آفات النفس
آفات النفس موضوع يحتاج بعض الصبر للنفس لكننا مع الأسف متعجلين، ومن يتعجل لا يتعدَّل ، لأنه لو سمع بعض الدروس من إخوانه الصالحين لمدة شهرين أو سنتين يريد أن يكون شيخاً وله مريدون.
ولأن آفات النفس ، ما زالت موجودة ، وطهارة القلب لم تتم بعد ، فمن الجائز أن تأتيه الوحلة في حب الشهرة ، أو حب الرياسة ، وهي وحلة لا يخرج منها أبداً إلا إذا أراد الله له الخير والنجاح والصلاح والفلاح .
والسالك في طريق الله عزَّ وجلَّ كل ما يملكه من كاميرات نفسية، وتلسكوبات قلبية، ورادارات روحانية؛ عليه أن يوجِّهها كلها إلى عالم نفسه، لأنه يريد أن يتجاوز نفسه فينال أنسه:{ تجاوز نفسك؛ تنل أنسك}
وهذا هو السرًّ أن الدعاة القدماء الحكماء، لم يكن الواحد منهم يوافق أبداً على الدعوة إلى الله، أو يقيم نفسه بين خلق الله، إلا إذا أقاموه، لأنهم إذا أقاموه أعانوه، لكن إذا أقام نفسه، حصل له لبسه.
إذن لا بد أن يطهِّر القلب أولاً فإذا أردت مثلاً ، أن تجمِّل هذا المسجد ماذا تفعل أولاً ؟
يجب أن تزيل ما على الحوائط أولاً ، وتجردها مما عليه :
التحلّي بالتخلِّي بعد محــــــــوي لمحلي
واتصالي بانفصالي عن سوى مجدي وأصلي
يعني يتصل بالحبيب الأعظم، أو بالصالح الذي يتربَّى على يديه، ولا شأن له بغيرهم، لكن سيتصل بفلان وفلان ، والثاني ، والثالث ، لا ينفع مثل ذلك، فإذا أراد الطريق:
فخلِّ الخلق خلفك ثم عامل بصدقِ ذات مولاك العلية
أي يضع الخلق خلف ظهره أولاً، فلا ينفع أن يكونوا محـل نظرك مع الله عزَّ وجلَّ، وسيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ضرب لأصحابه مثلاً عظيماً في هذا المقام، فقد كان على المنبر ويلبس خاتماً جديداً، ونزع هذا الخاتم من يده، وهو فوق المنبر، فقال أصحابه: ما هذا يا رسول الله؟، قال:
( نظرةٌ إلى الخاتم ، ونظرةٌ إليكم لا يجوز )
والخاتم رمز إلى الدنيا يعني لو كانت الدنيا كلها كخاتم في إصبعك، فلا يصحُّ أن تنظر إليها، ثم تنظر إلى حبيب الله ومصطفاة في نفس الوقت، وإلا تنل المقت.
فالطهارة أولاً، وبماذا أطْهُر؟
الإمام أبو العزائم رَضِيَ الله عنه وقف أمام البحر الأبيض المتوسط وكانوا يسمونه وقتها بحر الروم وقال لإخوانه ملمعاً ومشيراً إلى هذا المقام:
قليلك قد يطهِّر كل جسمي يطهِّر بحر روم كل رسمي
وقلبي لا تطهــره بحـــار يطهــــــره العلي بنيل علمي
إذن الذي يطهِّر القلب يا إخواني هو العلم المكنون، العلم الو هبي، لأنه ماء زمزم الذي يوضأ الإنسان ويطهِّره، وهذا ما قال فيه الشيخ بن العربي رَضِيَ الله عنه:
توضأ بماء الغيب يعني بعلم الغيب النازل على قلوب العارفين:
توضأ بماء الغيب إن كنت ذا سرٍّ
وإلا تيمَّم بالصعيد وبالصخر
يعني وإلا عليك أن ترجع للعبادات، والمجاهدات، إلى أن يمنَّ الله عليك بواحد من العارفين، يفيض الله عليك منه علوم أهل المعرفة، التي تطهِّر القلوب، وتجعلها جاهزة لحضرة علام الغيوب.
فماء زمزم هو العلم الو هبي المكنون، الذي يأتي في الحال.والعلم الو هبي يا إخواني لا منتهى لمداه، ولا حدَّ لمنتهاه، ويلزم أن آخذ منه جرعة أملأ بها أحشائي، وأعيش بها في كل حركاتي وسكناتي، أنفعل بها، وأتعايش بها، وأحيا بها، لكي يتجلى الله عليَّ بالأسرار التي يتجلى بها على أهلها.
لكن أسمع العلم وفقط، فلن يحدث شيء :
خذ ما صفا لك من نور الإشارة
كن حال السماع قويَّ العزم والدين
لكن تسمع من هنا، وتنسى بعد ذلك، لم تفعل شيئاً فإن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضاً، وهذه ليست طريقة العارفين فإنه يكتب لك الدواء، ولا يكتب لك صنفاً آخر حتى ينتهي الدواء الأول، ويرى أن النتيجة تحققت فيك، فيعطيك دواءاً آخر.
لكننا نسمع، ثم نسمع، وبعد ذلك فإما نسمع ونقول؟، وإمَّا نسمع وننسى؟، ومن يسمع ويقول فمن أجل أن يقولوا عنه أنه عالم عظيم، والآخر يسمع وينسى فإلى متى هذا يا إخواني؟ وقد قال الله لنا في ذلك:
( اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ )(24سورة الأنفال)
أي يحيي الحقائق التي بداخلك .والاستجابة هي الترجمة العملية، والترجمة السلوكية ، وهي التي فيها وبها الحياة.
لكن ستسمع علماً طوال حياتك، حتى لو مد الله في عمرك ألف عـام، فإن لم تترجم هذا العلم ترجمة سلوكية، فما فائدة العلم؟ لابد وأن تترجمه ترجمة سلوكية، ولو درساً واحداً مثل درسنا هذا ترجمه ترجمة سلوكية.
فإن لكل درس خزن من العلوم الوهبية، عند ذلك تشعر بالعلوم الوهبية؛ وينفتح لها صدرك، وتصب في قلبك، بإذن ممن يقول للشيء كن فيكون.
وفوراً قال صلَّى الله عليه وسلَّم:
( مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ (من العارف الرباني) وَرَّثَهُ الله عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (1)
إذن علىَّ أن أغسل القلب أولاً يا إخواني
اغسل فؤادك يا أخي، وأشعل النار على الأغيار التي فيه، فكل ما غير الله فيه أشعل النار لكي تحرقه، بم ( أولِّع ) (2) فيه ؟
أولِّع فيه بنار المحبَّة ، وأملأه بالمحبَّة التي آخذها من صدور الأحبة ، ونار المحبَّة إذا سلطت على القلب لا تبقي فيه لغير المحبوب حبَّة .
والمحبَّة هنا ليست للدنيا، أو للفانيات ، ولكن لله ولرسوله ، ولصالحي المؤمنين:
نار المحبة كم أذابت مهجتي و أخ المحبة لا يميل لغيرها
يا لائمين محمداً رفقاً به فهو الذي ذاق الجحيم وحرها
قسماً بمن أنا فيه ميت مغرم لو فُتِّحت أبوابها لقفلتها
وهذه المحبَّة تستلزم بعض الأمور وقد أخذ الإمام أبو العزائم رَضِيَ الله عنه وأرضاه أحبابه في يوم من أيام شهر رمضان ليزوروا سيدنا الحسين بعد منتصف الليل.
فمشى الأحباب متثاقلين، منهم من يغمض عينه، ومنهم من يجرًّ قدميه، وعندما ذهبوا إلى هناك رأى الإمام أهل اللهو، فقال لهم ( لأحبابه ):
{ أهل اللهو في لهوهم ، في سهرهم ، وطلاب الله عزَّ وجلَّ في أوقات التجلي ينامون عن محبوبهم }
وقال لخادمه وكان اسمه الشيخ أحمد السبكي رحمة الله عليه:
أحمد السبكي تنام وتدعي حبنا
نوم أهل القرب في الزلفى حرام
فهل من يريد الله عزَّ وجلَّ يا إخواني ينام في الوقت الذي فيه التجلي؟ والإكرام؟، والإنعام؟
فمن يحب واحدة، إذا قالت أريدك الساعة الثالثة صباحاً، لا يأتيه النوم انتظاراً لموعد حبيبته
وكيف ينام معشوقٌ ليلى وليلى تشتهي منه القيام
ومن يريد الله عزَّ وجلَّ، فإن الله
( يتنزل في الثلث الأخير من الليل ، وينادي أين أنت؟، وفي أي صف؟ وينادي هل من مستغفر ؟ فأغفر له ، هذا صف هل من مسترزق فأرزقه، هل من كذا؟ هل من كذا ؟)
لماذا لا يقول: هل من حبيب إلىَّ؟
لأن الأحباب لا ينتظرون نداءً، لأنهم جاهزون ومستعدون بغير نداء، فهو ينادي على المحجوبين والمبعدين، ومع ذلك أين أنت من هؤلاء القوم؟
فهل يصحُّ أن تكون نائماً ، وتطلب الغنائم ؟
ومن يريد الغنائم ؟، عليه أن يصحح العزائم ، ويطلب الوقت الذي فيه الفتح الذي اختاره الله عزَّ وجلَّ، وحرص عليه الصالحون السابقون واللاحقون.
حتى الحبيب الأمين قال له الله :
( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا )(79 سورةالإسراء)