يتنازع الإنسان في هذه الحياة عاملاً الخير والشرّ، وكثيراً ما ينساق إلى أحدهما بدافع داخلي أو مؤثر خارجي. والدِّين من أهم أهدافه وقاية الإنسان من نزعات الشرّ ببيان ضرره والتحذير منه ودعوة الذين تورطوا فيه إلى الاستقامة تبعاً لما رسمه الله لعباده، فالاستقامة هي أقوى سبب للرقي الأدبي وما سيطرت هذه الرغبة في قوم إلّا صلح حالهم واستقر السلام فيما بينهم. والإنسان إذا لم تصاحبه الرغبة في الاستقامة ضعف إقباله على الخير، وأصبح هدفاً سهلاً للتورط في الآثام، لهذا نرى الإسلام أولى الاستقامة اهتماماً خاصاً، ودعا إليها بأسلوب شائق يستهوي الأنفس ويؤثر في أعمق أعماقها بما وعد المستقيمين من الأجر العظيم وحسن المثوبة في الدنيا والآخرة. قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (فصّلت/ 30-31). ويطمئنهم الله بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف/ 13). أي لا خوف عليهم من عذاب يوم القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم بعد مماتهم. وجاء رجل إلى الرسول (ص) فقال: أوصني يا رسول الله فأجابه الرسول بهذه الكلمة الموجزة الوافية: "قل آمنت بالله ثمّ استقم". إصلاح النفس: ومما يتوافق مع معنى الاستقامة إصلاح النفس، لأنّ التمادي في الشرّ يجر إلى أوخم العواقب على النفس الإنسانية وعلى المجتمع ولهذا وعد الله الذين يصلحون أنفسهم، بالغفران والرضى، قال سبحانه: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة/ 39). ويخاطب الله الناس جميعاً داعياً لهم لإصلاح أنفسهم: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأعراف/ 35). تزكية النفس: ومما ينسجم مع الاستقامة ما عبّر عنه القرآن أيضاً بتزكية النفس، ومعناها: الطهر من الأدناس، والسموّ عن النقائص، ووضع النفس حيث يطيب موضعها، ويرتفع قدرها، لتأخذ عند الله حظها من الرضوان، وبين الناس نصيبها من الكرامة. ولقد حث القرآن على تزكية النفس هذه ووعد بالفلاح من أخذ بها، فقال سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (الأعلى/ 14). وقال سبحانه في النفس الإنسانية: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10). وبيّن سبحانه انّ تزكية النفس لا يعود نفعها إلّا على صاحبها، فلهذا يجب الحرص عليها: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (فاطر/ 18). إنّ الاستقامة وإصلاح النفس وتزكيتها صفات تفتح باب الأمل للذين تورّطوا في الإثم لتغيير حياتهم إلى حياة أفضل، وتبعد عنهم اليأس من إصلاح أنفسهم، لأنّ اليأس إذا تمكن من نفوسهم جعلهم عنصر شرّ لا يمكن إصلاحه. إنّ هذه التعاليم تلخص كلّ مكتشفات علم النفس الحديثة التي تقول: إنّه لن يتسنى لنا الحصول على الشخصية الناجحة أو الخلق القويم عن طريق التأمل الباطني الصرف بل عن طريق تدريب النفس، أي تهذيبها وحكمها والسيطرة عليها. |
|
|