هل جارك جائع؟ كان العرب في الجاهلية يعظمون حق الجار، ويحترمون الجوار، ويعتزون بثناء الجار عليهم، ويفخرون بذلك، وكان منهم من يحفظ عورات جاره ولا ينتهكها حتى قال عنترة بن شداد في ذلك شعراً: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مثواها وحينما جاء الإسلام أكد حق الجوار، وحث عليه، وجعله كالقرابة، حتى كاد أن يورث الجار من جاره كما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه))1، بل أمر الله - بعد أمره بعبادته - بالإحسان إلى الجار؛ فقال - تعالى -: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ}2. واشترط الشارع الكريم لتمام الإيمان بالله واليوم الآخر إكرام الجار، وحسن الجوار؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره))3، بل أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن من يؤذي جاره، ولا يُؤمَن من شروره وغوائله؛ منتف عنه الإيمان فعن أبي شريح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوايقه))4. وكان من أوليات دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بحسن الجوار كما جاء في قصة جعفر بن أبي طالب مع النجاشي - رضي الله عنهما - أن جعفر قال: "وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار"5. لكن من هو الجار الموصى به في قوله - تعالى -: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}؟ يقول ابن سعدي - رحمه الله -: "أي الجار القريب الذي له حقان: حق الجوار، وحق القرابة، فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف (وَ) كذلك (الْجَارِ الْجُنُبِ) أي الذي ليس له قرابة، وكلما كان الجار أقرب باباً كان آكد حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة، والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال، وعدم أذيته بقول أو فعل"6. فمن حق الجار على جاره أن يكون له عوناً في وقت شدته وحال فقره ومرضه وحاجته، ومن حقه عليه أن يفرح له عندما تحصل منحة تفرحه، ويحزن عندما تنزل به مصيبة تحزنه، فيفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، ويحفظه في أهله، ويقوم بالواجب في حال غيبته، وينصحه إذا زل، ويذكِّره إذا غفل، ويعلِّمه إذا جهل. ومن حق الجار على جاره الهدية والعون ولو باليسير فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسِن شاة))7، والفرسن هو ظلف الإبل أو الشاة، وقال لأبي ذر - رضي الله عنه -: ((يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعهد جيرانك))8. ونحن في هذا الشهر الكريم شهر رمضان المبارك نجد أننا في حاجة ماسة إلى النظر إلى أحوال جيراننا، خاصة وأن رمضان شهر البذل والعطاء، والجود والكرم، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود ما يكون في رمضان، والمشاهد في رمضان عند الكثير هذه الأيام - إلا من رحم الله - الإسراف في مائدة الإفطار، وربما ترمى الأجزاء الكبيرة من المائدة في سلة المهملات بعد أن يتم أكل الشيء اليسير من المائدة؛ في الوقت الذي تجد من بجوار صاحب هذه المائدة الدسمة التي رميت في الشارع يتضور جوعاً، ولا يجد ما يفطر به إلا ما يُتصدق به عليه، وقد علمنا جميعاً ما للجار من حقوق، وما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به من الإحسان إليه. وقد يكون هذا الجار من أهل التجمل الذي ذهبت نعمتهم، وبقيت عادتهم، فهم يعيشون في جلباب التجمل: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}9 يقول البغوي - رحمه الله -: "(يَحْسَبُهُم الْجَاهِل) بحالهم (أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي من تعففهم عن السؤال، أو قناعتهم يظن من لا يعرف حالهم أنهم أغنياء، والتعفف التفعل من العفة وهي الترك .... (لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) قال عطاء: إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاء، وإذا كان عندهم عشاء لا يسألون غداء، وقيل: معناه لا يسألون الناس إلحافاً أصلاً لأنه قال: من التعفف، والتعفف ترك السؤال، ولأنه قال: تعرفهم بسيماهم، ولو كانت المسألة من شأنهم لما كانت إلى معرفتهم بالعلامة من حاجة، فمعنى الآية ليس لهم سؤال فيقع فيه إلحاف، والإلحاف: الإلحاح واللجاج"10. فننظر في هذا الشهر إلى عظيم الأجر الذي جعله الله - عز وجل - لمن أطعم الطعام على وجه العموم؛ فكيف إذا كان الإطعام للجار الذي وصى به {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ ..}11.
فالله الله في الجار، واسأل نفسك دائماً وأنت على مائدة الطعام: هل جاري جائع؟ وما قوته الذي يقتات به؟ هل بات شابعاًَ أما جائعاً طاوياً؟ |
|
|
|