 267 - ومضمون هذا وصفه بالقيام بحقوق الله ، وحقوق والديه ، وحقوق الخلق ، وأن الله سيحسن له العواقب في أحواله كلها .
وأما مريم فإنها انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ، متجردة لعبادة ربها : فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا مريم17
لئلا يشغلها أحد عما هي بصدده ؛ فأرسل الله لها الروح الأمين جبريل في صورة بشر سوي من أكمل الرجال وأجملهم ، فظنت أنه يريدها بسوء ، فقالت :
إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا مريم19
فتوسلت بالله في حفظها وحمايتها ، وذكرته وجوب التقوى على كل مسلم يخشى الله ، فكان هذا الورع العظيم منها في هذه الحالة التي يخشى منها الوقوع في الفتنة ، ورفع الله بذلك مقامها ، ونعتها بالعفة الكاملة ، وأنها أحصنت فرجها ، فقال لها جبريل :
إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا
فلا تعجبي مما قدَّرَهُ الله وقضاه :
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا مريم19و20
لما تعرفه مما هي متعرضة له من الناس ، وأنهم لا يصدقونها ، ولم تدر ما - ص 268 - الله صانع لها .
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا
وكانت في مكان مرتفع ، وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين .
أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا مريم24و25
بولادة عيسى ، وليذهب روعك وخوفك
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا مريم26
فاطمأن قلبها ، وزال عنها ما كانت تجد .
ثم لما تعالت من نفاسها ، وأصلحت من شأنها ، وقويت بعد الولادة :
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ
علنا غير هائبة ولا مبالية ، فلما رآه قومها ، وقد علموا أنه لا زوج لها ، جزموا أنه من وجه آخر فقالوا :
يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ
كما أمرت بذلك ، فقالوا منكرين عليها مقالتها لهم :
كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
فقال ، وهو في تلك الحال له أيام يسيرة بعد ولادته :
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا
- ص 269 - [مريم : 30 - 33] .
فكان هذا الكلام منه في هذه الحال من آيات الله ، وأدلة رسالته ، وأنه عبد الله لا كما يزعمه النصارى ، وحصل لأمه البراءة العظيمة مما يظن بها من السوء ، لأنها لو أتت بألف شاهد على البراءة وهي على هذه الحال ما صدقها الناس ، ولكن هذا الكلام من عيسى وهو في المهد جلا كل ريب يقع في القلوب ، فانقسم الناس فيه بعد هذا ثلاثة أقسام :
قسم آمنوا به وصدقوه في كلامه هذا ، وفي الانقياد له بعد النبوة ، وهم المؤمنون حقيقة .
وقسم غلوا فيه وهم النصارى ، فقالوا فيه المقالات المعروفة ، ونزلوه منزلة الرب ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا .
وقسم كفروا به وجفوه - وهم اليهود - ورموا أمه بما برأها الله منه ، ولهذا قال تعالى : فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ مريم 37
ولما أرسله الله إلى بني إسرائيل آمن به من آمن ، وكفر به من كفر ، وجعل يريهم الآيات والعجائب ، فكان يصور الطين فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله ، وينبئهم عن كثير مما يأكلون ، ويدخرون في بيوتهم ، ومع ذلك فتكالبت عليه أعداؤه وأرادوا قتله ، فألقى الله شبهه على واحد من الحواريين أصحابه أو من غيرهم ، ورفعه الله إليه ، وطهّره من قتلهم ، فأخذوا شبيهه فقتلوه وصلبوه ، وباءوا بالإثم العظيم والْجُرم الجسيم ، وصدقهم النصارى أنهم قتلوه وصلبوه ، ونزّهه الله من هذه الحالة فقال :
- ص 270 - وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ النساء157
وقد قام عيسى في بني إسرائيل فبشَّر وأعلن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما جاءهم محمد الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم قالوا :
قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ النمل 13
كما قالوا في عيسى : فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ المائدة 110
* وفي هذه القصة من الفوائد أمور :
منها : أن النذر ما زال مشروعا في الأمم السابقة ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيه كلمة جامعة للصحيح النافذ منه للباطل
فقال : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه . البخاري
ومنها : أن من نعمة الله على العبد أن يكون في كفالة الصالحين الأخيار ؛ فإن المربي والكافل له الأثر الأعظم في حياة المكفول وأخلاقه وآدابه ، ولهذا أَمَرَ الله المربين بالتربية الطيبة المشتملة على الحث على الأخلاق الجميلة ، والترهيب من مساوئ الأخلاق .
ومنها : إثبات كرامات الأولياء ؛ فإن الله كرَّم مريم بأمور : يسَّر لها أن تكون في كفالة زكريا بعدما حصل الخصام في شأنها ، وأكرمها بأن كان رزقُها يأتيها من الله بلا سبب ، وأكرمها بوجود عيسى ، وولادتها إياه ، وبخطاب الملك لها بما يطمِّن قلبها ، ثم بكلامه في المهد ، فهذه الأخيرة جمعت كرامة وليّ ومعجزة نبي .
ومنها : الآيات العظيمة التي أجراها الله على يد عيسى ابن مريم : من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ونحوهما .
- ص 271 - ومنها : ما أكرم الله به عيسى بأن جعل له حواريين وأنصارا في حياته وبعد مماته في بث دعوته والنصر لدينه ، ولذلك كثر تابعوه ، ولكن منهم المستقيم ، وهو الذي آمن به حقيقة ، وآمن بجميع الرسل ، ومنهم المنحرف ، وهم الذين غلوا فيه ، وهم جمهور من يدعي أنه من أتباعه ، وهم أبعد الناس عنه .
ومنها : أن الله أثنى على مريم بالكمال بالصديقية ، وأنها صدقت بكلمات ربها وكتبه ، وكانت من القانتين ، وهذا وصف لها بالعلم الراسخ ، والعبادة الدائمة ، والخشوع لله ، وأنه اصطفاها وفضلها على نساء العالمين .
ومنها : أن إخبار الله للنبي بهذه القصة وغيرها مفصلة مطابقة للحقيقة من أدلة رسالته وآيات نبوته لقوله :
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ال عمران 44
موقع الاسلام الدعوي والارشادي
بأشراف فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز ال الشيخ