بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ جليلِ النعم ، باعثِ الهمم ، ذي الجودِ والكرم ،
جعل لأهلِ القرآنِ مزيةً وأيُّ مزية ومنزلةً رفيعةً علية ،
ثم الصلاةُ والسلامُ التامانِ الأكملان على خيرِ البريةِ وأزكى البشرية ،
محمدِ بن عبدِ الله ، صلى الله على صحبهِ ومنْ وآلاه .
الوقتُ أنفسُ ما عنيتَ بحفظه *** وأراهُ أسهلَ ما عليكَ يضيعُ
خلق الله لعباده، وضَرَبَ لهم أَجَلاً في الدُّنيا؛ ابتلاءً واختبارًا لهم،
فهم في هذه الدُّنيا في مسابقةٍ مضمارُها العمر
فبانقضاء العمر يصلون إلى نهاية المضمار، والأوقاتُ سريعة الزَّوال،
تمرُّ أسرع منَ السَّحاب، وينقضي الوقت بما فيه،
فلا يعود منه إلاَّ أثره وحكم
وإن أَثَر العمل في الدُّنيا عائدٌ عليهم لا محالة؛
لهذا يُقال للسُّعَداء يوم القيامة
- جَعَلَنَا الله منهم :"كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ" الحاقة: 24،
ويُقال للأشقياء - أعاذنا الله من ذلك"ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ"غافر: 75
فالدُّنيا مَزْرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة،
فمَنِ استعمل فراغه وصحته في طاعة الله، فهو المغبوط،
ومَنِ استَعْمَلَهُمَا في معصية الله فهو المغبون،الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها المرض،
ولو مُتِّعَ الشخص بالصحة والعمر فَمَآَلُه الهَرَم، وهو مانع من كمال العمل.
فعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -:
أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يُسأل عن أربع خصال:
عن عمره:فيمَ أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟
وعن مالِه: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟
وعَنْ عِلْمِه:ماذا عمل فيه؟"؛ أخرجه التِّرمذي
وقد كان من قبلنا مِن سَلَفِ هذه الأمة وصالحيها لهم عناية بأوقاتهم
و يقول ابن الجوزي : "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته،
فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل،
ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل " .
و يقول الحسن البصري - رحمه الله -:
"يا ابن آدم، إنَّما أنت أيَّام، كلَّما ذهب يومٌ ذهب بعضُك"
و قال أيضا : "أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشدَّ حرصًا منكم على ديناركم ودرهمكم"
و نُقل عن ابن مسعود - رضي الله عنه -:
قوله"ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غرَبَت فيه شمسُهُ، نقص فيه أجلي، ولم يزدَدْ فيه عملي".
قال يحيى بن معاذ: " إضاعةُ الوقت أشدُّ منَ الموت؛
لأنَّ إضاعةَ الوقت انقطاعٌ عن الحقّ، والموتُ انقطاعٌ عن الخلق"
و إليكم هذه النَّصيحة الغالية من رجل عرف قيمة الوقت، وأدرك أهميته؛
فقد سَأل الفُضيل بن عِياض - رحمه الله - رجلاً، فقال له: كم عمرك؟
فقال الرجل: ستُّون سنة، فقال الفضيل: فأنت منذُ ستين سنة تسير إلى ربكَ،
تُوشك أن تصل، فقال الرجل: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون،
فقال الفضيل: مَن عرف أنَّهُ عبد لله، وأنَّه راجعٌ إليه،فليعلم أنهُ موقوفٌ ومسؤولٌ،
فليعدَّ للسؤالِ جوابًا، فقال الرجلُ: ما الحيلةُ؟
فقال الفضيل: يسيرة، تُحسنُ في ما بقيَ، يُغفر لك ما مضى،
فإنَّكَ إن أسأتَ فيما بقيَ، أُخذتَ بما مضى وما بقي.
تبقى المسألة معرفة قيمة الزمن، وشرف الوقت،
وإذا خلصت النية فالله يبارك،
هذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله في سنتين ونصف فقط
أحدث انقلاباً في حياة الناس، صار الناس في غاية الشغل في العبادة والطاعة،
وكانوا في عهد من قبله يسأل بعضهم بعضاً عن القصور، والبساتين،
والعمائر، والزراعات، والتجارات،
وفي عهد عمر صار الواحد يسأل الآخر عن الختمة، والحجة، والعمرة، والطاعة،
فالإنسان يمكن أن يفعل لنفسه ولغيره من النفع العظيم في وقت يسير إذا خلصت النية.
الحرصَ الحرصَ على الوقت، والبدارَ البدارَ كما جاء في الأخبار،
واستغلَّ وقت الشباب في الأعمال النافعة قبل المشيب،
فتقول ليت الشباب يعود، فيكون حالك كحال القائل:
بكيت على الشباب بدمع عيني *** فلم يفد البكاء و لا النحيب
ألا ليت الشـــباب يعود يـــــوما *** فــأخـبره بــما فعل المشيب
وكذلك ينبغي الانتباه لسوف، ومرض التسويف،
كما قال بعض السلف: كلما جاء طارق الخير صرفه بواب لعل وعسى،
فينبغي أن يسارع المسلم، أن يسارع الآن؛
لأن كلمة (عسى) و(سوف) لا تغني شيئاً،
بل ربما سوَّف وفاتت عليه الفرصة