كيفية الخلاص من الفتن
اجتهد كثير من الصحابة في التعرف على الفتن التي ستعصف بالأمة وتبين طريق النجاة والخلاص منها ، ومن هؤلاء بل في مقدمتهم حذيفة بن اليمان فقد صح عنه أنه قال : " إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة ، فيما بيني وبين الساعة " (17) . وقد كان حذيفة يكثر من سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفتن حتى لا يقع فيها ، ففي صحيح البخاري عن حذيفة قال : " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ، قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم ، وفيه دخن ، قلت : ما دخنه ؟ قال : قوم يهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر ، قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم قذفوه فيها . قلت : يا رسول الله : صفهم لنا. قال : هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا . قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " (18) .
وفي حديث العرباض بن سارية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالإسلام، وطاعة الإمام ، والتزام سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين المهديين من بعده ، فقد روى عبد الرحمن بن عمرو السلمي أنه سمع العرباض بن سارية يقول : " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقلنا : يا رسول الله ، إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ قال : " تركتكم على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ، ومن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وعليكم بالطاعة ، وإن عبداً حبشياً ، فإنما المؤمن كالجمل الأنف ، حيثما قيد ينقاد " (19) .
كيف يتصرف المسلم في الحروب التي تثور بين المسلمين :
أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم أمته إلى كيفية التصرف في مثل هذه الفتن التي تثور بين المسلمين ، حيث يخفى الحق ، وتضطرب الأمور ، فقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اجتناب الصراع والقتال في مثل هذه الحال ، والاعتزال في مكان ناء ، يرعى الرجل الغنم في قمم الجبال ، أو يجاهد الأعداء على حدود الدولة المسلمة ، فإن وصلت إليه سيوف المتحاربين ، فقد أمر بأن يمتنع عن الدفاع عن نفسه ، ولو كان في هذا هلاكه ، فقد روى لنا أبو بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها ستكون فتن ، ألا ثَمَّ ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من الماشي فيها ، والماشي خير من الساعي إليها ، ألا فإذا نزلت أو وقعت ، فمن كان له إبل فليلحق بإبله ، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه ، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه . قال : فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض ؟ قال : يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ، ثم لينج إن استطاع النجاء ، اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين ، أو إلى إحدى الفئتين ؟ فضربني رجل بسيفه ، أو يجيء سهم فيقتلني ؟ قال : يبوء بإثمه وإثمك ، ويكون من أصحاب النار " (20) .
وعن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن " رواه البخاري (21) .
وفي حديث أبي هريرة عند الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أظلتكم فتن كقطع الليل المظلم ، أنجى الناس منها صاحب شاهقة ، يأكل من رسل غنمه، أو رجل من وراء الدروب ، آخذ بعنان فرسه ، يأكل من فيء رمحه " (22) .
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر كيف يتصرف في الفتنة ، فقال له : " أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء (23) ، كيف تصنع ؟ قال : اقعد في بيتك ، وأغلق عليك بابك ، قال: فإن لم أترك ؟ قال : فأت من كنت معه ، فكن فيهم . قال : فآخذ سلاحي ؟ قال : إذاً تشاركهم فيما هم فيه ، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق من طرف ردائك على وجهك ، كي يبوء بإثمه وإثمك ، ويكون من أصحاب النار " (24) .
وقد احتج بالأحاديث التي سقناها وما أشبهها من لم ير القتال في الفتنة من الصحابة، " وهم كل من ترك القتال مع علي بن أبي طالب في حروبه ، كسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وأبي بكرة ، وغيرهم ، وقالوا : يجب الكف حتى لو أراد أحد قتله لم يدفعه عن نفسه ، ومنهم من قال : لا يدخل في الفتنة ، فإن أراد أحد قتله دفع عن نفسه ، وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين ، وحمل هؤلاء الأحاديث الواردة في ذلك على من ضعف على القتال، أو قصر نظره عن معرفة صاحب الحق " (25) .
وقال الطبري : " الفتنة أصلها الابتلاء ، وإنكار المنكر واجب على من قدر عليه ، فمن أعان المحق أصاب ، ومن أعان المخطئ أخطأ ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها " (26) . ولا شك أن تبين الحق والصواب في مثل هذه الظروف التي تقع فيها الفتن ، وتظهر فيها الأهواء صعب جداً ، والأقرب إلى السلامة هو البعد والاعتزال ، كيلا يصيب المسلمُ دماً حراماً ، ولا يؤذي مسلماً ، والله أعلم بالصواب . |
|