بهذا الدِّين لا بغيره
جحافل خيل عبس تغزو ذبيان مدة أربعين سنة من أجل
سباقٍ بين فرسين (داحس والغبراء)، ومثل هذه المدّة
تدور رَحى الحرب بين بكرٍ وتَغلب من أجل (ناقة البسوس)؛
فيهلك الحرث والنّسل، ويأكل الناسُ بعضَهم بعضاً
من أجل الأنانيات ورعونات النفوس.
هم العرب؛ جنسٌ في جِبلّته العِناد والحِدّة، يثورُ لأَتفه الأشياء
فيهدم في لحظة غضب مابناه في سنين،
إن استعرتَ بين جنبيه مشاعرُ التحدي طاش حَجرَه
وانتقم من كلّ شيء حتّى من نفسه.
جنسٌ ينتشي بالتفاخر والحماسة، ولو بلغت مبلغ المستحيل.
فها هو عمرو بن كلثوم يتفاخر بقبيلته حدّاً لا يصدّق، فيقول:
مَلأْنَا البَرَّ حَتَّى ضَـاقَ عَنَّـا وَظَهرَ البَحْرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا
إِذَا بَلَغَ الفِطَـامَ لَنَـا صَبِـيٌّ تَخِرُّ لَـهُ الجَبَابِـرُ سَاجِديْنَـا
جنسٌ، وصَفَه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بين يدي النجاشي بقوله:
((كنا قومًا أهل جاهلية، نعبدُ الأصنام، ونأكل الميْتَة،
ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار،
ويأكل القوي منّا الضعيف...)) (أخرجه أحمد في المسند).
وقال فيه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه
لعامل كسرى عندما سأله: من أنتم؟:
(نحن أُناسٌ من العرب، كنَّا في شَقاءٍ شديدٍ وبلاءٍ شديدٍ،
نَمَصُّ الجِلْدَ والنَّوى من الجوع، ونلْبَس الوَبرَ والشَّعرَ،
ونَعْبُد الشَّجرَ والحجرَ...) (أخرجه البخاري).
ولكي يسود هذا الجنس فتهابه الأمم، ويُحسب له حساب،
فلابد له من سندٍ قويّ يتمسّك به،
وإن هذا السند بلا ريب هو: (الدِّين).
أجل؛ إن فخر العرب ومجدهم، وصلاحهم ورقيّهم ليس بــ:
• تقليّد الغرب في سيئاته، في مظاهر إباحيته وانحرافه،
وتجاهله في حسناته، في همّته وانتاجيته..
فمهما استعار العربيُّ _الذي يشعر بعقدة نقص_
من الغربي لكنَته وسحنَته، ومهما أطال أظفاره
ومزّق ثيابه، فبامتحان قليل يُكتشف أنّه فارغٌ من الداخل.
• أن يخون بعضُهم بعضاً، فيلصق كلّ منهم بالآخر صفة
الإرهاب أو داعمه، ليس قناعة منه، بل إرضاءً للأعداء.
لقد سار (أبو رغال)؛ يدل أبرهة الحبشي الطريقَ إلى
الكعبة ليهدمها، فأصبح فيما بعد مسبّة التاريخ،
يرجمُ الناس قبرَه.. ولقد لقي (ابن العلقمي)
وزير المستعصم بالله _ آخر خلفاء بني العباس_
من هولاكو الذي وعده بالإمارة القتلَ بعد تدمير بغداد.
• التطاول في البنيان وعلوّ الأبراج، والتنافس في المطاعم
والماركات، ليكتحل بها عين السائح الأجنبي..
فلقد ابتلعت الأرض قارون ومُلكه في لحظة.
• الانبطاحية والتنازل عن المبادئ، حتى إن كان
على حساب الصديق والشقيق.. فإن الرأس إذا جَبُن
وتطأطأ في المرة الأولى، فسيبقى نظره في الأرض حتى يموت.
فهذا منطقُ علمانية العرب وجاهليتهم على السواء؛
ينبهرون بالغريب حتى وهو على فسقه، ويتبرمون
بالقريب حتى وهو على دينه ومبدئه،
ويجهلون بُعد الشّقة ما بين العربيّ وغيره،
وأن الفرق في أنّ غيره يعمل وينتج مع فسقه وانحرافه،
أما هو إن انحرف يئِس، وإن يئس ضاع و ضاقت عليه الأرض بما رحبت.
إننا أقوياء نحن العرب بالدين الذي أُكرمنا به، لا بغيره،
وهذه مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه للتاريخ:
(نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
إنه (الدين)؛ الذي انفجرت ينابيعه!
الدين الصحيح الذي رفع من شأن هذه الأمة
وعلّى من قدرها بين الأمم وجعلها خير أمة أخرجت للناس،
الدين الذي قال الله تعالى فيه:
{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}.
• ليس النسخة المزورة المتوحشة، التي تأخذ من الدين
نصوص الجهاد فتأولها على غير هدى،
وتأخذ منه نصوص الحدود فتشرع في تنفيذها خبط عمياء..
فتستخف بدماء المسلمين بإسم الإسلام نفسه..!!
• ولا تلك النسخة المائعة التي يطبّل لها العوام
والشهوانيون من الناس، فيظنون أن الدين هو مغنمٌ
من غير مغرم، يقطفون سعادة الدنيا والآخرة
وهم هجّع كسالى، ولا يرون حرجاً في التهاون
بالفرائض والأحكام واللباس.. وكلما سألتهم
عن التهاون والإفراط، قالوا لك:
(لا تتعصب..لا تعملها حنبلية..)
فكلا هاتين النسختين تزويراً للدين،
فالأولى تبعث على كراهيته والامتعاض منه،
والثانية تذيبه وتدمجه مع الهوى والشهوى..
وكلتاهما كُحل عيون الأعداء المتربصين بالإسلام والمسلمين.
إن هذ الجنس الذي نزل عليه الوحي،
فأبدل جفاوته لطفاً وقساوته رحمةً،
وأبدل تفرقه توحداً وتنازعه أُلْفاً،
وجعله خير أمّة أُخرجت للناس؛
لن تقوم له اليوم قائمة،
ولن يُحسب له حساب إلا برجوعه لمعين الرسالة،
يغرف منها _لا من غيرها_ صلاحَه ورقيَّه ومجدَه،
والواقع يُرى والتاريخ يشهد.
طه ياسين
كاتب سوري من مدينة حماة، . له مؤلفات منشورة منها:
(عيون الأمل) و(أحضان لاترحم)
وتحقيق كتاب (منهاج المتعلم) للغزالي،
وعدة بحوث ومقالات و مدير تحرير مجلة "إشراقات" .