النفاق مراتبٌ وليس على مرتبة واحدة، وهذه حقيقةٌ يمكن لحظُها عند النظر إلى صفات أهل النفاق والمنافقين والذم الوارد في حقّهم؛ لأن بعض تلك الصفات مما يمكن أن يقع فيها المسلم وليس فيها إبطالٌ لأصل الدين أو جوهره.
فهناك نصوص أطلقت وصف النفاق على ممارسات وسلوكيات هي من قبيل الذنوب والأخطاء التي لا يخرج بها صاحبها من الإسلام إلى الكفر، ولكنها أعمال وسلوكيات يختص بها المنافقون لا يلزم أن يحكم بها على معتقد الشخص وباطنه، والذنوب –كما هو معلوم- داخلةٌ تحت المشيئة، إن شاء الله ذهب بها ومحا أثرها، وإن شاء: جازى بها وعذّب صاحبها.
من هنا يمكن القول أن النفاق الذي تكاثرت الآيات وتظافرت على ذمّه، وبيّنت كفر أصحابه واستحقاقهم أن يكونوا في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالى:
{إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا} (النساء:145)، إنما هو النفاق الذي يُعدّ من الكفر الأكبر، وليس من قبيل: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وغيرها من أمارات النفاق الأصغر أو –العملي- كما يُعبّر عنه بعض العلماء؛ ولذلك قيل إن النفاق : " نوعان: أكبر، وأصغر؛ فالأكبر: يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل، وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في الباطن منسلخٌ من ذلك كلّه، مكذب به".
وسنحاول أن نستعرض هذا النوع من النفاق، من خلال قولٍ مهم لشيخ الإسلام ابن تيمية، ذكر فيه ما يتعلّق بالنفاق الكفري، وهو نصٌّ مهم يبيّن ملامحه وصفاته، وهو قوله رحمه الله : " فمن النفاق ما هو أكبر، ويكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار؛ كنفاق عبد الله بن أبي وغيره؛ بأن يظهر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرّة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه. ونحو ذلك: مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله. وهذا القدر كان موجودا في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم وما زال بعده-؛ بل هو بعده أكثر منه على عهده؛ لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى. فإذا كانت مع قوّتها وكان النفاق معها موجوداً، فوجوده فيما دون ذلك أولى".
أوّل ما يلفت الانتباه هو التعبير عن هذا النفاق بالنفاق الأكبر، وقد ورد مثل هذا التعبير عن عدد من العلماء مثل الحافظ ابن رجب، والحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر، رحمهم الله تعالى، واختار آخرون أن يُعبّروا عنه بالنفاق الاعتقادي، كما قال الحافظ ابن كثير: "النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي، وهو من أكبر الذنوب"، ويشبهه قول ابن العربي المفسّر:" أصوله –أي النفاق- وهي قسمان، أحدهما: أن يكون الخبر أو الفعل في توحيد الله وتصديقه، أو يكون في الأعمال، فإن كان في التوحيد كان صريحاً، وإن كان في الأعمال كانت معصية".
وعلى الرغم من التقارب الظاهر بين القولين، إلا أن التعبير بالنفاق الأكبر هو الأقرب للصواب، ومردّ ذلك –كما ذكر المحقّقون- إلى أمرين:
الأول: لأن النفاق الأكبر غير مختصّ بالجانب العقدي فقط، بل هناك من الأفعال التي تكون سبباً في خروج صاحبها من الملّة، وهي من صفات أهل النفاق وأعمالهم، ولذلك حين ذكر القرآن صفات المنافقين ذكر منها استنقاصهم للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وسخريتهم بالمؤمنين، ومناصرتهم للكفار ونحو ذلك، وكل هذه الأمور أفعالٌ لا أقوال أو اعتقادات، وهذه الأمور وإن اقترنت غالباً بفساد اعتقادي إلا أن ذلك ليس بلازم.
الثاني: ليس كل نفاق اعتقادي يخرج من الملة، فإن حقيقة النفاق كمسلكٍ عام: المخالفة بين الظاهر والباطن، وحاصل الأمر أن النفاق يرجع إلى الاختلاف بين السريرة والعلانية، وهذا متحقّقٌ في أمورٍ جرى الاتفاق على عدم إبطالها للدين، وعلى إمكان صدورها من مسلم، كمثل ما يقع من يسير الرياء، فإن المرائي قد يعمل عملاً يُراد به في الأصل وجهَ الله تعالى، وشابهُ إرادة محمدةٍ عند الناس وثناءٍ منهم، وهذه الإرادة ليست من الأعمال، لكن صاحبها باقٍ على إيمانه.
ثم نرى في النصّ أن شيخ الإسلام ذكر جملةً من الأمثلة على ما يكون من النفاق الأكبر، واعتبرها الإمام محمد بن عبدالوهاب أقساماً لهذا النوع من النفاق، فقال: "فأما النفاق الاعتقادي فهو ستة أنواع: تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرّة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية بانتصار دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار".
وفي الحقيقةِ أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ليست من باب التقسيم الذي تعارف عليه المناطقة طلباً لاستيفاء تلك الأقسام وذكرِها جميعاً، وإخراج غيرها من تلك القسمة، بما اصطُلح عليه بأنه: "جامعٌ مانع"، بل هو مجرّد تمثيلٍ فقط وذكرٍ لبعض الصور التي يصدق عليها وصفُ النفاق الأكبر، ويمكن لحظ ذلك بالنظر إلى نصوصٍ أخرى تدلّ على علاماتٍ ظاهرةٍ تصدقُ على هذا النوع من النفاق، نحو ما هو مذكور في قوله تعالى:
{وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن* الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}
(البقرة:14-15)، ومعلومٌ أن الاستهزاء بالدين من نواقض الإسلام، والآيات إنما نزلت في المنافقين، وكذلك ما جاء في الصحيحين من قول النبي –صلى الله عليه وسلم- وصفاً لفتنة القبر:
(وأما المنافق أو المرتاب ،فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)
والريبة في الإسلام والشك فيه كفرٌ ولا شك.
ومما يعضد أن الأقسام المذكورة هي من باب التمثيل لا الحصر، أن بعضاً مما ذكره شيخ الإسلام يدخل في البعض الآخر، فتكذيب بعض ما جاء به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هو تكذيبٌ له، والمسرّة بانخفاض دين الرسول يلزم منها الكراهية بانتصار الدين الذي جاء به.
والآن يحسن الانتقال إلى الأنواع التي ذكرها شيخ الإسلام وعدّها من النفاق الأكبر، فجاء في كلامه أن من علامات ذلك: تكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الباطن، مع إظهار الإسلام والانقياد ظاهراً، ونجد هذه الصفة ماثلةً في قول الله جلّ جلاله:
{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون* اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون }
(المنافقون: 1-2)، يقول شيخ المفسّرين ابن جرير: " وهم في قولهم ذلك كَذَبة، لاستسرارهم الشك والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-.. ووعيد الله المنافقين بالعذاب الأليم؛ على الكذب الجامع معنى الشك والتكذيب"، ومقتضى الآية أن إخبارهم بشهادتهم على نبوّة محمد –صلى الله عليه وسلم- أنهم في إخبارهم هذا كاذبون؛ لأن حقيقة الكذب أن يخبر الإنسان بضد ما في قلبه، ومن قال شيئاً ثم اعتقد خلافه، فهو كاذب، وهو كذبٌ مبطلٌ للدين، كما جاء في قوله سبحانه:
{وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير* ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير} (فاطر: 25، 26).
ومن النفاق الأكبر: تكذيب بعض ما جاء به الرسول –صلى الله عليه وسلم-؛ لأن تكذيب ذلك البعض يتناقض مع مطلق الإيمان بصدقه عليه الصلاة والسلام، وما هو لازمٌ من التسليم بما جاء به وأنّه حق، فكيف يشهد أنه رسول الله، ثم يؤمن بأن بعض ما جاء به مخالفٌ للصواب؟ والإرسال والنبوّة تقتضيان عصمة من ابتعثه الله من الكذب والخطأ، فكان هذا التفاوت بين شهادة اللسان بالنبوة والرسالة، وبين اعتقاد الجنان بإمكان وقوع الكذب منه، هو نفاقٌ مخرج من الملّة، كما قال شيخ الإسلام: "الطعن في الرسول طعن في المُرسل، وتكذيبه تكذيبٌ لله تبارك وتعالى، وإنكار لكلامه وأمره وخبره، وكثيرٍ من صفاته".
ومن النفاق الأكبر: بغض الرسول –صلى الله عليه وسلم-، ذلك لأن محبّة النبي عليه الصلاة والسلام فرضُ عينٍ لا يتم الإيمان إلا بمحبّته حباً يفوق حب جميع البشر؛ لما في حديث الصحيحين:
(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده، والناس أجمعين). وفي رواية لأحمد: (ومن نفسه)،
فإذا كان كمال الإيمان مترتّباً على تفوّق محبّة الرسول –صلى الله عليه وسلم- في النفس على كلّ من عداه من الأهل والعشيرة والأحباب، فيكون بغضهُ مذهباً لأصل الإيمان، قال ابن الهمام: "كل من أبغض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقلبه كان مرتّداً" ووجه النفاق هنا: أنّه يُظهر للناس شهادته بالنبوّة والرسالة، مع إبطانه لما هو ناقضٌ لهذه الشهادة، ببغض المُرسَل إليه.
ومما يلحق بذلك، بغض ما جاء به الرسول –صلى الله عليه وسلم-، فإن المحبة شرط من شروط لا إله إلا الله، ويستلزم ذلك: محبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ومحبّته تكون لذاته ولما جاء به من الأحكام الشرعيّة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وحقيقته –أي الامتناع عن الانقياد للشرع- كفر؛ لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به، ويصدّق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقر بذلك ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق وأنفر عنه،.. وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع"، وهذا صحيح، ومن أمثلته ما جاء في قوله تعالى:
{ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم}
(محمد:9)، فالتعاسة والضلال وحبوط العمل ترتّب على بغضهم لما أنزله الله على رسوله، فكان دليلاً على نقضهِ لعروة الإسلام.
ووجه كون هذا البغض من النفاق: أن المنافق يمتثل ظاهراً لأوامر الله، فيُصلّي ويزكي ويأتي بالعبادات مع المسلمين، لكن قلبه امتلأ بُغضاً وكراهيةً لهذه العبادات بالرغم من كون الامتثال لها من شروط لا إله إلا الله، فهذا التباين بين الظاهر والباطن هو عين النفاق، وقد جعل الله تعالى هذه الكراهية من علامات أهل النفاق، وذلك في قوله تعالى:
{ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}
(التوبة:54)، وقوله سبحانه:
{ فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله}
(التوبة:81).
ومن النفاق الأكبر: الفرح والمسرّة بانخفاض دين الرسول –صلى الله عليه وسلم-، وكراهية انتصاره وعلوّه وتمكينِه، لأن المؤمن المستيقن من إيمانه ومن صحّة دينه يفرح بانتصار الدين الذي يعتنقه، ويُظاهر أهله ويواليهم، ويعاديه مخالفيه ويُبغضهم؛ لأنه يرى أنه دين الله الذي ارتضاه لعباده، فكيف يُسرّ بالمصائب التي تقع على أهل ملّته ويتمنّى من الأعداء أن يظهروا وينتصروا، فهو النفاق بعينه، والمخالفة الواضحة بين الظاهر والباطن، ومن الشواهد على هذه الصفة النفاقيّة ما جاء في قول الله عز وجل:
{لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون}
(التوبة: 48) فالمنافقون لظهور أمر الله ونصره لنبيّه كارهون، والآية تتحدث باتفاق أهل التفسير عن المنافقين، الذين دخلوا في الإسلام ظاهراً، ثم كلّما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم. ومن الآيات الدالة على هذه الصفة قوله تعالى
:{إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون}
(التوبة: 50)، يقول ابن حزم – رحمه الله -: ".. وأما الذي أخبر الله تعالى بأنه إن أصابت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيئة ومصيبة تولوا وهم فرحون، أو أنه إن أصابته حسنة ساءتهم فهؤلاء كفار بلا شك ".
ومن مظاهر النفاق الأكبر: كراهيّة انتصار الدين، والعمدة في ذلك قوله تعالى: :{إن تصبك حسنة تسؤهم }
(التوبة: 50)، فالمنافقون لا يريدون أن يعايشوا انتصارات المسلمين في جميع الميادين، سواءٌ في ذلك ميادين القتال والنزال، وميادين الدعوة والإصلاح، وميادين التعليم والتثقيف، وكلّما علتْ ألويةُ القبول والانتشار للإسلام، زاد غيظهم وحَنَقُهم، وهذا –كما يقول الشوكاني- ، وهذا من خبث ضمائر المنافقين وسوء أفعالهم، والإخبار بعظيم عداوتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين.
والحالُ أن من يسوؤه انتصار الدين وعلوّه، فهو كالمُستاء لانتصار الرسول نفسِه، لا فرق في ذلك، وإننا لنجدُ ذلك حين ننظرُ إلى الرابط اللطيف بين آيتين كريمتين:
{ إن تصبك حسنة تسؤهم}
و(التوب:50) وقوله سبحانه وتعالى
:{إن تمسسكم حسنة تسؤهم}
(آل عمران:120)، ووجهُ الاشتراك أن بُغض انتصار المسلمين ليس لجنسِهم أو عرقِهم أو لونهم، وإنما هو لمُعتقدهم ودينهم، فمن ساءه هذا الانتصار فهو بمثابة من ساءه انتصار الرسول نفسه، لأن المؤمنين هم أتباعُه وأولياؤه.
وأخيراً: فإن الواقع المُعاصر يشهد بوقوع كثير من الناس عن قصدٍ أو غير قصدٍ في هذه الصفات المُشينة، والمُباينة لمُقتضى الإيمان وصفات أتباعه، فلابد من الحذرِ منها وعدم الاستهانةِ بها، أعاذنا الله من النفاق والمنافقين. اللهم إن اصبت فمنك وحدك وإن اخطأت فمني ومن الشيطان |
|
|